خرائط “حروب نتنياهو”

سيناريوهات عن شرق أوسط جديد وتحوّلات في المشهد الدولي الكبير

الحرب ضد غزّة: خطط قبل "الطوفان"
الحرب ضد غزّة: خطط قبل “الطوفان”

سننتظر كثيرا قبل أن يفرج التاريخ عن سرّ التحوّلات السريعة التي داهمت الشرق الأوسط منذ اكثر من عام. تابع المراقب أحوال المنطقة منذ عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023. كانت المسارات متدافعة متدحرجة. وكان من الصعب للمراقب ربط الأحداث في تفاصيلها داخل مشهد كليّ واحد. بدا لا حقا أن كل حدث هو جزء من خارطة  طريق ما زلنا نستقصي معالمها ونسعى لفهم خلاصاتها. بعض يتحدث عن شرق أوسط جديد وبعض آخر يذهب بعيدا ويتحدث عن مشهد دولي آخر.

بدا العالم الغربي مستميتا في التضامن مع إسرائيل بعد ساعات من عملية “الطوفان”. “زحف” قادة البلاد الغربية جميعهم باتجاه إسرائيل متضامنين داعمين بإفراط هستيري خطط الردّ والانتقام. أعطت هذه المشاهد لاحقا بنيامين نتنياهو وحكومته الحقّ |”الشرعي” في إرتكاب أبشع عمليات الإبادة في العصر الحديث. شنّ وجيشه حربا ضروس ضد قطاع غزّة، الذي يُعد الأكثر كثافة سكانية في العالم. لم يترك حجرا ولا بشر ولا قدرة لاحقة على استمرار العيش في غزّة، من دون التوقف منذ ما قبل “الطوفان”، عن شنّ حملاته في الضفة الغربية. بدا أن الرجل يعمل، على رغم الاعتراض هنا والانتقاد هناك و”المكالمات الساخنة” هنالك، تحت رعاية المجتمع الدولي برمته. صحيح أن المنظومة الغربية كانت متواطئة، لكن الموقف الخافت لدول عظمى، مثل روسيا والصين، يطرح أسئلة بشأن شمولية المجتمع الدولي في تغطية “حروب نتنياهو”.

من غزّة إلى لبنان

لم ينته نتنياهو من حربه ضد قطاع غزّة حين قرر فتح حرب جديدة ضد لبنان. بدا أن في الأمر عجالة من السهل اختراع تبريرات لها ومباشرة رسم خرائط جديدة في المنطقة. فتح القرار الإسرائيلي المحتمل بنقل الحرب من قطاع غزّة باتجاه لبنان، النقاش بشأن جديّة هذا التهديد وجدليته في داخل إسرائيل وفي علاقة تل أبيب مع واشنطن وحلفائها. وتركّز النقاش، بأبعاده العسكرية والسياسية، على الأغراض السياسية التي يهدف إلى تحقيقيها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، سواء في مقاربة “صفقة غزّة”، أم في الجدوى العسكرية لـ “حرب الشمال” لإعادة سكان تلك المنطقة إلى بلداتهم، أم في الرسائل التي يبعثها نتنياهو إلى الولايات المتحدة والإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض.

بدأت أعراض النقاش حين كشفت مصادر إعلامية إسرائيلية، في 14 أيلول (سبتمبر) 2024، أن رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، قرر توسيع العملية العسكرية على الجبهة الشمالية. ونقلت القناة 13 الإسرائيلية عن نتنياهو قوله إن إسرائيل “بصدد عملية واسعة وقوية في الجبهة الشمالية”. وأعتّبر هذا الخبر بمثابة تطوّر مهم في شأن قرار إسرائيل فتح جبهة جديدة في الشمال ضد حزب الله في لبنان تضاف إلى جبهة الجنوب في قطاع غزّة.

وكان من المفترض، وفق المتداول من المعلومات، أن يصادق مجلس الوزراء الإسرائيلي المصغّر للشؤون الأمنية، في 15 أيلول (سبتمبر)، على قرار يعتبر إعادة سكان البلدات الحدودية شمال إسرائيل إلى بيوتهم “هدفا من أهداف الحرب” الحالية، وهو أمر لم يكن على جدول أعمال تلك الحرب ولا من أهدافها.

وقد تحدّثت الأنباء لاحقا على أن هذه الجلسة ستعقد يوم الإثنين في 16 أيلول (سبتمبر). وكانت صحيفة معاريف الإسرائيلية نقلت عن نتنياهو في وقت سابق تأكيده إصدار تعليمات للجيش وجميع قوات الأمن بالاستعداد لتغيير الوضع بالشمال، دون ذكر تفاصيل أخرى.

نتنياهو-غالنت.. خلاف في غزّة تقاطع في لبنان:

أتى هذا التطوّر الجديد غداة حملة ضغوط ومزايدات مارستها الطبقة السياسية الإسرائيلية، داخل الحكومة وخارجها، بشأن ضرورة معالجة “أخطار الشمال” التي تمنع أكثر من 100 ألف من سكان المستوطنات من العودة إلى بيوتهم في مستوطنات شمال إسرائيل. وكان تمّ إجلاء هؤلاء وإعادة إسكانهم بعيدا من هذه الجبهة، في أعقاب بدء حزب الله، في 8 تشرين الأول (اكتوبر) 2023 إطلاق عملية “إسناد وإشغال” عسكرية دعماً لحركة حماس والفصائل في قطاع غزة بعد أن بدأت إسرائيل بشنّ الحرب هناك إثر عملية “طوفان الأقصى” في 7 تشرين الأول (أكتوبر) 2023.

وعلى الرغم من حساسية العلاقة الشخصية بين نتنياهو ووزير الدفاع الإسرائيلي، يوآف غالنت، وخصوصا في مسألة إطلاق حملة عسكرية ضد لبنان، أعلن غالنت جاهزية الجيش للتصعيد مع لبنان. وأشار غالانت، وفق ما ذكرت هيئة البث الإسرائيلية، إلى أن نتنياهو أكد، بمشاورات وزارية، أن توسيع التصعيد مع لبنان لن يؤثر على الضغط العسكري بغزة.

وكان غالنت قد قال في 10 أيلول (سبتمبر) 2024 إن القوات الإسرائيلية تقترب من إتمام مهمتها في قطاع غزّة وإن تركيزها سيتحول إلى الحدود الشمالية للبلاد مع لبنان. وأضاف غالانت أن “مركز الثقل يتحرك شمالا، ونحن على وشك استكمال مهامنا في الجنوب، لكن مهمتنا هنا لم تنجز بعد”.

جدل بيروت واشنطن وتل أبيب

بدت مسألة التحرّك العسكري صوب الشمال الإسرائيلي مثار جدل داخلي ساهمت في إذكائه مواقف معارضة من ضمنها بيني غانتس، عضو مجلس الحرب السابق، الذي أشار أن “الوقت لاستخدام القوة مع حزب الله وإعادة سكان الشمال بأمان إلى منازلهم قد حان”، مؤكدا في الوقت ذاته أن “حكومة نتنياهو المشلولة والمفككة تواصل إهمال سكان الشمال”.

وأشار مراقبون إلى احتمال أن يكون قرار عقد “الكابينيت” الأمني المصغّر الذي يفترض أن يصادق على قرارات بهذا الاتجاه في 16 سبتمبر 2024 كان متعمدا لكونه اليوم الذي يصل إليه آنذاك المبعوث الأميركي، آموس هوكستاين، حيث كان من المقرر أن ببحث التطورات في جبهة لبنان، وسط تحذيرات أميركية من تداعيات فتح جبهة جديدة ومخاطر اندلاع حرب مع حزب الله.

وكان منسق الاتصالات الإستراتيجية بمجلس الأمن القومي في البيت الأبيض، جون كيربي، قد قال إن زيارة هوكشتاين تأتي ضمن جهود إدارة الرئيس جو بايدن لمنع فتح جبهة جديدة مع حزب الله اللبناني.

من جهته، اعلن نائب الامين العام لحزب الله، الشيخ نعيم قاسم، في 14 أيلول (سبتمبر) أنه لا يمكن إعادة سكان الشمال “من دون أن تقف الحرب في غزة، وهذا محسوم بالنسبة الينا”.

واكد قاسم أن “جبهة المساندة مستمرّة في لبنان طالما أنَّ الحرب في غزة مستمرّة، ولا يوجد طريق لعودة

تعليق: هل كلف العالم نتنياهو رسم خرائطه الجديدة؟

المستوطنين في الشمال إلَّا بإيقاف الحرب على غزة”. وقال إن “التهديد بالحرب علينا في لبنان لا يخيفنا، وهذا التهديد لا يعدِّل موقفنا بارتباط جبهة الإسناد بوقف العدوان على غزة، وليس لدينا خطة للمبادرة في حرب لأنَّنا لا نجدها ذات جدوى، ولكن إذا شنَّت إسرائيل الحرب فسنواجهها بالحرب”.

خطط إسرائيل وأجندة نتنياهو:

يعتقد خبراء في الشؤون الإسرائيلية أن التطوّر الذي نُقل عن نتنياهو بشأن الجبهة الشمالية، محدود عمليا وسياسيا ويحمل وظائف ورسائل للداخل والخارج وفق الملاحظات التالية:

1-جري الكلام عن فتح جبهة الشمال قبل التوصّل إلى صفقة تنهي الحرب في قطاع غزّة. وكان يعتقد أن توجيه الأنظار صوب الشمال، بشراكة سياسية من الموالاة والمعارضة في إسرائيل، تخدم خطط نتنياهو في التخفيف من الضغوط الداخلية والخارجية للقبول باتفاق، وفق خارطة الطريق التي أعلن عنها الرئيس الأميركي، جو بايدن، والتي تشارك واشنطن ومصر وقطر في رعاية المفاوضات بشأنها.

2-قرار نتنياهو أتى متّسقا مع دعوات إسرائيلية من داخل حكومة نتنياهو ومن خارجها تطالب بنقل الجهد العسكري نحو لبنان للقيام بعملية عسكرية لوقف الأخطار التي تتهدد المستوطنين في شمال إسرائيل وتعيق عودتهم إلى منازلهم هناك. وبالتالي فإن نتنياهو استغل هذا الجدل وشارك به لتوظيفه في معركته السياسية الداخلية.

3-لفت مراقبون إلى أن ما نُقل عن نتنياهو لم يذكر كلمة “حرب” بل “توسيع العمليات العسكرية”، بما يعني أن إسرائيل ليست بصدد الإعلان عن حرب، كتلك التي عرفها لبنان في عامي 1982 أو 2006 مثلا، تشمل دخولا بريا إلى الأراضي اللبنانية. ورأى هؤلاء أن التقييمات العسكرية والجبهة الداخلية لا تشجع على خوض إسرائيل حربا كبرى مركبة ومعقّدة في وقت لا تعرف فيها كيفية إنهاء حربها في غزّة.

4-وجدت مراجع عسكرية تناقضا ما بين عزم الحكومة الإسرائيلية المصغّرة للشؤون الأمنية والسياسية على المصادقة على إدراج هدف إعادة مستوطني الشمال إلى بيوتهم من ضمن أهداف الحرب الراهنة، مع العزم على “توسيع

تعليق: لماذا تقرر فتح الحرب ضد لبنان؟

العمليات” العسكرية، وفق ما نقل عن قرارات نتنياهو. واعتبر هؤلاء أن المقاربة العسكرية الإسرائيلية لن يمكنها تحقيق أهدافها، بل ستعرّض المناطق الشمالية إلى مزيد من الدمار والأخطار. وأضافت هذه المراجع أن ما يحكى عن “القضاء” على قدرات حزب الله غير ممكن من خلال “توسيع العمليات”، ولا وجود لخطط أو مناخ في إسرائيل لشنّ حرب استئصالية كبرى.

حرب لبنان: الحسابات الأميركية:

لاحظ مراقبون لشؤون العلاقات الأميركية الإسرائيلية تصادما بين أجندة تل أبيب وواشنطن قد تفسّر توقيت الإعلان الإسرائيلي وأغراضه وفق الملاحظات التالية:

أ-يُعتقد أن الإعلان عن الأمر جاء عشية وصول المبعوث الأميركي، آموس هوكستاين، القادم أساسا للتباحث في شأن الجبهة اللبنانية الإسرائيلية. ولم يكن معروفا ما إذا كان الإعلان الإسرائيلي جاء منسّقا مع واشنطن قبل وصول موفدها، أو أنه جاء لممارسة ضغوط تستبق مهمة هذا الموفد وترفع من شروط نتنياهو وحكومته.

ب-يهمّ الولايات المتحدة في مرحلة الحملة الرئاسية لمرشحة الحزب الديمقراطي (الحاكم)، كامالا هاريس، عدم توسيع الحرب في غزّة، وخصوصا على الجبهة الشمالية، مخافة انفجار أوسع قد لا تكون إيران وفصائلها في سوريا والعراق واليمن بعيدة عنها.

ت-يُعتقد أن نتنياهو الذي يحاول عدم إنهاء الحرب في غزّة قبل موعد الانتخابات الرئاسية الأميركية في تشرين الثاني (نوفمبر) الحالي، ويعوّل على فوز المرشح الجمهوري، دونالد ترامب، أراد استغلال هذا التوقيت في محاولة لابتزاز الإدارة في واشنطن، في التلويح بحرب في لبنان، من أجل تخفيف ضغوطها وضغوط حلفائها الغربيين لإبرام صفقة غزّة.

ج-جزمت آراء لدبلوماسيين إسرائيليين سابقين أن إسرائيل لا يمكن أن تتجاوز حدودا معينة في عملياتها العسكرية في لبنان من دون تنسيق كامل مع الولايات المتحدة ودعمها الكامل. أضاف هؤلاء أن نتنياهو يدرك ذلك ويعرف أن الحسابات الأميركية-الغربية في ظل الصراع مع روسيا في أوكرانيا، والمواجهة الاستراتيجية مع الصين، والمقاربة المتوتّرة مع إيران لا يمكن أن تسمح لإسرائيل بشنّ حربها ضد حزب الله.

د-سبق للمبعوث الأميركي أن تفقّد في بيروت إمكانات التوصّل إلى اتفاق كليّ ينهي النزاع الحدودي البريّ ويتمّ من خلاله تنفيد القرار الأممي 1701، بما في ذلك انسحاب البنى العسكرية الثقيلة لحزب الله بعيدا من الحدود اللبنانية الجنوبية. وكانت نقلت مصادر أميركية أن أمر ذلك وارد في لبنان، على منوال ما تمّ بشأن الحدود البحرية عام 2022 بقبول كامل من قبل حزب الله. غير أن ذلك يستلزم وفق حرب غزّة لوقف النار على الحدود اللبنانية.

حرب بين إيران وإسرائيل: الممكن والمستحيل؟

العالم بين خريطتين

أثناء الحرب ضد لبنان حمل رئيس الحكومة الإسرائيلية، بنيامين نتنياهو، في 27 أيلول (سبتمبر) الماضي، أمام الجمعية العامة للأمم المتحدة، خريطتين. الأولى، بياض ببشّر به يفتح ممر ات عبور استراتيجي بين آسيا وأوروبا. الثانية، سواد ينذر بشؤمه سدّ الوصل بين القارات.

ولئن يتحدث الطموح الأول عن ممر اقتصادي بين الهند وأوروبا عبر الشرق الأوسط وقّعت دول مذكرة تفاهم بشأنه على هامش قمّة العشرين في أيلول (سبتمبر) 2023، فإن التحذير بعد ذلك يطال منطقة يسيطر عليها “هلال” إيران الشهير لإجهاض كل ذلك.

يتبرّع هنا نتنياهو ليضع مواهب إسرائيل في خدمة عواصم وأمم من خلال حربه ضد قطاع غزّة منذ عام وتلك التي باشرها ضد لبنان، بإيقاع دموي مكثّف منذ أسابيع. ولئن يتوسّل الرجل ترقية حساباته لتطال حسابات استراتيجية كبرى لدول كبرى، فإن في حراك الجيش الإسرائيلي ما قد يشي بأن رجل إسرائيل القوي لا ينهل الكلام من عدم.

وكان يسهل استنتاج الإفراط في تنميق المعادلات الدبلوماسية في المواقف الصادرة عن العواصم القريبة والبعيدة المعنيّة مباشرة بالصراع الذي فجّره “طوفان الأقصى منذ أكثر من عام. أظهرت جلُ العواصم استنكارا للحدث وتضامنا مع إسرائيل، وقد يكون ذلك مفهوما رغم الطابع الهستيري لهذا التأييد والدعم والتضامن. أظهرت العواصم الغربية جميعها بقيادة واشنطن، التصاقا مع المصاب الإسرائيلي برّر ومهّد ارتكاب إسرائيل للفظائع في قطاع غزة. لكن تدرّج العمليات العسكرية لاحقا، يقود إلى ما بات مسلّمة بأن إسرائيل تمارس ما هو متاح ومسموح ومدعوم ويخدم أجندات متعدّدة.

نتنياهو في خدمة العواصم

لم تكن حركة “حماس” تتمتع بعلاقات ودّ مع جلّ بلدان العالم العربي. كانت جزءا من الانقسام العام بشأن مسؤولية الإسلام السياسي عن خراب “ربيع” العرب بعد عام 2011. وكانت جزءا من انقسام المنطقة بشأن برامج إيران وعقائدها وسلوكها المزعزع للاستقرار في المنطقة وفلسفتها الميليشياوية في قيادة السياسة الخارجية. وفيما هرع النظام العربي الرسمي، من خلال “جامعته” إلى استنكار الحرب في غزّة ودعم ضحاياها وإعادة المطالبة بقيام دولة فلسطينية، فإن نتنياهو وصحبه كانوا يقرأون في حربهم أن المنطقة، بأجندات بلدانها جميعا، لن تعود إلى منطق الحرب ولن تعود عن مشروعها للسلام، ولم تكن معنيّة بمشاريع “الجهاد” التي تجد من إيران مصار مدد وتحفيز.

لم يكن “محور المقاومة” الذي تقوده طهران مشروعاً عربيا في صياغته التاريخية وفي أنماطه الفصائلية إلا جزءا من الأدوات الضاربة لإيران في المنطقة. عملت طهران، عبر أذرعها، التي للصدفة، وهي من مشارب نقيضة، اكتشفت فلسطين وضرورات التوق إلى تحريرها. باتت القدس وجهة يقسم الحوثيون في اليمن والعراق وسوريا أنها هدفها ومقصدها حتى لو عن طريق مدن وسبل لا يمكن أن تصل يوما إليها. حتى الفلسطينيون انقسم جسدهم وتصدّع بنيانهم بين قطاع وضفة وبين مدرستين ومنهجين لا سبيل لتقاطعهما. وإذا ما تشنّ إسرائيل حروبها ضد “المحور” فهذا شأنها معه وفي سياق حربها مع إيران الخارجة عن سياقات الدائراتين العربية والإسلامية.

شنّت إسرائيل حروبا تجد لها في صمت العواصم قبولا ومن علامات الرضى. شنّت هجمات ضد الحوثيين في اليمن لم تجرؤ عليها دول كبرى. أنشأت الولايات المتحدة في 18 كانون الأول (ديسمبر) 2023 تحالفا من عدّة دول تحت مسمى “حارس الازدهار” لحماية الملاحة في البحر الأحمر. ومع ذلك لم تجد واشنطن إلا لندن شريكا لضرباتها العسكري المحسوبة ضد مواقع جماعة الحوثي في اليمن، وإن حدث فله معايير مقيّدة لا تعرفها حروب إسرائيل الراهنة.

وحين تقصف إسرائيل القنصلية الإيرانية في دمشق في الأول من نيسان (أبريل) الماضي، وتفجّر منشأة تخصيب اليورانيوم في نطنز عام 2021، وتقتل “أبو القنبلة النووية” محسن فخري زاده عام 2020 وتسطو على أرشيف البرنامج النووي عام 2018، فذلك من علامات ضربات تصبّ تماما في حسابات واشنطن وحلفائها الغربيين لمواجهة انتفاخ إيران وتورّم برنامجها النووي وتمدد نفوذها على “طريق الهند أوروبا” أو حتى في “طريق الحرير” العزيز على قلب الصين.

“معالجة” ملف إيران

سواء كان توقيت حرب إسرائيل ضد حزب الله استنتاجاً لاتّساق إيراني، تتدافع مظاهره بذهول منذ انتخاب مسعود بزشكيان رئيسا ورواج الحديث عن الانفتاح على العالم الغربي، أم كان مقدمة محتملة لصدام قادم مع إيران على النحو الذي قد تستشرفه ضربات إيران الصاروخية في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2024ء، فإن نتنياهو يتطوع في خدماته لاستدراج الدعم وربما العروض والانخراط داخل خطوط الخرائط الجديدة والأرجح استباقها.

ولا يتعلّق السياق بغرب لصالح شرق بل بالشرق والغرب معا. وقد يجوز هنا التساؤل بشأن انخفاض لهجة بكين التي سبقت مستويات علاقاتها مع إسرائيل ما قيل أنه اتفاق استراتيجي مع إيران وقد يجوز هنا، في التعليق على هذه

لماذا باركت واشنطن اغتيال زعيم حزب الله

“اللحظة” الإسرائيلية التي تسود المنطقة منذ “طوفان الأقصى” التساؤل عن ارتباك ما تستنكره موسكو وتستهجنه لياقة منذ حرب غزّة وصولا إلى حرب لبنان. كما التساؤل عن مدى منافع نيران إسرائيل ضد شبكة مصالح إيران في سوريا في تدعيم حساب الأرباح الروسي في هذا البلد.

كان واضحا أن نتنياهو الحاقد على قيام إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي الأسبق، باراك أوباما، بإبرام اتفاق فيينا لعام 2015 المتعلّق بالبرنامج النووي الإيراني، يريد فتح الملف من جديد ومعالجته على طريقته. كان نتنياهو وراء تحريض الرئيس الأميركي الجمهوري السابق، دونالد ترامب، على إعلان انسحاب الولايات من الاتفاق عام 2018. وكان وراء فرض واشنطن “عقوبات تاريخية، حسب تعبير ترامب، ضد إيران. فالبرنامج ذاهب إلى إنتاج قنبلة نووية، وفق تقديرات، مدير وكالة المخابرات الأميركية، وليام بيرنز، في 8 تشرين الأول (اكتوبر) الماضي، وتقديرات، رافائيل غروسي، مدير الوكالة الذرية للطاقة الذرية قبله بعدة أشهر.

الحرب في حسابات انتخابات أميركا

اختار نتنياهو أن يخوض حروبة عشية الانتخابات الرئاسية الأميركية. لا يحب بايدن ولا يحب نائبته وخليفته المحتملة الديمقراطية، كامالا هاريس. لم يبخل الثنائي الأميركي بالتأييد والدعم لإسرائيل ولحربها في غزّة منذ عام تحت عنوان “حقّ إسرائيل في الدفاع عن نفسها”. ووفق هذا العنوان برّرت واشنطن عملية اغتيال أمين عام حزب الله، السيّد حسن نصر الله، واعتبارها “تحقق العدالة لضحاياه. ومع ذلك فإن نتنياهو يميل إلى المنافس الجمهوري، دونالد ترامب، ومستعد للمساهة في تعبيد طريقه نحو الرئاسة، وهو أمر لاحظه السيناتور الديمقراطي كريس مورفي ولم يستبعده مستشار الأمن القومي السابق جون بولتون.

منح ترامب الرئيس إسرائيل اعترافا بالقدس عاصمة وبالجولان جزءا من أراضي البلاد. أطلق الرجل صهره ومستشاره، جاريد كوشنر، يعبث في خرائط فلسطين ويحيلها مربعات أمنية في خدمة إسرائيل، وتجرأ على تقديم الأمر بصفته “صفقة قرن”. لكن فوق ذلك، فإن ترامب الذي هبط على السياسة من عالم العقارات ولم يُعرف عنه باعا في علوم الاستراتيجيا استجاب لهمس نتنياهو وأعلن عام 2018 قرار سحب بلاده من اتفاق فيينا لعام 2015 بشأن البرنامج النووي الإيراني.

خبرت إيران ترامب منذ ذلك القرار. تلقت من إدارته صفعة “عقوبات تاريخية”، وانتظرت بصبر مغادرة منصبه، وعوّلت كثيرا على خصال خليفته بايدن. ورغم أن الرئيس الحالي لم يفِ بوعده بالعودة للاتفاق بمرسوم كما غادر سلفه الاتفاق بمرسوم، ورغم تعثّر جولات من المفاوضات للاهتداء إلى تسوية ترمم الاتفاق وتعيد إنعاشه، إلا أن طهران بقيت تميل لإدارة ديمقراطية ما زالت متأثرة بأوبامية “حنونة”، وتسعى لإبعاد “كابوس” عودة ترامب إلى البيت الأبيض.

وفق حسابات دقيقة إسرائيلية إيرانية ذات أغراض متناقضة عاش الشرق الأوسط، لا سيما في ميادين فلسطين (ضفة وقطاع) ولبنان وربما “ساحات” أخرى أسابيعها الماضية. واشنطن لا تريد حربا شاملة لدواعي على علاقة بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، ولدواعي الحملة الانتخابي للمرشحة هاريس. وطهران التي اضطرت حرجاً لإظهار مخالبها وتنفيذ ردّ صاروخي ضد إسرائيل، ما فتأت تردد عدم رغبتها بالحرب الكبرى وتعوّل على “حكمة” الأميركيين لضبط الردّ الإسرائيلي المضاد. نتنياهو ما فتئ يعد أن يكون ردّ إسرائيل مكلفا تدفع فيه إيران “ثمن خطئها”.

واضح أن ما بين طهران وواشنطن تخاطب واتصال لم ينقطع عبر مسقط تارة وعبر ممثلية إيران في الأمم المتحدة في نيويورك تارة أخرى. وواضح أيضا أن بين العاصمتين مصلحة مشتركة في عدم عودة ترامب إلى قيادة الولايات المتحدة. لكن الواضح أيضا أن نتنياهو كان ممسكا بخيط ابتزاز عالي المستوى يقيس به مستوى الردّ “الحتمي” على إيران. يريد نتنياهو ردا يكون نوعيا موجعا مختلفا عن ذلك الذي ردّت به على هجمات 13 نيسان (أبريل) 2024  الإيرانية (انتقاما لقصف القنصلية في دمشق). لكنه أيضا كان يريد ردّا لا يستفزّ إدارة بايدن ويضمن استمرار تدفق الأسلحة الاستراتيجية لأي صدام كبير محتمل مع إيران، وأن يقدم في الوقت عينه هدايا انتخابية لحليف الجمهوري الحميم.

يستفيق العالم هذه الأيام على مشهد متشظ تصعب قراءته. من السهل شنّ الحروب ومن الصعب إنهاؤها. وفيما النظام الدولي عاجز عن حلّ أي صراع في العالم من أوكرانيا إلى السودان مرورا باليمن وليبيا وغيرها، فإن “حروب نتنياهو” بدت داهمة مركّبة متشابكة مع خرائط المصالح في العالم أجمع. هناك صمت ساهم في الإطاحة بغزّة. وصمت آخر يعبث بلبنان. وصمت ثالث قد يرعى الفوضى الشاملة. والأرجح أن الغرف السوداء تحيك مسارات خبيثة تجد فيها الدول جميعها، الإقليمية منها والدولية، فوائد ومنافع تفسّر مشاهد النأي بالنفس وانتظار مرور العواصف قبل الحصاد.

لم ينته نتنياهو من حربه ضد قطاع غزّة حين قرر فتح حرب جديدة ضد لبنان. بدا أن في الأمر عجالة من السهل اختراع تبريرات لها ومباشرة رسم خرائط جديدة في المنطقة. فتح القرار الإسرائيلي المحتمل بنقل الحرب من قطاع غزّة باتجاه لبنان، النقاش بشأن جديّة هذا التهديد وجدليته في داخل إسرائيل وفي علاقة تل أبيب مع واشنطن وحلفائها. وتركّز النقاش، بأبعاده العسكرية والسياسية، على الأغراض السياسية التي يهدف إلى تحقيقيها رئيس الحكومة، بنيامين نتنياهو، سواء في مقاربة “صفقة غزّة”، أم في الجدوى العسكرية لـ “حرب الشمال” لإعادة سكان تلك المنطقة إلى بلداتهم، أم في الرسائل التي يبعثها نتنياهو إلى الولايات المتحدة والإدارة الديمقراطية في البيت الأبيض.

سواء كان توقيت حرب إسرائيل ضد حزب الله استنتاجاً لاتّساق إيراني، تتدافع مظاهره بذهول منذ انتخاب مسعود بزشكيان رئيسا ورواج الحديث عن الانفتاح على العالم الغربي، أم كان مقدمة محتملة لصدام قادم مع إيران على النحو الذي قد تستشرفه ضربات إيران الصاروخية في 1 تشرين الأول (أكتوبر) 2024ء، فإن نتنياهو يتطوع في خدماته لاستدراج الدعم وربما العروض والانخراط داخل خطوط الخرائط الجديدة والأرجح استباقها.

وفق حسابات دقيقة إسرائيلية إيرانية ذات أغراض متناقضة عاش الشرق الأوسط، لا سيما في ميادين فلسطين (ضفة وقطاع) ولبنان وربما “ساحات” أخرى أسابيعها الماضية. واشنطن لا تريد حربا شاملة لدواعي على علاقة بمصالح الولايات المتحدة الاستراتيجية، ولدواعي الحملة الانتخابي للمرشحة هاريس. وطهران التي اضطرت حرجاً لإظهار مخالبها وتنفيذ ردّ صاروخي ضد إسرائيل، ما فتأت تردد عدم رغبتها بالحرب الكبرى وتعوّل على “حكمة” الأميركيين لضبط الردّ الإسرائيلي المضاد. نتنياهو ما فتئ يعد أن يكون ردّ إسرائيل مكلفا تدفع فيه إيران “ثمن خطئها”.