زرادشت : نبيّ الفرس الّذي أغوى العالم بتعاليمه

الزرادشتية : الأسطورة المتنقلة بين الخير والشّر وعدالة السّماء الحاسمة.

يقول نيتشه: “إن زرادشت يمتلكُ من الشّجاعة، ما يفوق شجاعة كل المُفكرين مُجتمعين.التّكلم بالحقائق، واتقان الرماية، تلك هي الفضيلة الفارسيّة”.

وقد اختار نيتشه شخصية زرادشت في كتابه الشّهير:” هكذا تكلم زرادشت”، من ثقافة بلاد فارس واندمج فيها كليّاً، فكان يتكلم أحياناً بلسانه وتارةً على لسان النبيّ الّذي يُمثل الخير والقيّم الساميّة.

  الحوار بينهما كان يؤدي غالباً إلى التأمل والمعرفة، وصولاً إلى بعض الخلاصات المجتمعية، إذ أنّ زرادشت الذي غادر الزمن والمكان العام إلى عزلته، استطاع الوصول إلى الإنسان الأعلى والتمييز بين الخير والشّر، وهو ما يُعبّر عنه الفيلسوف بارتقاء الإنسان بفكره لمستوى الحكمة التي تُميّزه عن الحيوان من خلال الفضيلة والأخلاق والعقل، وغيرها من المصطلحات التي تُقرب الإنسان من طاقة الكون العليا.

فمن هو زرادشت النبيّ؟ وهل يعبد الزرادشتيون النّار، كما يُشاع عنهم ؟ أم أن ما يُروى في الكواليس يختلف عن مشاع الواقع؟

نعم، يُقدس الزرادشتيون النّار، إذ يربط معتنقيها بين النّار والشّمس نتيجة التأثر ب” مثيرا” إلٓهة الشّمس الفارسيّ. فالنّار ترمز للنور مقابل الظلمة أو الخير مقابل الشّر.

ويُشاع عن هذه الدّيانة بأنها تعبد النار، لكن الأخيرة لم تكن بالنسبة للزرادشتيين القُدامى سوى رمز للإله،على عكس العصور اللاحقة التي شُيّدت فيها المعابد المليئة بالصور والتماثيل، المزودة بمواقد النار خِلافاً  لتعاليم زرادشت الذي كان يرفض رسم الملائكة وصناعة التماثيل.

وهنا يحضرُني قولٌ للفيلسوف الفرنسيّ باشلار في سياق حديثه عن النّار في كتابه المُلهم ” التحليل النفسيّ للنّار”:

” لا تعرف الحياة الزمنية للنّار، سوى نادراً جداً جداً طمأنينة الأفقيّ، النّار دائماً، تبعاً لحياتها الخاصة، بمثابة انبثاق، حين سقوطها، تغدو النّار دفئاً أفقيّاً. السكون داخل الدفء الأنثويّ”.

النار بوظفيتها الحالمة بحسب باشلار، ودلالاتها القصوى هي نفسها نارزرادشت التي تبعث في النفوس القدرة على الحياة والتطوروالاستمرار وفهم الحياة وتقبل الخيبات، لأنّ الوصول إلى عمق السّماء يكمن عبر فسحات من النور المقدس.

كذلك ماهيّة الخالق بحسب سورة النور تردف أهمية هذا العنصر في الأديان:

اللَّهُ نُورُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكَاةٍ فِيهَا مِصْبَاحٌ الْمِصْبَاحُ فِي زُجَاجَةٍ الزُّجَاجَةُ كَأَنَّهَا كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبَارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لَا شَرْقِيَّةٍ وَلَا غَرْبِيَّةٍ يَكَادُ زَيْتُهَا يُضِيءُ وَلَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نَارٌ نُورٌ عَلَى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشَاءُ..”.

يعتقد الزرادشتيون بأن الروح تهيم لمدة ثلاثة أيام بعد الموت، قبل أن تنتقل إلى العالم الاخر،كذلك فإنّهم يؤمنون بالحساب،  وبأن الصالحين سيخلدون في الجنّة إلى جانب زرادشت، في حين أن الفاسقين سيخلدون في النّار إلى جانب الشياطين.

تُعتبر الزرادشتية من أقدم الدّيانات في العالم، وقد ظهرت في بلاد فارس. وتُعرفُ أيضاً بالمجوسية الزرادشتية،وتُعد أيضاً فلسفة دينية آسيوية.

بناء على تعاليم مؤسسها زرادشت، فإن علم الكون مزدوج للخير والشّر في إطار علم الوجود التوحيديّ وعلم الأمور الأخيرة، الّذي يتنبأ بالانتصار النهائيّ للخير على الشّر.

وبالتّالي فهم يُمجدون إلٓه الحكمة والخير، المعروف باسم ” أهوافردا”، باعتباره الكائن الأسمى وهو في صراع أزليّ مع اله الشّر ” أهريمان” ومن سماتها الأساسيّة: التوحيد، الإيمان بالإرادة الحرّة، الجزاء بعد الموت، تصوّر الجنّة والجحيم، الملائكة والشياطين،من بين مفاهيم أخرى ميتافيزيقية تعلو على النظم الدّينية والفلسفية . بما في ذلك الأديان الإبراهيمية والغنوصية والبوذية الشمالية والفلسفة اليونانية.

وهم يُمجدون أيضاً الحقيقة والحق، القوة الإبداعية الداعمة للكون، ويعتقدون بأن البشر مسؤولون عن اختياراتهم في نهاية الأمر. وبأنّه لا شر ينبع من الإله وهو يتعاطى في عالم المواد المرئية.

وكانت الأخيرة بمثابة  دولة للإمبراطوريات الإيرانية القديمة، لأكثر من ألف عام. ولم يضعف نفوذها إلّا في القرن السابع الميلاديّ، كنتيجة للفتح الإسلاميّ لبلاد فارس، والذي أدّى إلى اضطهاد الزرداشتيين.

وحالياً تعيش أقليات منهم في الهند وأميركا الشّمالية، ويبدو أن عددهم آخذٌ في الانخفاض.

إن نصوص ” الآفستا” من أهم النصوص الدّينية، والتي تتضمن كتابات زرادشت والمعروفة أيضاً باسم ” الجاثاس”، وهي قصائد طقوسية غامضة، تحدو مفاهيم الدين، وتحتوي خدمة العبادة الرئيسية للزرادشتية الحديثة” أهورامزدا” وهو الخالق الأسمى.

تقول الأسطورة أن الزرادشتية ظهرت في القرن السادس قبل الميلاد،لرجل بسيط في من سكان أذربيجان، ويُقال أيضاً تًركمانستان،أو شمال إيران لتُبشره بأنّه سيولد له طفلٌ سيكون نبيّاً واسمه ” زرادشت” ، ورغم كل محاولات السّحرة للتخلص منه، حماه الرب الأعلى من مختلف المكائد المُبرمة.

ولم يستسلم الشاب يوماً لأيٍّ من إغراءات الشيطآن. إذ رفض السلطة الأرضية لصالح رسالته الدّينيّة.

 أمّا الرواية الثّانية، فتتحدث بأنّ زرادشت كان كاهناً وثنياً، لكنّه انشق عن جماعته بعد أن نزل عليه وحي من السّماء في عمر الثلاثين. وبالتّالي أصبح نبيّاً بعد أن عرج إلى السّماء بصحبة أحد  الملائكة لرؤية “أهورامزدا”، لكنّه لم يلق من بيئته سوى الاضطهاد والرفض.

ولم يفلح في إتمام رسالته سوى بعد التّعرف إلى ” غوشتانب”، وهو حاكم إقليميّ، وقد دارت مناقشات صعبة وحاسمة بينه وبين كهنة القصر، وبعد انتصاره عليهم بالحجة والبراهين، آمن الحاكم بنبوته، وبدأ الدين الجديد بالانتشار.

إن تعاليم زرادشت تظهر من خلال “الأفيستا”، أي البناء القويّ، وقد كُتب بماء الذهب. وقد أتلف معظمه الاسكندر الأكبر،فلم يتبق سوى ربعه وهو يعالج نشأة الكون وشعائر العبادة ونصوص في التأويل والشريعة. مع العلم أنّه  لم تعد تُعرف النصوص الحقيقية من الدّخيلة.

وبالنسبة لأسطورة الوجود، فتعتقد الديانة الزرادشتية، بان الإله “أهورامزدا”لم يكن سواه في الوجود، فاختار أن يوجد روحين توأمين هما “سبينتا مايينو” و”انغرا مايينو”، وقد منحهما حريّة الاختيار، فالأولى اختارت الخير ودُعيت بالروح القدس، والثّانية اختارت الشّر ودُعيت ” بالروح الخبيث”. ثم بدأ الصراع بينهما. وانبثقت لاحقاً عن “أرومزدرا” كائنات روحانية قدسية لدعم الروح القدس وذلك عن طريق الفيض من روحه، وهكذا انقسم العالم بين الملائكة والشياطين، وبحسب الأسطورة خلق “أهورامزدا” العالم الماديّ ليكون ساحةً لهذا الصراع، وذلك على ستّ مراحل زمنية ثم أوجد آدم ” ماشيا” وحواء ” ماشو” ليكتمل الصراع بين آدم وعالم الشياطين .

أمّا الكون بحسب زرادشت فهو مقسم إلى دورات للصراع الإلهي بين الخير والشّر، يظهر خلاله مخلصون.

تتضمن الزرادشتية أداء الصلاة لخمس مرات في اليوم، تُرافقها عملية تنظيف تشبه الوضوء للوقوف في حضرة الله وتلاوة مقاطع من تراتيل “الغاثا”.

أمّا مصطلح ” المجوس” الذي أطلقه العرب للدلالة على الكهنة ” الموغان”، في الدّيانة الفارسية السابقة، والذين كانوا منظمين وتوسعت سلطتهم، لدرجة أنّ الديانة نفسها، نُسبت إليهم، فسُميت بالدّيانة المجوسية.

ويبدو أن زواج المحارم كان سائداً في تلك الحقبة، وهو مبارك من الإله ويطرد الشيطان، والهدف منه خدمة العشائر والمجتمع، إذ يؤدي إلى ظهور نسل نظيف، وبالأخص عند الطبقات الحاكمة والمثقفة. وكان سائداً أيضاً أن الرجل يمكنه التنازل عن امرأته لأخ له في الدّين،إضافةً إلى تعدد الزوجات، والتمييز بين الزوجة السيّدة والزوجة الخادمة،ويمكن للرجل أن يتخلى عن إحداهنّ لرجل وقع في الفاقة لكي تعينه على الحياة من خلال العمل. المرأة التي كان عليها خدمة الرجل والمجتمع من خلال جسدها.

ومع دخول المسلمين، بطُلت هذه العادة التي يُحرمها الإسلام ويعتبرها إثماً كبيراً.

” إذا هلك قيصرُ فلا قيصر بعده” قولٌ أخرجه البخاريّ ومسلم، وقد تحققت نبوءته، إذ اغتيل كسرى الثّاني على يد ابنه، الذي فشل في الحفاظ على الحكم، فانتصر المسلمون في معركة القادسية، وبذلك اندثرت الدّيانة الزرادشتية، وفرّ جزء من الكهنة إلى الهند.

يبدو أن الخير والشّر وجهان لعملة واحدة،تماماً كالحياة والموت، الحب والكره، الخيط الرفيع الذي يجمع المتناقضات في قلب الإنسان تحت جسد واحد، يهيم في عالم خائف من كثرة الأسئلة وقلة الإجابات .

” لقد رأى زرادشت في الصراع القائم بين الخير والشّر، الدولاب المُحرك للأشياء، فَترجمة الأخلاق ميتافيزيقيّاً، على أنّها طاقة وسبب وهدف في حدّ ذاته، من صنيعه”.

إن اختيار نيتشه لزرادشت ليس من قبيل الصدفة أو المفارقة، لأن النبيّ الحقيقيّ هو شاعر وفيلسوف ومعتمر في كهف، ينزل عليه الوحيّ كجريان النهر في الدم، و لتفسير هذه الظاهرة لا بدّ من ارتقاء العقل والروح بعيداً عن الواقع واليابسة، إلى أمكنة جديدة لم تطأها النفوس الضعيفة وغير القادرة على تسجيل موقف حقيقيّ من الوجود وتجلياته المختلفة.