الصنعة والارتجال في الأدب بين الماضي والحاضر… وقفة وتأمل

روى الزبيدي في معجمه أنّ معنى ارْتَجَلَ الكَلاَمَ تَكَلَّمَ به من غير أن يُهَيِّئَهُ. وجاء في القاموس المحيط أنّ ارتجل خُطبة إذا أنشأها. وذهب صاحب المعجم الوسيط الى ان ارتجل َالْكَلَام ابتدعه بِلَا روية. فيما جاء في مقاييس اللغة انه يقال اقتَضَبَ فلان الحديثَ، إذا ارتَجَله، وكأنَّه كلامٌ اقتطعَهُ منْ غير روِيّة ولا فِكْر.

ومن ذلك نعلم ان الارتجال في اللغة هو البديهة او إصدار الكلام من غير تهيئة وتحضير.

وقد عرف الارتجال بلاغيا بأنه (صدور الكلام عن قائله دون إعداد سابق؛ وهو كلام ينطلق به لسانه دون أن يكون قد أنفق وقتاً وجهداً في التفكير فيه أو في صياغته).

من أجل ذلك اختار الكثير من النقاد ان الارتجال يميل الى السهولة والانصباب كونه ينساب سريعا من غير جهد أو تعب.

والارتجال نقيض الصنعة كون الأخيرة تشير الى التروّي  للدلالة على كون صاحب الكلام قد نظر فيه ودققه قبل ان ينطق به.

وعلى هذا فالارتجال يدلّ على العفوية والبديهة أمّا الصنعة فتدل على التكلف والتعب للوصول الى الألفاظ والمعاني.

وعليه فإنّ الطبع خير من التطبّع كون الحقيقة المتجذرة في النفس تثير مكامن الصدق والمشاعر والأحاسيس كما تنبئ عن قدرة المتكلم وإمكاناته اللغوية والبيانية.

ومنذ البداية كان الشعر عند العرب أبياتا مفردة تترجم دواخل القائل على السجية والارتجال فلا يكون هناك سبب لها سوى تفاعل النفس والطبع مع الأمور والأحداث؛ حتى تعاظم هذا الأمر فأصبح في الارتجال شيء من الصنعة والتكلف؛ ومن هنا بدأ الصراع بين السجية والتصنّع وشتان ما بينهما. نعم لا نقول ان التصنع لا يمثل دواخل النفس أبدا لكنه لا يعبر عن سجيتها. وقد نالت القدرة على الارتجال إعجاب الناس على الدوام لأنها لا تتاح إلا لقلة قليلة منهم.

وقد زخر عصر ما قبل الاسلام بالارتجال كون اللغة العربية سليمة لم يشبها لكنة أعجمية أو لحن.

ورد أن ابن حلزة اليشكري أنشد معلقته كاملة ارتجالا والتي يقول فيها:

آذَنَتنا بِبَينِها أَسماءُ

رُبَّ ثاوٍ يُمَلُّ مِنهُ الثَواءُ

آَذَنَتنا بِبَينِها ثُمَّ وَلَّت

لَيتَ شِعري مَتى يَكونُ اللِقاءُ

بَعدَ عَهدٍ لَها بِبُرقَةِ شَمّا

ءَ فَأَدنى ديارَها الخَلصَاءُ

فَمَحيّاةٌ فَالصَفاحُ فَأَعلى

ذي فِتاقٍ فَغَاذِبٌ فَالوَفاءُ

فَرياضُ القَطا فَأَودِيَةُ الشُر

بُبِ فَالشُعبَتانِ فَالأَبلاءُ

الى أن يقول:

فَتَنَوَّرتُ نارَها مِن بَعيدٍ

بِخَزارٍ هَيهاتَ مِنكَ الصلاءُ

غَيرَ أَنّي قَد أَستَعينُ عَلى الهَ

مِّ إِذا خَفَّ بِالثَوِيِّ النَجاءُ

ومن أوضح الأدلة على الارتجال في الأدب قديما الخطب التي كان العرب مفوّهين بها. ومن أشهر نلك الخطب ما قاله إمام الفصاحة والبلاغة في الارتجال علي بن أبي طالب؛ الذي ترك لنا تراثا ضخما من الحكم والخطب والأقوال.

ومن أمثلة أقواله وخطبه مرتجلا ما نقل عامرالشعبي قال: تكلّم أميرالمؤمنين عليه السلام بتسع كلمات ارتجلهنَّ ارتجالاُ فقأن عيون البلاغة وأيتمن جواهرالحكمة وقطعن جميع الأنام عن اللحاق بواحدة منهن؛ ثلاث منها في المناجاة، وثلاث منها في الحكمة، وثلاث منها في الأدب. أمّا اللائي في المناجاة، فقال: إلهي كفى بي عزَاً أن أكون لك عبداً، وكفى بي فخراً أن تكون لي ربّاً، أنت كما أحبّ فاجعلني كما تحبّ. واللائي في الحكمة، فقال: قيمة كلّ امرئ ما يحسنه، وما هلك امرئ عرف قدره، المرء مخبوء تحت لسانه. واللائي في الأدب: امنن على من شئت تكن أميره، واستغن عمّن شئت تكن نظيره، واحتج إلى من شئت تكن أسيره.

ومن بديه القول ان الارتجال غلب على الصنعة في عصر ما قبل الإسلام (الجاهلي).

ويؤكد ابن قتيبة في (الشعر والشعراء) أن التكلف والجهد الذي يتضح في شعر المتكلِّفين، إنما يكون بعد انتهاء عملية النظم، وليس أثناءها. وهو بعد يعرّف الشعر المتكلف بأنه (وإن كان جيدًا محكمًا، فليس به خفاء على ذوي العلم؛ لتبينهم فيه ما نزل بصاحبه من طول التفكر وشدة العناء ورشح الجبين وكثرة الضرورات وحذف ما بالمعاني حاجة إليه، وزيادة ما بالمعاني غنًى عنه). مؤكدا أن (المطبوع مَن سمح بالشعر، واقتدر على القوافي وأراك في صدر بيته عجزه، وفي فاتحته قافيته، وتبينت على شعره رونق الطبع ووشي الغريزة، وإذا امتُحِن لم يتلعثم، ولم يتزحر).

وهذا الأصمعي لم يخف تأييده شعر الارتجال على الصنعة؛ ناقلا عن الجاحظ في بيانه قوله (زهير والحطيئة وأشباههما عبيد الشعر؛ لأنهم نقّحوه ولم يذهبوا فيه مذهب المطبوعين. والارتجال الذي ينم عن قريحة شعرية ملهمة تبعد بصاحبها عن أن يراجع شعره وينقّحه ويهذبه ويثقفه).

ولا يخفى على اللبيب الحاذق ان الجاحظ يذم التكلف والتصنّع الذي ينصرف إلى قهر النفس على قول الشعر مع إعمال العقل وكدّه.

إلّا ان الباقلاني يذهب الى ضرورة التمييز بين الطبعة والصنعة قائلا ان (الشيء إذا صدر من أهله وبدا من أصله، وانتسب إلى ذويه، سلم في نفسه وبانت فخامته وشوهد أثر الاستحقاق فيه، وإذا صدر من متكلّف وبدا من متصنع، بان أثر الغربة عليه وظهرت مخايل الاستيحاش فيه، وعرف شمائل التحيّر منه).

وقد أوردت كتب التراث ان الارتجال نما وكثر في العصر العباسي.

وممن اشتهر من الشعراء آنذاك فيه أبو نؤاس. روي انه التقى ذات مرة بالخصيب في المسجد واستفزه حيث اتهمه بأنه لا يروي الشعر ولا يستطيع قوله ارتجالا فرد عليه أبو نؤاس من فوره قائلا:

منحتكم يا أهل مصر نصيحتي

ألا  فخذوا من ناصحِ بنصيب

رماكم أمير المؤمنين بحية

أكول لحيات البلاد شروب

فإن يك باقي سحر فرعون فيكم

فإن عصا موسى بكفّ خصيب

وكذا أجاد أبو الأسد في ارتجاله مادحا الإمام موسى الهادي:

يا خير من عقدت كفّاه حُجرته

وخير من قلدته أمرها مُضرُ

ولا ننسى المتنبي مالئ الدنيا وشاغل الناس. روي عنه تباهيه بأشعاره المرتجلة ومنها قوله:

أي محلّ أرتقي

أي عظيم أتّقي

وكلُّ ما خلق الله

وما لم يخلق

محتقر في همّتي 

كشعرة في مفرقي

ومن ظريف القول ما روي عن الشاعر ابن طباطبا قوله أبياتا يذكر فيها أسودين وقفا بباب ابن رستم:

رأيت بباب الدار أسودين

ذوي عَمامتين حمراوين

كجَمرتين فوق فحمتين 

قد غادرا الرَّفض قريري عين

جدّكما عثمان ذو النورين

فما له أنسل ظُلمتين

ومما نقل في سرعة البديهة ما جرى بين الكندي الفيلسوف والشاعر أبي تمام، وكان الكندي معروفا بمناكفته لأبي تمام في كثير من الأمور.

ورد ان أبا تمام شاعر المعتصم كان ينشِد قصيدة بمديح ابن الخليفة يقول فيها :

إقدام عمرٍو في سماحة حاتمٍ

في علم أحنفَ في ذكاء إياسِ

وكان الكندي في المجلس فقاطعه قائلا: أنت تُشَبّه ابن أمير المؤمنين بصعاليك العرب. فأطرق أبو تمّام قليلا وأجابه مرتجلاً:

لا تُنكِروا ضربي له مَن دونَه

مثلاً شروداً في الندى والباسِ

فالله قد ضرَبَ الأقلّ لنورِه

مثلاً من المشكاة والنبراسِ

وبعدما لم تعد للعرب سلائق لغوية معهودة من بلاغة وفصاحة وبيان وحضور بديهة وسرعة خاطر؛ حيث فسدت ألسنتهم وكثر لحنهم، ماتت أو قلّت ملكة الارتجال عندهم؛ ولعلّ مردّ ذلك إلى العجمة وانتشارها بعد اختلاطهم بالأعاجم فضلا عن سيطرة الأخيرين عليهم.

ولم تكن العصور المتأخرة بأفضل من التي سبقتها؛ إذ ازداد اللحن وتفشت العامية المليئة بالعجمة وعم الجهل جرّاء الحقب الاستعمارية الطويلة؛ فإن تك في العصر العباسي مجموعة كبيرة من الشعراء عرفوا بالارتجال وأبدعوا فيه، إلّا ان العصور المتأخرة لم تعرف إلّا مجموعة بسيطة جدا منهم.

ورد عن شاعر العرب الأكبر محمد مهدي الجواهري عند تكريمه بجائزة العويس في دُبَي. إذ افتتح الحفل الشاعر العويس بأبيات ترحيبية بالجواهري مشيدا به ومقدرا منزلته. فما كان من الجواهري إلّا ان قام من مجلسه مرتجلا أبياتا على نفس الوزن والقافية قال فيها:

من الإمارات من شُطآن شارقةٍ

على الخليج تعالى صاعداً قَمَرُ

يدور في فَلَكِ الآداب محوَرُهُ

فتى عُوَيسٍ وأندادٌ له غُرَرُ

سُمرُ الجباه مصابيحٌ وجوهُهمُ

يفاخِرونَ بما شادوا وما قَدَروا

وكلّما عندنا نحنُ الأُلى ادُّكِروا

منّا عليكَ سلام الله يا قَمَرُ

تعد قضية الطبع والصنعة من القضايا النقدية التي أسهب النقاد فيها قديما وحديثا.

عن ابن رشيق انه قال ان (المطبوع هو الأصل، الذي وضع أولا وعليه المدار. والمصنوع وإن وقع عليه هذا الإسم فليس متكلّفا تكلّف أشعار المولدين، لكن وقع فيه هذا النوع الذي سمّوه صنعة من غير قصد… فاستحسنوا ومالوا إليه بعض الميل، بعد أن عرفوا وجه اختياره على غيره، حتى صنع زهير الحوليات على وجه التنقيح والتثقيف، يصنع القصيدة ثم يكرر نظره فيها خوفا من التعقب).

ومن طريف القول في الصنعة ما جاء في تحدّي الأصمعي لأبي جعفر المنصور بقصيدة بعد أن ضيق الأخير على الشعراء عطاءهم؛ فقد كان يدّعي انه سمع كل قصيدة لأنه كان يحفظ القصيدة من أول سماع وكان لديه غلام يحفظها من المرة الثانية وجارية تحفظها من المرة الثالثة. ففطن الأصمعي لذلك فنظم قصيدة صعبة جاء فيها:

صَوْتُ صَفيرِ البُلْبُلِ

هَيَّجَ قَلْبِيَ الثَمِلِ

المَاءُ وَالزَّهْرُ مَعَاً

مَعَ زَهرِ لَحْظِ المُقَلِ

وَأَنْتَ يَاسَيِّدَ لِي

وَسَيِّدِي وَمَوْلَى لِي

فَكَمْ فَكَمْ تَيَّمَنِي

غُزَيِّلٌ عَقَيْقَلي

قَطَّفْتُ مِنْ وَجْنَتِهِ

مِنْ لَثْمِ وَرْدِ الخَجَلِ

فَقَالَ بَسْ بَسْ بَسْتَنِي

فَلَمْ يَجُد بالقُبَلِ…

الى ان يقول:

فَوَلْوَلَتْ وَوَلْوَلَتُ

وَلي وَلي يَاوَيْلَ لِي

فَقُلْتُ لا تُوَلْوِلِي

وَبَيِّنِي اللُؤْلُؤَ لَي

ومن محاسن الخطب المرتجلة خطبة تقي الدين عبد الرحمن بن عبد الوهاب وهي من خطب الجُمَع قال فيها (يا ابن آدم أفق لانقضاء مدّتك، فما بقي إلاّ القليل، وأرِقْ عليها دماء مقلتك، فإنّ الدموع لا تشفي الغليل، وابقَ ما بقيَ من يعينك على الأسف فيما سلف والحزن الطويل، وحقّق في نفسك وطويّتك إنّك في الدنيا كعابر سبيل، واشفق على نفسك من حلول منيتك، وما تأهب إلاّ تزوّدت للرحيل، وألصق خدّك بالتراب لأجل خطيئتك كما يفعل الخاضع الذليل، وأخلق بك باكياً على بليّتك، ومن أحقّ منك بالبكاء والعويل، وثق بأنّك إن صدقت الله في سريرتك أعانك الله وأغاثك بكرمه الجزيل، فمزّق أثواب لهوك وغفلتك رداء عفوه الجميل)

وإذا ما أردنا الفصل في الأقول كلها نقول ان الطبعة أفضل من الصنعة حقا. لكن لكل مقام مقال ولكل وقت ظروفه وبيئته ومتغيراته. فاذا كان الارتجال في العصر الجاهلي طبيعيا كونه ضمن قواعد السليقة والكلام المستعمل؛ إلّا انه غير ذلك في العصور التي تلته والتي وصفت بضعف السليقة والذائقة الصورية واللغوية؛ بعد أن أصبحت اللغة ضعيفة ودخلتها العجمة ومال اللسان العربي الى اللحن. فلا عجب إذا تصنّع الشاعر أو الكاتب والأديب فلكل عصر سليقته وطبيعته وظروفه.