عصر الإنحطاط العربي المعاصر

يطرح عصر العولمة معضلات الشعور اليومي بالقلق والضياع والإنتفاء وحتّى التفاهة أحياناً أعني أسئلة النهايات التي ترافقنا لتدمينا بالسؤآل عن الهويّة بمعنى ال”هو”. هذه ال”هو” مخزن طافح بالذكريات والصور والحنين القاتل إلى الذوات الوطنية والقومية والأرض والتاريخ والتفاصيل المائعة تذوب في التيه فتصبح الأسئلة حبال المقاصل.

أفكّر بالعرب في الدنيا مسكونين بما تقدّم، بعدما تمّ تدمير الأنظمة والأوطان وشُرّعت أبوابها المخلّعة على شروخات المذاهب والمدارس والإجتهادات المستوردة الملتهبة  للقبض مجدّداً على ملامح أزمنة النهضات في ضوء الحظوة بكنوز السماء بمعنى الدين وكنوز الأرض بمعنى النفط والغاز.

إنّنا وكأنّنا مشدوهين أمام عالمين لم ولن يفهما الإسلام بعد وأعني بهما الغرب أوّلاً والمسلمون الذين صقلهم الغرب ثانياً في مدارسه أعني العقول الإسلاميّة التي لم تخرج من الماضي وفي خدمة آباء العولمة وتقديسهم للحروب الخارجية لتُثمر حروباً داخلية همّها تدمير بلادنا وثرواتنا وتراثنا الحضاري الجديد والقديم ، سواء أكانت تلك المظاهر نتاج الثقافة الإسلامية أو غربية رفضت الغرب لكن تمّ شحذها وتصديرها نحو أرض العرب والمسلمين وعنوانها: الإرهاب.

يمكننا الجزم بأنّ بذرة “الثورات الربيعية” المستوردة والدوّارة منذ العراق بعراقته في ال2003 وصولاً إلى لبنان وسورية اليوم أسّست لمشاعيات التطرّف وخلّفت جاذبيّات ملحوظة ربط التدمير بالدين وقد بات ممكناً إختراق المجتمعات بالأفكار المتناقضة وبالإختلافات والإجتهادات الباقية وصولاً إلى السخط والتهديد الذي يبلغ الذرى نحو عواصم الغرب الذي لا ينام حيال هجرات المسلمين من الشرق والجنوب نحو الغرب.

وهنا سؤآل:

لماذا النقزة من فكرة “النهايات”؟

لثلاثة أسباب ، أوّلها أنّ “النهايات” في تفسيراتها توصل المجتمعات المتديّنة وغير المتديّنة مباشرةً بالحركات الألفية Millénarisme وأهوالها والتي لازمت محاولات التغيير في ما حقّقته الأديان أو ما سبقها ويستمرّ معها  إذ تضع البشرية يدها على قلبها كلّما إقتربت الأزمنة من لحظة عبور المئة أو ألف سنة، وللمصادفة العابرة، فإنّ اللحظات التي تقوى فيها الأصفار عند ترتيب الأزمنة وتساوقها تكون مصحوبة غالباً بالأزمات والصراعات والحروب.

السبب الثاني وهو الأهمّ، أربطه بمصطلح “النهايات” الذي لازم الإقرار بفشل الفكر البشري في حل المعضلات والأسرار وإيجاد أجوبة مقنعة على الأسئلة الفلسفية الصعبة. وجد هذا الجزء المظلم والحزين من الكلمة ضالته لأنّه تمّ توثيقه بالأديان كلّها التي تقول “نهاية الإنسان” بالموت وانتظار الخلاص الوشيك الذي سيعمّ الأرضفي إستعادة ل”الفكرة الرواقية”، وهي دون الفلسفة بتقديري، بتجلياتها السلبية عندما حسمت بأن العالم سينتهي ب”بنار تلتهمه”، وما يتبقّى من التاريخ لا يتجاوز تدوين ما كان حاضراً عند طي صفحاته. نعثر على القناعة ذاتها عند الهنود إذ يظهر”سيفا” المنتظر مطهّراً العالم من أدرانه عبر”السنوات الكبرى”. ونجده أيضاً في فكرة “المخلّص” في إيران و”ميترا” منظم الكون ومنقذه الذي ليس هو سوى “الإفشتا الايرانية” القديمة الذي سيعود يوماً ليُضرم ناراً تلتهم الكون. ونجده مع بوذا أيضاً “مخلص العالم” عندما يتّخذ سحنة البشر بعدما  يعمّ الجور. وللمصطلح جذوره الفكرية الضاربة أيضاً في العهد القديم حيث الاعتقاد بمجيء المسيح المخلص المنتظر في التوارة أو عودته آخر الأزمنة عند قيامته لدى المسيحيين. ومثله ظهورالإمام المهدي المنتظر عند الشيعة الذين يعتقدون بأنّه سيعود ليملأ الأرض عدلاً بعدما ملئت جوراً، ومثله كذلك “ماني” الذي قال بأنّه المسيح الثاني الحامل ل “ديانة الخلاص”.

أمّا السبب الثالث فيكمن كما أتصوّر في السياسات والإستراتيجيات الدولية التي حملتها العولمة ووسائلها الإتصالية المتفجّرة التي غمرت معظم سكّان الكرة وأغرتهم باعتبارها لينة وجاذبة وغير مفروضة وتقودهم نحو حتميّة أوهام التغيير وتحقيق الذات بالتواصلالهلامي  والخروج الحر من الأفكار والثوابت الدينية والفلسفية القديمة. إنّها ظاهرة ثقافية إنسانية هائلة خلعت الأبواب الموصدة بوسائل تتطلّب الخبرة والسبابات لا الفكر والعقول لتتزاحم نحوها شعوب الأرض لاهثةً مفتونةً بأنساق من القيم الجديدة التي نسفت مفاهيم الأقطاب الدوليين، وعمّمت كلّ ما له علاقة بحقوق الدول والإنسان وخصوصاً النساء والأطفال وإشاعة الديمقراطيات والحريات بمعانيها الواسعة التي تخلع الإنسان من أسسه وتاريخه وتجاربه لتجعله يدبّ على الأرجل الأربع كما الكلاب والحيوانات أو يطير مثل الطيور والفراشات.

قد تكون فكرة النهايات، ومهما كان وقعها على الشعوب الطريّة، مسائل مألوفة ربّما حسمتها بل رسّختها العقائد الدينية والإيمان بها، لكن وقعها المعاصر يحمل قضايا مثقلة بالخوف الكبير من التحولات الكبرى التي قد تصل ربّما الى حدود الفناء أو الإفناء لأن الدنيا رفعت أيديها وباتت غير قادرة على مسيرة الحياة بقدر قدرة الدول على محق حياة الشعوب وتخفيفها عن وجه البسيطة. لا يمكن أن تشكّل النهايات قطيعة نهائية مع الحاضر، بل على العكس، جاءت تولّد في شرقنا العربي ردود فعل التشبّث بالماضي بعد نبشه وغسله وإستعماله كأداة تحديث وتحدٍّ عبر توليفات مستحيلة بين الماضي والمعاصرة والتجديد والحداثة.

لقد جرّبنا عرباً أفكار مكافحة الإستعمار والإستقلال الوطني وشعارات ، ثم حلّ الإفتنان بفكرة عدم الإنحياز والحياد الإيجابي وبرزت المغالاة الصوتية في الوحدة العربية والأفكار القومية التي جرى إجهاضها وتدميرها وأُسقطت مع سقوط بوابة العراق في ال 2003 وراحت تسقط تباعاً عبر الشعارات والأحزاب والأفكار والإيديولوجيات والأوطان التي كانت تقدّم نفسها ركائز وأشباحاً للنهوض العربي. سقطت رمّةً واحدة، وسرّعت في سقوطها “ثورات الربيع العربي”، وبدت نكبة العروبة في تقابلها المتجدّد مع الإسلام الملاذ الوحيد المرغوب الذي يحقّق مستلزمات الإيمان والعقائد الدينية، وهو ما إستعاد بسرعة قياسية تعقيدات العلاقات التاريخية الدينية والسياسية بين الغرب والشرق. قد يكون هذا الأمر طبيعياً لأنّ تحويل الصراع الى حقول القيم المقدّسة والأحقيات الدينية بدا أكثر مرارة من الصراعات حول الممتلكات والآثارات والحضارات القديمة والثروات العربيّة التي اندثرت. وبدا المؤمن يغضب ويقاتل عندما تنتهك مقدساته أكثر من الوطني الباحث عن هويته في الدنيا إذ تُهان كرامته ناسياً أننا في عصرالإنحطاط الثاني.