لقاء فلسطين ولبنان

ليس غريباً ان تطرح اوساط اسرائيلية فكرة نزوح سكان غزة الى سيناء المصرية، والحجة هي تسهيل دخول الجيش الاسرائيلي الى القطاع لمصادرة سلاحه وتحطيم الانفاق. إنها دعوة الى احتلال منطقة محررة من فلسطين، وقد لقيت رواجاً لدى اوساط اميركية واوروبية. وربما يخرج علينا الاسرائيليون بعد شهور أو سنوات بدعوة الى اخلاء الضفة الغربية، ومعها القدس، من سكانها الفلسطينيين ودفعهم نحو الضفة الشرقية من نهر الأردن. بذلك تكتمل السيطرة الصهيونية على فلسطين وفق حدودها في اتفاق سايكس بيكو الذي رسم خريطة المشرق العربي بعد الحرب العالمية الاولى.

وستذكر تل أبيب وسيدتها واشنطن ان الرئيس الاميركي كان يتخوف من الهبوط بطائرته في اسرائيل بسبب صواريخ المقاومة الفلسطينية. هذا يعني ان الحرب لم تنته بين المقاومة واسرائيل، على رغم القصف الأعمى الذي تمارسه تل ابيب محطمة البشر والحجر، وصولاً الى تهديم المستشفيات على المرضى واللاجئين اليها. ولا تزال معنويات الفلسطينيين مرتفعة على رغم الخسائر التي اصابتهم في الأيام الأخيرة ووضوح مقاصد اسرائيل في تهديم غزة على سكانها. هذه الخسائر لم تطو المفاجأة التي قدمتها المقاومة الفلسطينية لشعبها وللعالم، حين عبر مقاتلوها خارج غزة واشتبكوا مع الجيش الاسرائيلي وقتلوا منه اعداداً كبيرة، فضلاً عن الاسرى الاسرائيليين (والاجانب) عسكريين ومدنيين. انها المرة الاولى التي يخوض فيها فلسطينيون حرباً على ارضهم ضد المحتل الاسرائيلي ويسجلون انتصارات، كما انهم يتحكمون الى الآن بمعظم مدن اسرائيل ومناطقها بواسطة صواريخهم المتطورة.

ثمة جرح واضح في كبرياء اسرائيل تحاول التغلب عليه بقتل الابرياء وتحطيم البيوت والمؤسسات العامة والخاصة. ولم تستطع سيطرة انصارها على الاعلام العالمي ان تحجب الكثير من جرائم جيشها، لكن تضامن الولايات المتحدة واوروبا معها لا يزال على وتيرته، فلا يرى الطرفان الحليفان جرائمها بقدر ما يريان خطورة وضعها العسكري والاقتصادي الامر الذي لم يبلغ هذا المستوى المقلق من قبل.

وفي الازمة التي تجتازها اسرائيل تلجأ الى مزيد من القتل والتحطيم بلا وازع من قانون دولي، كما تصر سياسياً على أمرين: عدم الموافقة على اقامة دولة للفلسطينيين في اطار حل الدولتين وابتزاز حكام ضعفاء في المنطقة كما هي الحال مثلاً مع القائدين المتصارعين في السودان، فهما يهدمان وطنهما ويحرصان في الوقت نفسه على العلاقة مع اسرائيل باعتبارها ضمانة شخصية.

وحده الغبيّ يصدق ان الولايات المتحدة (وفي ذيلها الاتحاد الاوروبي) تطلب او تؤيد انشاء دولة صغيرة للفلسطينيين على أرضهم التي سلبتها اسرائيل. ففي التحيز السياسي والعسكري والمالي الذي تظهره وتمارسه مثال على دعم أعمى لاسرائيل، حتى في منعها وصول الغذاء والماء والدواء الى المدنيين في غزة الذين يتعرضون لحرب ابادة لا لبس فيها.

وإذا كانت اوروبا قلب الحضارة العالمية اصبحت ملحقاً غبياً أو متغابياً للسياسات الاميركية المنحازة في بلاد العرب وأماكن أخرى من العالم، فان العلاقات الدولية كلها تهتز بفعل عصبية واشنطن الهوجاء، وتقف الحواضر في آسيا وافريقيا واميركا اللاتينية حائرة أمام مهمة صعبة: مواجهة سياسة واشنطن من دون الانزلاق الى حرب عالمية جديدة.

قال اللبناني انه يتذكر جيداً تحالف الحركة الوطنية والمقاومة الفلسطينية في الحرب الأهلية المديدة بدءاً من منتصف سبعينيات القرن الماضي، وأن هذا التحالف لم يكن ناجحاً بل انه أفسد اللبنانيين والفلسطينيين ودفعهم الى شرذمة سياسية مع فساد مالي ملحوظ.

الآن يلتقي اللبناني (ممثلاً ب “حزب الله”) بالفلسطيني ممثلاً ب “حماس” وفصائل اسلامية اخرى، ليحاربا كلاً بنفسه أو بالتنسيق احياناً في جبهتي الشمال والجنوب. وهنا نلحظ اجماعاً فلسطينياً ميدانياً على رغم الخلاف السياسي. كل شيء واضح عند الفلسطينيين ولا شيء واضحاً عند اللبنانيين، ذلك ان “حزب الله” ينأى بنفسه عن صراعات الطبقة السياسية ما وسعه ذلك، وقد نمت قدراته العسكرية منذ سلّم الشأن السياسي والاقتصادي الى الرئيس رفيق الحريري الذي أعطاه الأمان ليطور مقاومته. لا شيء واضحاً لأن اللبنانيين من غير “حزب الله” صامتون وخائفون ولا يثقون بالمقاومة.

لبنان يشارك في حرب على اسرائيل وهي تحدث فعلاً عبر مقدمات دموية في الحدود الجنوبية. حرب يخوضها في درجاتها المختلفة “حزب الله” الذي يأنس انصاره الى سلاحه المتطور، ويرون فيه قدرة على مواجهة اسرائيل المالكة سلاحاً متطوراً هي ايضاً يصل الى النووي.

وبين حماسة صارخة وقلق صامت يعيش اللبنانيون في وطنهم المنهك من حروب أهلية سياسية وعسكرية مديدة، ودولة يتناثر حطامها نتيجة فساد كرسته طبقة سياسية من بقايا قيادات الميليشيات التي استولت على الدولة وأفسدتها وسرقت المال العام ومعه اموال المودعين الأبرياء وذلك عبر بنوك تواطأ مالكوها لتصل الى الافلاس.

كانت الحروب المديدة وغياب الحس الوطني وتردي الاخلاق الى لصوصية عملية أو مرغوب فيها لدى طبقات المجتمع كافة، كانت كلها مطارق تحطم رؤوس اللبنانيين لتحولها من الذكاء المعهود الى وهدة الاحتيال  الذي له هو أيضاً ذكاؤه الخاص.

المجتمع اللبناني هو الأكثر حرية في العالم العربي، في المشرق منه خصوصاً. لكن هذه الحرية تستند في احيان كثيرة الى طوائف متنافسة أو متنازعة أو متحاربة. والطائفة  غالباً ما تعتبر نفسها دولة مستقلة على رغم عدم امتلاكها أياً من مقومات الدولة، سياسياً أو اقتصادياً، وهي ترى في الدولة مجرد نجاح للزعيم وأزلامه.