لم يترك العدوان الإسرائيلي الهمجي الأخير على لبنان ، بمزاجه الفيلي ، سوى المرارة من ” عنايته ” و”رعايته” بأصغر المخلوقات وأكبرها . بأصغر الصروح وأكبرها . بالأبنية العادية ، البشر العاديون ، الشرايين . تذكر الطيار ان يرمي حمولاته باستمتاع على كل ما هو مضيء كالذهب . مسح الأرض بالموت وكأنه يمسحها بالمراهم الشافية . حقد لا يعرف . لم يترك ضوءاً ولا ظلاً ولا ملامحها إلا وأمحاه. قصف الصهيوني بالعام ١٩٨٢ قصر الأونيسكو . قصر ثقافي ممتاز لم يبق منه
سوى همسه . عدوان تشوبه اللهفة على أمحاء الأمكنة / العلامات . لأن الأمكنة روى لا حجارة مرصوفة ، الحجر على الحجر . قصف كل حلقة اتصال بين الماضي والحاضر في صور . قصف حلقات الإتصال هذه في بعلبك . مدينة العوالم ذات السمات الثقافية. سرقة خطيرة ، حين استعمل الطيارون مهاراتهم في قصف محيط القلعة التاريخية . وجدت الجروح في ظهر مرآبها ، ما استدعى القلق والذعر على القلعة. لأنها قلعة يقف التاريخ وراء اذنيها . سمع صوت القصف على مدى عشرات الكيلومترات . قصف بمسح بالخرق النارية كل ما يرى فيه كومة قش . هكذا ، أضحى لبنان كومة قش أمام الطيارين الصهاينة ، من لا يعرفون الكلام افضل إلا بمخالفة الطبائع . لا قوانين تردع . لا امم، احتجاج ، تصاعد احتجاج . كل شيء على بلاط المصالح الصهيونية في عالم قدم كل الأجهزة والأدوات لاستعمالها في الرمي على الخرائط . زنار من نار على بعلبك . زنار من نار على جهد مضني بذل في وضعها .كما على الجهود الفلكية لكي تخفق المساحات بالعلامات ، فنادق ، طرق ، بلاط روماني . أخذ اللصوص اجزاء من هذه المواقع الجذرية . وإذ لم تصب القلعة بارتخاء اجساد القذائف المجنونة عليها ، رأت ما خرج من القلعة . ما لم ينخسها . ما وجد في جوارها كعلامات موقدية ، لا تنفتح إلا لكي تنسل منها الأسماء . هكذا ، نزف فندق بالميرا اجزاء من لمعان فناني مهرجانات بعلبك الدولية ، حين ترنح في القصف كرجل مخمور وهو يفرغ ذكرياته وهوادجه من نعم الفنانين وأنظارهم ومواضعهم في القيم الثقافية في العالم . فرغ الفندق من بعض ما وجد في داخله . تضرر ، حين ملأ الدخان ، الأصوات ، روائح البارود ، ردهاته وغرفه . لم يغضب اللاتينيون ولا العرب ولا العثمانيون ولا الأوربيون من اصطكاك الغرف على الغرف ، لأنهم ما كانوا هناك ، لأنهم ما
وجدوا انفسهم في الشكوك بأن فندقاً برفوف كثيرة من الأسماء الكبرى ، سوف يرتعش حجره من هول القصف. سوف يعود كل شيء إلى موضعه . هذا أكيد . لأن فيروز وجدت في طبقة الفندق الأرضية . كما وجد فيها بيجار وأم كلثوم وكوكتو وكركلا . وكل من وجدت الفنون العظيمة في عربة يده .
بالميرا ليس فندقاً فقط . بالميرا ليس بناءاً. بالميرا تلك البرهات العظيمة على مزيج من الوجوه وعبق الروح والنظرات الخاطفة إلى القلعة ليلاً نهاراً من من اغتبط بهم العالم وصفق لهم . وجد الدمع في الحجارة . وجد العبوس فيها ، بعد الدمع . لأن الأسى فوق المدينة كشف ان القصد من قصف القلعة وبالميرا هو هدم ما شيد على مدى أعوام تحاشت المقت ، حين احست بخفق جناح في كنف العلم والحكمة ، في كنف المبنى البارز .
تكشف النصوص، الهويات. الجوهر في المساحة . لا في العودة اليها . لاح طيف قلق . هذا صحيح . ولكن ما لاح بدوره ، تاريخ تصاعد على الحجر الأساس ، بما أوتي من قوة . هدم القلعة وبالميرا ، هدم الأصوات والأدعية والصلوات . هدم لصرح الخير بأجساد الخطيئة الطائرة . ذلك أن التاريخ، يقف صامتاً ، مبهوتاً ، حين يرى علاماته تهدده القنابل المربوطة بالطائرات . التاريخ زمن ، المكان رباطة جأشه . هكذا ، لا يكتب المؤرخون التاريخ إلا بالأمكنة المربوطة بالوقت . رفقة عمال ، مهندسين ، مشرفين . لا هم . لأن للأمكنة وظائف. لا يكتبه المؤرخون .
هدد العدوان البنيات والبنيان والعمار التراثي، ما وضع في عهدة القوانين والتشريعات العالمية، عبر مؤسسة الأونيسكو. هدم آخر حجر ناطق . هذه هي المهمة . لا يهم ان يصاب العالم بتمزق حاد في عينيه وأذنيه . لأن إعدام القلعة وما يحيط بها من مهام العدوان ، إخلاص العدوان لنفسه . لم يحترم الكيان ، بيتاً ولا معماراً ولا صرحاً بنائياً، لا يقرأ إلا بكشف الهويات الحضرية البارزة كشف الهويات البارزة، أمام الأجيال. لأنه أراد ان يتخلص من التاريخ ، مسحه ، لكي لا يلوح طيفه من جديد . استهداف الفندق المتسع العينين على التاريخ ، هدم لبزوغ الفجر . فجور في مواجهة الفجر . حديد عتيق لموت جديد ، كما قال السياب . حديد عتيق على وجه بالميرا ذي الخريطة الواقفة دوماً على العواصف الهوجاء . بالعام 1978، عندما باع ورثة ميخائيل ألوف الفندق، التاريخي المشيد في العام 1872، إلى شركة بعلبك للإنماء السياحي. سلموا كتبه كلها إلى الشارين . مذاك تواترت الأنباء عن تجديدات وعن ولادة عمارة أخرى لا علاقة لها بطبائع المبنى
التاريخي. ذلك أن الأبنية في لبنان لم تعد تخضع الا للتصنيفات والمفاهيم التجارية. لا مقاربات نقدية في المجال هذا. إذ أن الشظايا السياسية، أصابت كل شيء. لم توفر الإنفجارات السياسية المتبوعة بالإنفجارات الأمنية، حتى الهوامش. أصابت الأساسيات حتى وصلت الإصابات إلى الهوامش. يذكر هنا، أن الحجوزات بالعام 2013، بلغت حجزاً واحداً في الفندق، المحتشد بكبار الفنانين والمثقفين، هؤلاء من ليس لهم علاقة بسوق الفن ولا الثقافة بالمعنى الهجين للكلمة. ذلك أن الفندق المهجور، جر الفنانين أصحاب الأحكام على الفن إلى غرفه وحجراته وأروقته. هنا، أقام كل من قصد بعلبك في تلك المرحلة الإنتقالية في تاريخ لبنان بعد حرب العام ١٩٥٨. من ساهموا في تشكيل الملامح الثقافية . ملامح ضد الأوهام وضلال القرون الوسطى . لا ضرورة إلى ذكر أسماء من فرغت وجوههم في كتابة تاريخ تلك الأيام . لأنهم بالمئات . مئات من من ازدادوا نحولاً لكي تمتلأ بعلبك والقلعة باللحم والعصب . فنانون احتشدوا في حجراته أو في حديقته الصغيرة، على تخطيطات استخدمت كل التطبيقات بالكلام على التغريب والتأصيل بجمل ومقاطع مثقافات لا تزال أصدؤها تتردد حتى اللحظة.
نزل، بحديقة صغيرة، على الراغب بالحجز أن يمر بها. تمتلك الأخيرة، من الخصائص ما يثير الخيال. أنفق أصحابه، أموالاً طائلة، حتى فرشوه بأفخر الأثاث، واستجمعوا فيه ما يتطلبه الرفاه، في ذلك العصر، من المعدات، بحسب ما جاء في مذكرات موسى ألوف، مالك المكان عن مالكه. مساحة صغيرة، تنبثق فيها الأشجار المعدودة، والورود والرياحين الكثيرة، مرفوعة على جنبات الحديقة، حرة في الرمل الحر، أو بالأصص المخصصة بزرعة الورد. ظل الحديقة، يمتد، ليصل إلى غرف الفندق الكثيرة، المعمرة على الطرق المختلفة من تقليد إلى آخر. ترفع الأصص والورود على روائحها المخلوطة بروائح الزمن . عُمِّر النزل وسط بيوت الطين البعلبكية، خارج تعقيدات الحياة العصرية المتسللة إلى المدينة. تبكي المشاهد القديمة في الفندق على استنزافها بالمشاهد الجديدة، الغريبة عنها. هربت الصور وبقيت الروائح. غرف صغيرة مهواة بالمراوح القديمة المغروزة بالسقوف، تتوزع فيها الفرش والأثاث البسيط. لا تنقص من بساطة الإثاث، تلك اللوحات الأصلية، المتروكة على الجدران، من كبار الفنانيين اللبنانيين. أمين الباشا ورفيق شرف وعمر الأنسي ومصطفى فروخ وغيرهم. يكفي أن تذكر أو تتذكر فناناً تشكلياً له اسمه في مختلفات ومحترفات الإنتاج التشكيلي، حتى تجد لوحته على جدار واسع الحضور في جانبه الثقافي. شبه معرض، شبه متحف للفن التشكيلي اللبناني. ثروة تقيم على خوف الإختفاء، بحكم الظروف المتقادمة. لوحات ، كأنها تجمدت في الهواء ، كمصابيح بلورية نادرة ، ابهتها من آثار البهجات عليها .
بدأ توافد الزوار والسياح إلى بعلبك، في منتصف القرن التاسع عشر، بهدف الإطلاع على معالمها التاريخية، لا سيما آثارها الرومانية وما تركه العرب والمسلمون على أرضها منذ القرن الثالث عشر. سوف يقابل هذه المغريات، مغامرات مشت دائماً على حافة الخطر. لأن البلاد في تلك الأنظمة، بقيت بلا أنظمة حماية، على كافة الصعد. سواح يدورون من مدينة إلى مدينة ومن بلد إلى بلد ومن أثر إلى أثر، في خيام مشدودة، تتبعهم الخيول والبغال والخدم والطهاة
والمرافقون الآخرون. مرحلة وراء أخرى، من عدم وجود فنادق منظمة إلا بالمدن الكبرى، كما جاء في مذكرات ميخائيل ألوف، رئيس بلدية بعلبك في العام 1920، بعد أن أضحى الدليل السياحي الوحيد، رئيس البلدية ومالك الفندق، في مرحلة نهوضه على مفاهيم القيم والفكر الثقافي والعوامل الداخلية والخارجية ، المشكلة طبيعة الإنتقال من مرحلة إلى مرحلة .
ظهرت فكرة بناء الفنادق، بعد أن كثر عدد قاصدي المنطقة. هكذا، شيد ميمكاليس باركلي فندق بالميرا على أرض لا تزيد مساحتها على مئتي متر مربع، عند مدخل بعلبك الجنوبي. تم تخطيط البناء، بحيث يطل، بواجهته الرئيسية على الأطلال الرومانية. شيد على انحدار بسيط، نزولاً، نحو المنطقة الأثرية القديمة، المدفونة / حتى اليوم/ تحت الأطلال . شرع اليوناني ببناء الفندق بمنطقة، تقع كلها في محيط المنطقة الرومانية، بأسلوب معماري يشبه الأساليب المعمارية لبيوت البرجوازيات اللبنانية في تلك الحقبة، بحسب فريدريك راغيت، الباحث الإنكليزي، في العمارة اللبنانية.
بقي البناء الأول للفندق/ النزل على إسم اليوناني باركلي، حتى طرحه بالمزاد العلني لتغطية ديون مستحقة. مات الرجل في الحرب العالمية الأولى. وإذ طرحه بالمزاد، آلت ملكيته إلى ميخائل ألوف، الأمين على الآثار القديمة في بعلبك، بألف وأربعمئة عثملية ذهبية. رممه وجهزه، بحيث اتسعت قدرة الإستيعاب فيه على سبع وعشرين غرفة، إلى مطعم وصالة كبرى ومدخل، سجل مفارقات الأزمنة برصد المعارف التاريخية القائمة على الصراعات المستمرة بين المحلي والأجنبي وبين الأقليات الداخلية والأكثرية. قصفت الطائرات الحربية الفنادق في بعلبك في حروب العالم المتوالية . أصابها القصف بأضرار فادحة. تركت الثورات والإضطرابات آثارها عليها، كما جرى في الفتنة اللبنانية الكبرى في العام 1860، الممتدة من لبنان إلى سوريا. اختفى بعض الفنادق هذه، إلى الأبد، من جراء الأحداث. وتم تجديد بعضها، إثر ترميمه. دشن بالميرا بهيئته الجديدة في العام 1924. انتشرت شهرته مذاك، حتى العام 1925، حين اندلعت نيران الثورة في سوريا. عندها، هاجمه الثوار بقيادة توفيق هولو. كما هاجموا “نزل خوام” و”نزل السنترال” ما دفع ألوف إلى الإقامة في منطقة ذوق مكايل حتى العام 1936. نجا الفندق، حين دمرت طائرات الإحتلال فندق خوام. ثم أن فندقاً بعلبكياً آخر، ضاع في غياهب الزمن، بأحكامه ومن ندرة الإهتمام به. “فندق المانيا”، من أدارته الألمانية ماريا تزاف، في واحدة من بنايات وقف الكاثوليك، شمال كنيسة الكاثوليك في بعلبك.
حين هبت رياح الإضطراب على المنطقة، محت حضور بعض الفنادق وزلزلت حضور بعضها الاخر. صمد بالميرا. وإذ دهمته الأحداث، من حرب تموز عام 2006 على لبنان ، ثم ترددات الحرب السورية، وجد نفسه من جديد، تحت هيمنتها. لن يدعي القيمون عليه غير ذلك. بيد أن روح المكان القديم، لا تزال تسكن جنباته، بانتظار شروحات جديدة، تعيده إلى ألقه، بعيداً مما يعد بالزمن أو بالجغرافيا. الأصلح أن يدرج في قائمة الأبنية التراثية المحمية من المؤسسات العالمية المتخصصة، بعيداً من تداخل واشتباك المصالح. ذلك أن “روح المكان” لا تزال غالبة ، حتى إذا ما سئل فنان، مشارك في المهرجانات، عن فندقه المحبب، اختار من الفنادق “بالميرا”، لأنه جذر الأهل ومرآة من مرايا البلدان الأجنبية في لبنان ومكان لا يصبو إلى التجهيزات، قدر ما يروج لحضور يشجع على الرؤية الجوهرانية للمعرفة.
فندق كهذا ، على متانته وصلابته التاريخية ، لن يقوى عليه كيان مصطنع ، لأنه قائم على القدر . لم يمت في الحروب السالفة . إذن ، لن يموت .