قصّة “إسرائيل” خارج القوسين

تنقلب الأدوار بين مقدّسات معظم العرب ومحرماتهم السياسية، وينفتح العصر على تقطيب الجراح المُزمنة وتجميلها بدبلوماسية دولية وإقليمية جديدة وجريئة. ألمح تراجع تلك المقدسات في معاقلها بعيداً من المواقف المنتظرة لدى تقدّم سلوك العرب المتراخي وذوبانهم في ماء العولمة.

نعم، يتأرجح العرب بين التطور والتنوع والأمّم غير المستقرة، بينما تتقدّم “إسرائيل” في نصوص العرب وحاضرهم ومستقبلهم ذي الملامح التطبيعية. كيف ؟

 كانت “إسرائيل” سجينة قوسين في حبر العرب تدليلاً على عدم الإعتراف بها. يكفي استرجاع النصوص القديمة والراهنة لماماً تأكيداً لهذا الأمر. كانت المسألة أكثر من مقدّسة تستلّ طهارتها من القدس.

كنت تقرأ مكانها فلسطين أو فلسطين المحتلّة أو الأراضي المحتلة أو الغاصب الصهيوني الى تسميات أخرى تنزّ بالتراجع والحيرة والضعف والتخلّي، لكنّ الجرح الفلسطيني لم يلتئم وبات اليوم وكأنّه الجرح العربي المتعسّل فكراً وموقفاً مع أنّه توسّع  ولم ولن يعرف معظم أصحابه اليباس ولا حتى الإسوداد منذ 1948.

كانت المسؤولية كبرى عند غربلة النصوص وتنظيفها من ملامح التطبيع قبل أن تُكتب “إسرائيل” بأقلام العرب بلا قوسين تماماً كما الجسد المحرّم في الكتابة مختصراً الجنس والدين والسياسة والسياسيين زعماء ورؤساء.

نهض الجنس ومشتقاته من الأبواب الإعلامية المغرية للتحوّلات عن المعاني والمضامين الصادمة الثقيلة. وبدت الأخلاق والمفاهيم مرذولةً في ساحات الإنهيار العربي وقد حاول رجال الدين إدانتها في الشاشات والمظاهر والأفلام والإعلانات الإباحية التي تجاوزت مقدرات الدول والأنظمة المتراخية.

أتذكّر هنا مثلاً” اللقاء الوطني للتصدّي للفلتان الأخلاقي” الذي تأسس في بيروت (15/11/1997) في صحيفة”اللواء”، وكنت في عداد المؤسسين وقمنا بحملة مدروسة ضد الإباحيات والفلتان لضبط المظاهرالمستوردة بكونها برامج خبيثة في تفخيخ الشعوب الطريّة من الداخل. لم يتغيّر شيْ بالطبع، واستمر التجاذب، ولم يقوى أحد على ضبط المواد القويّة والمعاصرة في الصراع وها معظم العيون العالمية على عتبة “النتفليكس” تقدم للقرية بل الساحة الفالتة زمناً متوّجاً بالغرائز.

ما يحصل في بلادنا شبيه الى حدٍّ مخيف بما حصل في المراحل التمهيدية التي أسقطت المنظومة الإشتراكية عبر الشاشة من الداخل بعناصر مدرّبة وبرامج جاهزة لذلك، ومن أقام في أوروبا الشرقية متابعاً إعلامها يدرك دقّة هذا الكلام. يكاد الحال مضروباً بألفٍ اليوم، وبالأساليب والخطط لإشباع العيون والآذان والإرادات والتربية  دحضاً لكلّ تحريم أو إدانة لأي “تابو”.

باتت المحرمات هي الدّرجة أي الموضة تحقّق المعاصرة وأخواتها تسفيهاً لكلّ تاريخ ثابت وموزون.

لقد زُجت الأديان والأنظمة في أتون الصراعات بوقود وأساليب حامية تذكّي النيران والحروب الأميركية المحمولةPortable  بالحقائب والمدموغة بنجمة سداسية من وطنٍ الى آخر كان أقساها كوارث “ربيع العرب”. كلّ ذلك كان يقدّم بتهذيب أميركي وصور بهيّة فاتنة “ثورية”، وعلى شكل هدايا ملفوفة بالأوراق والمشاريع والمبادرات كانت تعبّد طرق حلف شمالي الأطلسي عبر اسطمبول نحو العرب بحجّة الأمن والإستقرار والفهم التاريخي التركي بل العثماني الجامع والخبير بشؤون المسلمين. جاء ذلك كلّه تحت عناوين وأفكار جاذبة أهمّها: “نهاية التاريخ”،”الشرق الأوسط الكبير”، “صراع الحضارات”.

تبدو بعض الأنظمة العربية في يقظتها الوطنية منخرطة بألاعيب “البازل” التي يعشقها أطفالنا وتسلخ من أذهانهم مبادىء الثبات لترسّخ مكانها جمالية التفكيك السهل وإعادة التركيب بما يحلّ العقد المستعصية ويسهّل إعادة البناء السريع المؤقت والهشّ. ما ينطبق على الأفراد صغاراً قد ينسحب على كبار الحكام والأوطان. وللعلم فإنّ فكرة البازل التي تشغل أطفال العالم هي ليهودي من أصولٍ رومانية. هكذا راحت تتمايل أنظمة العرب مثل أوراق الخريف أمام شعوبها المسكونة بالدهشة والرياح المغرية والتحسر الدائم.

خلسةً، وجدنا ” إسرائيل” في نصوص الشرق الأوسط المكبّر من المقوّمات لا من المحرمات. تسللت الى نصوص العرب وألسنتهم، وفي مرحلةٍ ثانية، راح العرب يكتبونها عبر مصطلحات مثل “العدو الغاصب”، و”العدو المحتل والغاشم لتنزلق “اسرائيل” في نصوصهم وألسنتهم في مرحلة ثالثة مصطلحاً مجرّداً من كلّ الصفات السلبية التعويضية عن سلاسل هزائمهم، وأحياناً تراهم يصدّرون المصطلح بتعبير دولة “إسرائيل” وتهطل الإتهامات بالخيانات.

في المرحلة الرابعة أسقط العرب،القوسين من حول كلمة  “اسرائيل” وصارت في نصوصنا دولةً جارةً مثل باقي الدول الأخرى تمهيداً للمرحلة الخامسة التي ترسّخت فيها مع دخولها العاصمتين العربيتين الأشدّ حساسية ونعني بهما القاهرة عاصمة أكبر بلدٍ عربي وبيروت عاصمة أكبر مصهر عربي يحيّر العرب والعروبة لكنها الوحيدة القائلة أنّهم باعوا عواصم العرب لكنّها احتفظت بالعاشرة لتقول: لا.

 لنتذكّر أنّه منذ كامب دايفيد وتداعياته في أوسلو ومؤتمر مدريد وصولاً الى الغزو الأميركي المتوحش للعراق الذي عرّق التاريخ ، راحت تفوح في الأجواء السياسية والإعلامية سيناريوهات التنسيق القادم مع “إسرائيل” بأشكال تُبشّر بتجدد الكوارث الحاصلة في الخط الممتد بين النيل والفرات. إنّه الخط الممطوط نحو اليسار أو نحو اليمين وأقصى هندساته رسم المثلثات فوق رقعة الشرق تتشابك وتتكامل عبر قمع شعوبهم وخداعهم وقصورهم ومكرهم لتؤلّف” موزاييك” من النجوم السداسية تكتمل الحلقات عبرها، لتبدو الدولة الغاصبة منخرطة في نسيج البساط الدولي المفلوش فوق رقعة الشرق العربي.

هكذا نفهم ذبول مصطلحات القومية العربية والأمّة العربية والوطن العربي والوحدة العربية التي يُعاد لملمتها في ضياعٍ وتراشقِ واتّهامات بين أنظمة ونخب ومفكرين وأساتذة جامعات عرب يقطنون الفضائيات ولا ينقصهم سوى شهر مسدساتهم في وجه بعضهم بعضاً لتثبيت آراءهم وأفكارهم، ناسين أنهم نتوءات على حفافي دروب الديمقراطيات المستوردة .

لقد فات أولئك المفكرين العرب والباحثين والمنتدين أن دور النشر العالمية والكتب والجامعات والخرائط تبدو وكأنّها تخرج من أدبياتها الأوطان والمصطلحات القديمة، لتستبدلها ب”الشرق الأوسط الجديد” الذي غار ولم يمُت في زمن نسمع فيه وقع انكسار مصطلح “العالم الثالث”، وتشظي” العالم الثاني” أو ذوبانه في تجمّعٍ عالمي كبير تديره دول كبرى وشياطينها عبر تشظيات العظمة بين الشرق والغرب.