كل الطرق أغلقت أمامهم إلا طرق الموت

أبناء غزة يعيشون كارثة إنسانية لم يعرفها بشر..والوضع الإقليمي مهدد بالإنفجار

المحتل الإسرائيلي يعاني الفشل الذريع والخسائر الفادحة .. ويعوض الفشل بعمليات اغتيالات بالخارج وقتل المزيد من المدنيين بالداخل..!

“نعيش في غزة كارثة لا يتستوعبها بشر ولا نفيق منها حتى 100 سنة ، 2 مليون إنسان يتعرضون للإبادة ومهددون بالمحو من الوجود ..لاتوجد خيام والناس نائمة بالشوارع التي تنتشر فيها جثث الشهداء المتحللة التي تأخر دفنها، يتنفسون دخان القنابل ويشربون مياه الصرف الصحي والأمراض منتشرة بينهم وجروح المصابين تعفنت نتيجة للتلوث.. بل أصبحت عملية دفن الموتى من الأمور الشاقة التي تتطلب كفاحا في غزة حيث أن الغارات الجوية الإسرائيلية المتواصلة قتلت أكثر من 22,000 في ثلاثة أشهر.”

بهذه الكلمات الموجعة وصفت المراسلة الفلسطينية الغزاوية سمر أبو العوف حياة أهلها وناسها ممن يعيشون في قطاع غزة تحت نير الحرب الصهيونية الغاشمة خلال الشهور الماضية منذ اشتعلت شرارتها الأولى في أكتوبر الماضي، وهي تعكس حجم الكوارث الإنسانية التي يذوق مراتها الفلسطينيون المدنيون العزل تحت سمع وبصر العالم. ولازال الأمر يزداد سوءا بتدهور الأوضاع مع استمرار الظلم والبطش الإسرائيلي.

على الجانب الآخر  يواجه مجرمو الحرب في إسرائيل سخطا شعبيا عارما ليس لإصرارهم على ارتكاب جرائم الإبادة الجماعية للشعب الفلسطيني وإنما لما أحدثته الحرب من آثار سلبية على المجتمع الإسرائيلي على كافة الأصعدة، فهم لم يحققوا أي انتصار ولم يجنوا سوى الفشل الذريع على أرض المعركة ولم ينجحوا إلا في قتل الأطفال والنساء وقصف المرضى في المستشفيات والملاجئ بصورة تخالف كل معاني وقيم الإنسانية على إطلاقها. وهناك من يتحدثون في المجتمع الاسرائيلي عن انتشار الأمراض النفسية والأوبئة بسبب التكدس في الملاجئ لأوقات طويلة إلى جانب الخراب الاقتصادي والانهيار السياسي وتبادل الاتهامات وانتشار الخلافات التي أحدثت ترهلا في حكومة الحرب المجرمة.

منذ قامت الحرب في أعقاب طوفان الأقصى الموافق للسابع من أكتوبر الماضي حبس الجميع أنفاسه خوفا من اتساع مدى الحرب وانضمام أطراف أخرى إليها لدعم الطرف الفلسطيني الضعيف في مواجهة إجرام المحتل، خاصة مع تحرك الأسطول الأمريكي لدعم حليفته المدللة!! ولكن مرت أسابيع دون أن يحدث هذا الأمر وتجدد الأمل في وقف الحرب وعودة الهدوء للمنطقة خاصة بعد التوصل لهدنة أولى شهدت تبادل لبعض الأسرى لدى الجانبين. لكن سرعان ما انتهت الهدنة واستؤنف القتال بصورة أشد شراسة حيث مارست إسرائيل كل أنواع جرائم الحرب ضاربة عرض الحائط بكل المواثيق والعهود الدولية المرتبطة بحقوق الإنسان.

لكن الخوف تجدد بشكل أكبر من حدوث اتساع للحرب ودخول أطراف أخرى مثل إيران على الخط بما يعني الوصول لمنعطف خطير يمكن أن يقلب الأوضاع في المنطقة رأسا على عقب. وذلك في أعقاب مجموعة من الأحداث الساخنة تمثلت في صورة عمليات اغتيالات تمت بعيدا عن ميدان المعركة الرئيسية في غزة واخترقت حدود ثلاث دول أخرى تم داخلها استهداف شخصيات قريبة بشكل مباشر من حركة المقاومة الفلسطينية حماس مثلما حدث باغتيال نائب الحركة صالح العاروري داخل لبنان واتساع دائرة الأحداث وصولا إلى داخل الأراضي الإيرانية حينما وقعت تفجيرات إرهابية قوية أدت إلى سقوط عشرات الضحايا من القتلى والجرحى وذلك بالقرب من مكان إحياء ذكرى مقتل مسؤول العمليات الخارجية في الحرس الثوري،  قاسم سليماني، عام 2020 بهجوم بطائرة مسيّرة أميركية. وهو  ما أدى إلى زيادة المخاوف من حدوث أي تصعيد سيما وأن حادثتي التفجير جاءتا في أعقاب عملية اغتيال المستشار الإيراني رفيع المستوى رضا موسوي داخل نطاق الأراضي السورية. وذلك قبل أيام قليلة من اغتيال وسام الطويل القائد الميداني في حزب الله اللبناني، ليصل عدد من اغتالتهم إسرائيل لدى الحزب إلى نحو 135 فردا مقاتلا.

أمام هذه التطورات يثور التساؤل حول احتمالات اشتعال الأحداث وإمكانية تصعيد المواقف الإقليمية مع إصرار  إسرائيل على استفزاز  جيرانها وجرهم لساحة المعركة، وفي إطار ردود الأفعال والعمليات الإنتقامية التي يمكن أن تصدر من الأطراف المعنية خاصة مع ما يكتنفها من موجات غضب عارمة بسبب الجرائم الإسرائيلية في الحرب على غزة. فهل يمكن أن تشهد الفترة القادمة ما نخشى عواقبه على الصعيد العربي والشرق أوسطي؟

لقد تسببت حرب غزة في إثارة موجات السخط والغضب لدى شعوب المنطقة كما حذرت أطراف إقليمية من انعكاس الممارسات الإسرائيلية الإجرامية ضد الفلسطينيين على ارتفاع مستوى التوتر  ونددت بهذه الممارسات بشكل يشي بأنها لن تسكت!!

بين مخاطر الحرب ومرارة الحياة داخل مخيمات النازحين

إن الفلسطينيين يعانون في الحرب أشد المعاناة لاسيما قطاع غزة ومن هناك تقول سمر أبو العوف الإعلامية الفلسطينية للحصاد: إن ما ترونه على كل وسائل الإعلام ليس سوى واحد في المائة من الحقيقة المُرة .. كل لحظة نعيشها فيها من العجب ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر من القهر والذل والمرض والأوبئة..لكم أن تتخيلوا كيف يعيش مليون ونصف نازح ومشرد في مدينة رفح التي لا تتجاوز مساحتها 100 كم من مختلف محافظات قطاع غزة.. لاشك أن المشهد مخيف جدا فنحن مطالبون بالركض يوميا لمسافات خيالية لتوفير لقمة وشربة ماء تبقينا على قيد الحياة.. فكرة التوقف للحظة قد تقتلنا وتقتل أطفالنا جوعا وعطشا..هناك من يبقى لعشرة أيام وهو يبحث عن رغيف واحد يطعم به أطفاله، وكل هذا في ظل رعب أصوات القذائف والصواريخ والقصف والطائرات الحربية فوق رأس المدنيين العُزّل. لقد أصبح كل شئ مؤلم في مخيمات النزوح بغزة والخصوصية منعدمة داخله .. حتى دورة المياه عبارة عن جدران من القماش وطبعاً لا يوجد مرحاض هي حفرة في التراب وفقط ويتم طمرها بعد ذلك، يعني كأن النازحين “قطط” وليس بشر !الوضع مزري جداً الآن، والمصيبة الأكبر أن هذا الحال سيستمر طويلاً حتى لو انتهت الحرب لأن هناك آلاف العائلات فقدت منازلها وستبقى في الخيم حتى تحدث معجزة الإعمار !

 تضيف أبو العوف أن الرفاهية الوحيدة الموجودة في قطاع غزة هي تعدد طرق الموت التي لا تملك حق اختيار اي فيها وقد ياتيك الموت من كل الخيارات دفعة واحدة قهرا وجوعا وعطشا ونزوحا ومرضا وبردا أوقصفا يسكت آخر ما تبقى من أنفاسك.

لقد انعكست هذه الأوضاع المزرية على تدهور الأوضاع الصحية وفي ظل عدم وجود أدوية ولا مواد طبية مطلوبة للعمليات كان هناك أكثر من ألف طفل فلسطيني بترت أطرافهم دون تخدير في قطاع غزة حسب اليونسيف. وتحكي “سمر” للحصاد عن تجربة مريرة لخالتها التي أجرى لها الجراحون عملية ولادة قيصرية بدون بنج أو ما يشبه ذلك حيث يوجد نقص شديد في مواد التخدير  مما يضطر الأطباء لتقسيم الجرعة الواحدة على عدد من الحالات وتقول: كانت خالتي تقول للجراح وهي تصرخ أنها تشعر بالمشرط على جسمها!

وتزداد معاناة الفلسطينيين إذا كانت مهام أداء عملهم كمراسلين أو صحفيين، تستلزم وجودهم في ساحة القتال والمناطق الساخنة مما يعني تركهم لعائلاتهم وتزداد المعاناة إذا كانت المراسلة امرأة ولها أطفال صغار هي المسؤولة عنهم. من تجربتها الشخصية تقول سمر أبو العوف لقد اضطررت للنزوح من غزة للجنوب وخرجت بسرعة من شغلي إلى الدار وفتحت الباب وألقيت نظرة سريعة وصرت ألف حول نفسي وأنا أتساءل: شو بدي آخد ؟ وللأسف ما استطعت أن أخد كل الأشياء المهمة سواء متعلقاتي الشخصية أنا وأولادي أو ما يخص شغلي من أرشيف وكتب وخلافه.. وفي النهاية غادرت المكان وأنا أبكي ذكرياتي به مع الجيران والجدران..وتركت مفتاحي لدى جيراني على أمل العودة، إننا صرنا نعيش في كابوس لا نعرف متى ينتهي!

فشل سياسي وعسكري وخراب اقتصادي

أما الوضع في إسرائيل فيكشف عن فشل ذريع لحكومة الاحتلال على كل الأصعدة ولم تفلح المجازر التي يرتكبها الجنود الصهاينة ضد المدنيين الأبرياء يوميا في تحصينهم من سخط الإسرائيليين عليهم، خاصة مع وجود تداعيات وخيمة للحرب على حياتهم اليومية أصابتهم بخسائر اقتصادية موجعة، إضافة إلى الخسائر التي مني بها الجيش منذ أعلنوا الحرب على غزة وسقوط عدد كبير من جنود الإحتلال بين قتلى وجرحى. وفي مقالة له يقول عريب الرنتاوي مدير مركز القدس للدراسات السياسية أنه بعد مرور أكثر من ثلاثة أشهر على الحرب الإسرائيلية في غزة، كان هناك

عشرات القتلى والجرحى في صفوف القوات الإسرائيلية الغازية كما تعرضت قيادات عسكرية كبيرة لأزمات قلبية لهول ما أصاب جنودهم في غزة ومنهم لواء غولاني الذي مات بالسكتة القلبية لهذا السبب، إلى جانب إصابة أكثر من 9000 ضابط وجندي إسرائيلي بأمراض نفسية استلزمت إدخالهم إلى غرف العلاج النفسي. ولازالت الخسائر الإسرائيلية تتوالى وسط حالة من السخط العام وتوجيه الاتهامات للجيش بحسب مصادرهم العسكرية وصحفهم الرسمية. فقد كشفت صحيفة يديعوت أحرونوت الإسرائيلية في تقرير لها بأنه لم تكن هناك خطط عملياتية للجيش الإسرائيلي قبل التوغل البري في غزة مما أدى إلى ارتفاع خسائره الموجعة في القطاع الفلسطيني. وقد تعددت إحصائيات هذه الخسائر ولكنها تبلغ مئات القتلى من الجنود والضباط وآلاف الجرحى إلى جانب العشرات من الآليات العسكرية. وكانت شهادة إيهود باراك رئيس الوزراء الإسرائيلي السابق بأن جيشه لم يحقق أهداف الحرب، تأكيدا على فشل الحرب الإسرائيلية باعتراف الإسرائيليين أنفسهم.

كما تشير الوقائع إلى أن استمرار الحرب دفع البنك المركزي الإسرائيلي للقيام بإجراءات اقتصادية لمواجهة شبح الإفلاس الذي يهدد البلاد جراء الإنهيار الاقتصادي الذي حدث. من هذه الإجراءات بيع 8.2 مليار دولار من النقد الأجنبي في أكتوبر ضمن برنامج البنك ذي الثلاثين مليار دولار وهي أول حادثة من نوعها ما أدى إلى حدوث تراجع كبير في الاحتياطي.

وكانت صحيفة “فورين بوليسي” الأميركية أفادت بأن اقتصاد الحرب الإسرائيلي لا يستطيع أن يصمد إلى الأبد، وأنّ التعبئة العسكرية خلقت ضغوطاً اقتصادية خطيرة في “إسرائيل”. وأشارت في تقرير لها أن القطاع الزراعي تأثر كثيرا بالسلب حيث هرب ما يقرب من 7000 عامل تايلاندي من إسرائئيل ممن كانوا يشكلون الجزء الأكبر من القوة العاملة في القطاع. ووصلت الكارثة لدرجة أنهم لجأوا إلى الطلاب المتطوعين لجمع الثمار بعد أن اصابها العفن لتأخر جنيها. وأضافت الصحيفة أن قطاعات النفط والغاز والسياحة والرعاية الصحية وتجارة التجزئة والتكنولوجيا تأثرت كثيرا أيضا بالحرب الأمر الذي انخفض معه الشيكل الإسرائيلي بالفعل إلى أدنى مستوى له منذ 14 عاماً، وخفض البنك المركزي توقعات النمو الاقتصادي للعام الجديد من 3% إلى 2.3%. كما كانت هناك آثار مباشرة للحرب تمثلت في إجلاء نحو ربع مليون شخص واستدعاء 360 ألف جندي احتياط ممن كانوا يعملون في وظائف مدنية قبل الحرب وهو ما يعني تحمل مؤسساتهم لخسائر كبيرة.

عمليات الاغتيالات ومخاطر تداعيات التصعيد

وفي المقابل نجد نتنياهو مصرا على استمرار الحرب بل وتوسيعها إقليميا غير مكتف بإلقائه أكثر من 50 ألف طن من المتفجرات على أهل غزة بما يفوق ضعف قوة القنابل الذرية التي ألقتها واشنطن بالحرب العالمية الثانية على كل من هيروشيما وناغازاكي، وإنما سعى لمزيد من التصعيد الإقليمي حينما قام بعمليات اغتيال تجاوزت حدود معركته مع الفلسطينيين من أجل ملاحقة رموز حركة المقاومة بالخارج وهو تطور خطير  يعني نجاح إسرائيل في اختراق أمن تلك الدول التي تشهد عمليات الاغتيالات الإجرامية على أرضها. وهنا يقول الرنتاوي أن هذا التصعيد قائم على هدف إسرائيل بضرب عصفورين بحجر واحد فهي تنتقم وتتخلص من رؤوس الداعمين للمقاومة الفلسطينية سواء في لبنان أو أي مكان آخر إلا أن هذا الأمر يثير المخاوف من تداعيات خطيرة تجرف لبنان إلى ساحة القتال والمواجهة في ظل تأكيد حزب الله على الانتقام لقياداته التي تم اغتيالها.

لاشك أننا وصلنا لمرحلة خطيرة من التصعيد بسبب الحرب الإسرائيلية على غزة واحتمالات اتساع دائرتها في ظل التطورات الأخيرة التي صاحبها عمليات اغتيال متكررة في صفوف محور المواجهة وهنا يثور التساؤل عما يمكن أن تؤول إليه الأحداث!

هناك حزب الله الذي فقد العشرات من مقاتليه وقياداته باستهداف الاسرائيليين لهم وانتقاما من دعمهم للمقاومة الفلسطينية ويقبع من وراءهم الحوثيون في منطقة البحر الأحمر تلك المنطقة الحيوية من العالم والتي شهدت نشاطا ساخنا لجماعة الحوثي في مواجهة السفن العابرة بالمنطقة مما استدعى التدخل الأمريكي بشكل يشي بوجود توتر شديد الحرارة قد ينجم عنه انفجار للأحداث وخروج عن السيطرة خاصة إذا ما اضطرت إيران للدخول بشكل مباشر إذا ما شعرت بتهديد خطير يقترب منها خاصة ما يتعلق بالتعرض لناقلات النفط والسفن الإيرانية والتي تحرص إيران على كفالة حمايتها ومن ثم فإن أي تصعيد لن يكون محمود العواقب.

ويبقى للعالم العربي والإسلامي دوره المهم الذي يجب أن يقوم به، لابد أن يفعل شيئا وأن تكون هناك ردود أفعال رادعة لحماية ما تبقى من غزة وأهلها، ومنع إسرائيل من جر المنطقة إلى مزيد من الدمار والخراب.