تهجير غزة … خيار شمشون

      “هذه أم النكبات لا شيء مثلها  “هكذا قال لي مواطن رحل من منطقة الشيخ رضوان شمالي قطاع غزة إلى رفح أقصى جنوب قطاع غزة ليجد نفسه لاجئا من جديد بعد أن هاجرت أسرته من قرية بيت جرجا التي أصبحت داخل الحدود الإسرائيلية إثر طرد الفلسطينيين عام 1948 من بلداتهم الأصلية فيما عرف بعام النكبة ، كل ما قاله الفلسطينيون عن أحداث النكبة الكبرى اتضح أنه كان عملا متواضعاً أمام ما يحدث لهم في هذه الحرب الأخيرة التي يتعرض فيها الفلسطينيون ليس فقط للطرد بل للتجويع والقتل والإبادة .

     عادت الذاكرة الفلسطينية مستدعية تاريخها الطويل بالرحيل ومن رحلة إلى أخرى بعد أن ظن الفلسطيني أن الرحلة الأولى عام 48 و الثانية عام 67 التي تلتها بعقدين بعد أن أكملت اسرائيل احتلالها وسيطرتها على الضفة الغربية والقدس وقطاع غزة ظنوا أن تلك آخر رحلات الهجرة واللجوء وأن غزة ومناطقها الصغيرة التي توزع بها اللاجئون وتقع أقصى جنوب الجنوب في فلسطين ستكون المحطة الأخيرة دون أن تعتقد أن القدر يخبئ لها ما هو أشد ضراوة بعد خمسة وسبعون عاما من النكبة ليعطيهم نكبة أكثر توحشا وقسوة .

     كل ما أنتجت اللغة العربية من كلمات لا تكفي لوصف الكارثة التي تتجسد في غزة ، ما يحدث أكبر من كارثة وأكبر من مأساة وأكبر من نكبة وأكبر مصيبة حلت بشعب لن ينجو من آثارها لعشرات السنين ولكن إذا كان العقل الفلسطيني قد غادر النكبة التي تسببت بتشريد الشعب ووزعته على المنافي لكن من بقوا في حدود الضفة الغربية وقطاع غزة أعادوا انتاج مجتمعهم من  جديد ومنه أعادوا انتاج حركة وطنية تكفلت بإنتاج هوية وطنية كان عمادها الثبات على الأرض فقد فاتت اسرائيل اللحظة في أن تهجرهم خارج فلسطين فقد بقوا ولا مجال لهجرة أخرى فقد تغير الزمن وتغير العالم .

        لم يكن في أسوأ كوابيس الفلسطينيين أن تعود إسرائيل لتتحدث عن التهجير من جديد ، فالنقاش العام الدائر في هذه الحرب ينشغل وبقوة بالبحث عن مخرج نهائي للحل مع غزة في ظل حرب الإبادة التي تتمنى أن تختفي غزة بسكانها عن الخارطة كما تمنى رابين يوما أن يصحو من النوم ويجد غزة وقد ابتلعها البحر … حاولت اسرائيل أن تجد حلولا مع غزة بما فيها توفير أموال للحركة الإسلامية التي قامت بعمليتها الكبيرة يوم السابع من اكتوبر من خلال دولة قطر بثلاثين مليون دولار شهريا لها في محاولة لصناعة سياسة تبقي انقسام الفلسطينيين كضمانة لإجهاض عمل سياسي يؤدي لإقامة دولة فلسطينية لكن تلك السياسة انقلبت على راسها في أسوا ضربة تتلقاها اسرائيل منذ إقامتها .

          بعد ثلاثة ايام من  هجوم اسرائيل على غزة وفي العاشر من أكتوبر أفلت لسان رئيس وزرائها بنيامين نتنياهو مطالباً الفلسطينيين بالخروج من منازلهم وبعد ذلك كان وزير الزراعة آفي ديختر الذي شغل منصب رئيس المخابرات سابقا يصرح بأن اسرائيل تصنع نكبة جديدة للفلسطينيين … في الأسابيع الأولى كان الحديث عن الهجرة والنزوح يخرج مجرد تصريحات ولكنه الآن بات جزء من النقاش العام في تل أبيب وواحدا من أبرز مشاريعها بعد أن تمكنت من تأهيل قطاع غزة لعدم صلاحيته للحياة وتاهيل الحالة العربية للصمت ومعها العالم وتأهيل الرأي العام لفكرة التهجير .

           هذا القطاع الصغير الذي أرّق اسرائيل لعقود تفكر المنظومة الإسرائيلية أن هناك فرصة قد توفرت لإقتلاعه وتحقيق حل دائم مستعينة بما حدث لها في السابع من أكتوبر وتحت هذا الستار جاءت الفرصة لتنفيذ المشروع الذي لم تكمله عام 48 حين دفعت اللاجئين الفلسطينيين إلى منطقة داخل فلسطين وليس خلف الحدود المصرية ليصبح القطاع خزاناً للاجئين يتوالدون ويتكاثرون وينتجون كتلة اجتماعية متعطشة للعودة لبلدانها فيصنعون ثورة ومنظمات مقاتلة وتلك كانت أولويتهم ما شكل أزمة لإسرائيل كانت تكبر مع تزايد أعدادهم فما الحل إذا وقد جربت معهم كل الحلول السياسية والعسكرية ولم يبق سوى الإقتلاع وتفريغ غزة .

        في مقابلة مع إذاعة الجيش الإسرائيلي في الحادي والثلاثين من ديسمبر شدد وزير المالية اليميني وزعيم حزب الصهيونية الدينية بتسلئيل سموتريتش على ضرورة سيطرة اسرائيل على غزة وتقليص جوهري في عدد الفلسطينيين الذين يبلغون 3.2 مليون نسمة إلى 100 – 200 ألف فلسطيني فيما كشف أحد نواب حزب الليكود الحزب الذي يحكم اسرائيل حاليا أن رئيس الوزراء بنيامين نتنياهو أعلن أنه ينوي تشكيل فريق عمل خاص بمكتبه يدرس إمكانية ترحيل عشرات ألوف الفلسطينيين من قطاع غزة ” بشكل منظم وبالترتيب مع دول غربية تبدي الإستعداد لإستقبالهم فيها ” .

         لكن النقاش الأكثر عمقا كان يدور في ساحة أخرى هي حلبة التفكير والدراسات التي تنتج سياسة جديرة بالإهتمام أكثر من السياسيين فالدكتور مارتن شيرمان مؤسس المعهد الإسرائيلي للدراسات الإستراتيجية وعضو فريق في البحث التابع لحركة الأمنيين يقول ” لقد أظهر التخلي عن المستوطنات في غلاف غزة بشكل لا لبس فيه أنه في النهاية إما أن يكون هناك يهود في النقب أو عرب في غزة ولن يتمكن كلاهما من العيش معاً “

   في الثالث عشر من أكتوبر بعد أقل من أسبوع من الحرب كانت وزارة الإستخبارات الإسرائيلية قد أصدرت وثيقة مكونة من عشر صفحات تم فيها فحص بدائل بعد أن تنتهي هذه الحرب ، الأول حكم السلطة الفلسطينية ، والثاني ظهور حكم محلي عربي ، أما الثالث إجلاء السكان من غزة إلى سيناء لكن كما تشير الوثيقة أن الخيارين الأول والثاني يعانيان من أوجه قصور كبيرة خاصة فيما يتعلق بأهميتهما الإستراتيجية وعدم جدواهما على المدى البعيد وكلاهما لن يوفر الردع المطلوب وتقول أن البديل الثالث وهو نقل سكان القطاع هو الذي سيحقق نتائج استراتيجية ايجابية طويلة المدى لإسرائيل كما أنه قابل للتنفيذ .

     لم يقتصر الامر في اسرائيل على النخبة السياسية اليمينية صاحبة مشروع الترحيل قبل الحرب والتي توفر لها الظرف والإمكانيات ولا النخبة الثقافية الفكرية بل إيضا الشارع الإسرائيلي ففي استطلاع أجري لمعرفة درجة دعم الإسرائيليين لتهجير سكان غزة خارج القطاع طلب من المشاركين رأيهم أعرب 80% من المستطلعين في الإستطلاع عن درجة ما من الدعم لهذه الخطوة حيث أن 50% وافقوا بشدة و 15% وافقوا وكذلك 15% وافقوا جزئيا  بينما أن 19 % أبدوا عدم موافقتهم وفقط 6% عارضوا بشدة تهجير الفلسطينيين من غزة .

        وفي اطار الجدل الدائر لم يكن من الصدفة ان ينشر دانييل غورديس ممثل الإعتدال المركزي البارز والمعروف وصاحب مدونة اسرائيل من الداخل أن ينشر على مدونته مقالاً مؤيداً لتشجيع الهجرة العربية ” كضرورة عملية وأخلاقية ” حيث اقتبس غورديس من المقال ” لا فائدة من احتلال القطاع دون نقل سكانه إلى مكان آخر حيث سيعيشون تحت سيادة مختلفة ومن وجهة نظر عقلانية هذا هو الحل ” ويضيف ” إن هذا الإستنتاج يضع اسرائيل أمام مهمة هائلة وهي التبرير الأخلاقي الداخلي والدولي لتحرك وطني لتشجيع الهجرة الغزية وهذه مهمة هائلة لأن الغرب أصبح معتادا على التفكير في تشجيع الهجرة بإعتبارها الجريمة الكبرى سيتعين عليه أن يمر بثورة وعي لكي يفهم أن هذا الحل هو الأكثر اخلاقية والأكثر انسانية .

     ” إذا تم استبعاد الهجرة العربية فما هي السياسة التي ينبغي لإسرائيل أن تتبناها في المستقبل عندما ينتهي القتال ؟” سؤال طرح في مراكز التفكير بالإشارة إلى الإستعصاء القائم مستقبلا بالنسبة لدولة لا تعرف سوى الحروب والترحيل بلا تفكير سياسي بالإشارة إلى خيار أطلق عليه خيار  هوبسون  يقول ” إذا كانت نقطة البداية المقبولة هي أن اسرائيل يجب أن تستمر في الوجود كدولة قومية للشعب اليهودي فلا يوجد بديل آخر يتمتع به بإمكانية التطبيق العملي أو التفوق الأخلاقي وفي الواقع فإن الهجرة العربية من غزة هي الخيار وبخلاف ذلك لا مخرج “

الإجماع الذي يتشكل ويتنامى لفكرة التهجير بات يشكل سياسة أصبحت تسيطر على العقل الإسرائيلي المهتز بضربة السابع من أكتوبر فقد أصيب بتشتت كبير يدفعه لأقصى الحلول وأكثرها تطرفا هذا لا يقبله العالم الذي يصدر ردود أفعال رافضة منها الأميركية والفرنسية لكن التجربة تقول أن اسرائيل تفعل ما تريد حتى وسط المعارضات الدولية والامثلة كثيرة فهل يصبح تهجير سكان غزة واقعاً تفرضه القوة الإسرائيلية ولوثتها ؟ هناك خشية فالشعب الملدوغ جرب ذلك لأن الإسرائيلي المضروب على رأسه يفكر بخيار شمشون .