يتراجع حضور المثقفين اللبنانيين اشخاصاً ومؤسسات الى خلفية الصورة في وطن فقد صورته المعهودة كمركز ثقافي للشرق العربي. وقد كان لبنان وعاصمته بيروت يشكلان مركزاً للقاء المبدعين العرب ولعرض ونشر أعمالهم وللتفاعل مع الغرب الاوروبي الذي أتقنه اللبنانيون منذ بدايات عصر النهضة العربية.
وللدلالة على التراجع نلاحظ الاهتمام المحدود بغياب علمين من أعلام الثقافة في لبنان، الأول هو حبيب صادق الامين العام للمجلس الثقافي للبنان الجنوبي الذي استطاع لمدة تزيد عن ثلاثين عاماً أن يشكل عبر المجلس فضاء حراً للمثقفين من أهل الجنوب ولزملائهم اللبنانيين والعرب في مرحلة التجاذبات الطائفية وشبه الطائفية التي قزمت الحراك الثقافي في لبنان ووظفت مظاهره في دعم الميليشيات الطائفية ونقل الثقافة من مجال الحرية الرحب الى اختناقات التعصب والتحامل. كان حبيب صادق رمزاً لنجاح مؤسسة الحرية وهزيمة لمؤسسات الاستعباد الجديدة التي تستعير من محطات التاريخ الفاشلة ما يعزز الروح الميليشيوية وما يضع الحواجز بين الناس في حراكهم اليومي وفي وعيهم الثقافي الذي يهتز ويسقط في بئر العصبية العمياء. والتحدي اليوم هو ان ينجح زملاء حبيب صادق في اكمال مسيرة المجلس الثقافي للبنان الجنوبي المنفتحة على الجديد والنأي بالنفس عن عصبيات التخلف الجديدة.
والعلم الثاني الذي غاب في لبنان هو سمير الحاج شاهين الروائي والمترجم والباحث في الموسيقى الكلاسيكية (كتابه “روح الموسيقى” منشورات الجمل). ابن مدينة زحلة التي أعطت الشعر العربي أعلاماً في الوطن والمهجر، وجددت التعبير الشعري محتفظة بأمانة اللغة ومركزة على جمالياتها في اطار التجديد. كان سمير الحاج شاهين اشبه براهب في بيته وتفاقم اعتزاله مع انهيار المجتمع والثقافة في وطنه لبنان. ولم تخصص الصحف مساحة لخبر موته، هي التي تملأ صفحاتها بالمراثي لدى وفاة أي زعيم لأي مجموعة متعصبة ملتفة على ذاتها في لبنان المنكوب. ومن ابرز ترجمات شاهين الى العربية “أناشيد مالدورور” للشاعر الفرنسي لوتريامون (صدر عام 1870) الذي يعتبره النقاد اول كتاب في قصيدة النثر (نشرت الترجمة المؤسسة العربية للدراسات والنشر عام 1982).
ومن أجواء “أناشيد مالدورور” هذه المقاطع:
- فوق عنقي، كما فوق مزبلة، ينمو فطر ضخم ذو سويقات حيوانية، جالساً فوق اثاث بلا شكل محدد، فأنا لم أحرك أعضائي منذ أربعة أجيال حتى تجذرت أقدامي في التربة، وتشكل حتى مستوى بطني، نوع من نبات حيّ مليء بطفيليات مقززة، ولست مشتقاً من العشب كما لم يعد لي لحم. مع ذلك فان قلبي ينبض، وأنّى له أن ينبض لو لم تكن عفونة جثتي (لا أجرؤ أن أقول جسدي) تغذيه بغزارة؟
- تحت ابطي الايسر اتخذت عائلة من الضفادع لها مقراً. وعندما يتحرك أحدها فانه يدغدغني. حاذروا أن يهرب ضفدع من تحت ابطي ويأتي ليحك بفمه باطن أذنكم: انه قد يكون خليقاً بعد ذلك بدخول دماغكم. وتحت ابطي الايمن حرباء تطارد هذه الضفادع باستمرار كي لا تموت جوعاً: كل واحد يحب أن يعيش، لكن، عندما يحبط أحد الفريقين حيل الآخر. لا يبقى سوى أن يمتصوا جميعاً الشحم الرقيق الذي يغطي جوانبي، وقد اعتدت على هذا الأمر.
- ايها المسافر عندما تمرّ بقربي، لا توجّه اليّ، أرجوك، أدنى كلمة قد تضعف شجاعتي. دعني ادفئ عنادي بشعلة الاستشهاد الطوعي. ان الحقد هو اغرب مما تظن أن سلوكه غير قابل للتفسير، كالمظهر المحطم لعصا مغموسة بالماء، وأنا لا يزال في امكاني، حتى في الحالة التي تراني فيها، ان اقوم بنزهات حتى أسوار السماء، على رأس فيلق من المجرمين، وأن أعود لاتخذ وضعية الجسم هذه، ولأفكر ملياً من جديد بمشاريع الانتقام النبيلة. وداعاً، ولن أؤخرك من جديد، ولكي تتعلم وتتوقّى، فكر بالقدر المحتوم الذي قادني الى التمرد في حين انني ولدت ربما طيباً.
لا وقت للوداع في لبنان، وقد لا يبدو ضرورياً في اجواء صراع الافواه وصراع المعاني، ولنقل ان اللبنانيين تجاوزوا صراع المعاني بعدما فقدوها معنى تلو الآخر، فتحولت الوطنية الى عصبية متعيشين حول زعيم لا يستطيع تبريراً لثروته المشكوك فيها، أو متحلقين حول رجل دين يبيع الأوهام مثل دخان اسود يحجب رؤية الطبيعة ويمنع شكر الله على حسن صنيعه ببشر قليلي الوفاء. لكن كلام السياسيين اللبنانيين يتكرر الى حدّ يبعث الملل فيقل عدد السامعين، ويصل الامر بالسياسيين انفسهم الى الاصابة بالملل أيضاً. لهذا تمر أحياناً ايام من الصمت لا بد منه ليستريح الثرثارون.
ويلجأ محترفو الكلام السياسي الى ما يعتبرونه تجديداً في المعاني فيقدمون اقتراحات للنقاش حول اللامركزية لحل مشكلة لم يتقنوا وصفها. يتكلمون عن حل واضح لمشكلة غامضة، فتضج الصحف والتلفزيونات ومراكز الأحزاب بنقاش لا يفهمه مطلقوه فكيف يفهمه السامعون؟ هكذا يصل الجميع الى جدران مسدودة تقطع طرق التفكير.
وعلى رغم وفرة التناقضات بين اللبنانيين اليوم يكتشف الجميع فجأة انهم متشابهون، وأن التناقض الذي يضخمونه ويعلنونه شعاراً لحربهم السياسية وغير السياسية، انما هو وهم أو، على الأقل، رغبة تبدو قريبة من التحقق لفترات محدودة، ثم تعود الى واقعها باعتبارها رغبة لا أكثر ولا أقل.
والواقع ان لبنان يواجه، بالاضافة الى قادته الميليشيويين وشبه الميليشيويين، مشكلتين رئيسيتين ليستا وليدتي هذه المرحلة بقدر ما هما وليدتا نهاية اربعينات القرن الماضي حين سقطت فلسطين، أو معظمها، في ايدي الحركة الصهيونية، وسقطت سوريا، الجارة الآخرى للبنان، في ايدي حكام عسكريين يمنعون النمو الطبيعي للحكم المدني في بلد حديث الاستقلال، بدعوى اولوية الصراع مع اسرائيل.
هكذا يغرق لبنان أكثرفأكثر في المشكلتين الاسرائيلية والسورية، الى حدّ انه يفقد استقراره ويدفع نخبه الى مغادرة وطنهم، كما يرهن مواقف سياسييه، أو من تبقى منهم، بمصالح دول نافذة في المنطقة والعالم. كل هذا يتراكم الى حدّ تعميم الفساد وجعل التجربة اللبنانية في الاعتراف بين الطوائف وفي حرية الاقتصاد والفكر والعمل والسفر، أشبه بتجربة عابرة لا نستطيع شرحها للأجيال الجديدة فنكتفي بحنين غير مفهوم.