فرنسا: حلقات الانفجار

“ثورة نائل” وأسئلة الدولة والتهميش والديمقراطية والاندماج

يكاد مشهد الاحتجاجات أن يكون جزءا بنيويا من “أسلوب العيش” الذي تنتهجه البلاد منذ عقود، وخصوصا في السنوات الأخيرة. وتكاد فرنسا أن تحتكر خصوصية في سوء تدبير مقاربة حكوماتها وأحزابها لمشكلة المهاجرين من جهة ولمشكلة التهميش الذي تعيشه المناطق الشعبية والأحياء الفقيرة في البلاد. وتبدو فرنسا عاجزة منذ عقود عن

“ثورة نائل” تفضح فشل حكومات باريس المتعاقبة

مقاربة إشكالية “الضواحي” وإصلاح علاقة الدولة بالمجتمع المهاجر أو المنحدر من أصول مهاجرة. ومن يراقب هذه المسائل يلاحظ حالة التوتر في علاقة سكان هذه الأحياء برجال الشرطة، بما بعبّر عن أزمة ثقة بين الدولة وشريحة وازنة من المجتمع في فرنسا.

وما تشهده فرنسا هذه الأيام من أعمال شغب واسعة النطاق ليس جديدا في تاريخ البلد، لا سيما في العقود الأخيرة وخصوصا تلك التي استمرت 3 أسابيع عام 2005 في عهد الرئيس الراحل جاك شيراك حين كان الرئيس الفرنسي الأسبق نيكولا ساركوزي يشغل منصب وزير الداخلية. وأن ينتشر الغضب من ضاحية نانتير غرب باريس صوب ضواح ومدن فرنسية أخرى قريبة وبعيدة عن مركز الحدث، فذلك يكشف مقدار حجم النار الخامد تحت الرماد والذي ينتظر مناسبة للاشتعال.

“ثورة نائل”

انفجر صاعق هذه الاحتجاجات الثلاثاء 27 حزيران (يونيو) الماضي بعد احتكاك دراماتيكي بين رجلي شرطة وإحدى السيارات في مدينة “نانتير” تطوّر حين انطلق السائق (17 عاما) بسيارته متفلتاً ما قاد إلى إطلاق أحد رجال الشرطة النار على السيارة الهاربة فأردى الفتى “نائل” قتيلاً. فجّر الحدث موجة غضب عارمة وصلت إلى حدود مرعبة خطيرة أعادت بالذاكرة إلى 18 اكتوبر 1980 حين قتل شرطي هواري بن محمد (17 عاما) وأثار الأمر غضباً عارما. ولا يبدو أن الأمور تبدّلت كثيرا مذاك.

إثر مقتل “نائل” شهدت عشرات المدن هجمات، بعضها منظّم، ضد مبان حكومية ومخافر شرطة وسجون ومدارس وبنى بلدية وبنى تحتية عامة طالت وسائل نقل من حافلات وقطارات ناهيك عن حرائق طالت مئات من السيارات. أثار الأمر تخوّفا من انفلات الوضع وتدحرجه نحو احتكاكات أهلية تتجاوز صدام الشارع مع الدولة. بدا الأمر خطيراً إلى درجة أن القيادات المجتمعية المحلية للأحياء التي تفجّر فيها غضب الأهالي راحت تكثّف الدعوات للحكمة

: ماكرون: لا تبرير لقتل “نائل” ولا تبرير لحرق المدن

والهدوء ونظّمت بحضور والدة الفتى الضحية “مسيرة بيضاء” من أجل تعبير سلمي عن الغضب ومطالبة بتحقيق العدالة.

يطرح الحدث من جديد مسائل قديمة-جديدة بشأن إدارة الصراع المجتمعي، الذي يأخذ أبعاداً سياسية في فرنسا. لسان حال سكان الضواحي يقول إن الأمر يعبّر عن حالة بنيوية متجذّرة من الاستخفاف بمشاكل الضواحي ودفع هذه المناطق وشرائحها المجتمعية نحو الهامش خارج المتن الحقيقي للبلد في خرائط الثروة والسلطة. ولسان حال رجال الشرطة يقول إنهم يدفعون ثمن معضلة هي من مسؤولية الدولة والنظام السياسي بكافة مكوناته الموالية والمعارضة وهم (الشرطة) يدفعون ثمن ذلك.

هي الجريمة، طالما أن المدعي العام وجه تهمة القتل العمد إلى الشرطي الذي أطلق النار، وضحيتها فتى ينحدر من أصول عربية مهاجرة. والمأساة التي دفع ثمنها ذلك الشاب وعائلته تطلق جدلاً يتكرر يتواجه داخله أولي اليمن وأولي اليسار، بعضه يأخذ أبعادا طبقية اجتماعية، لكن بعضها الآخر يأخذ بعدا هوياتيا ثقافيا يروق لأحزاب اليمين المتطرف والتيارات الشعبوية أن تعزف على أوتاره.

وما بين الدفاع الحازم عن “الشرطة صاحبة الحقّ في الدفاع عن أمن الفرنسيين” في خطاب اليمين المتطرف وإدانة اليسار لـ “رخصة القتل” الممنوحة لرجل الشرطة، وفق تغريدة لليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون، فإن استغلال الحدث من أجل تصفية حسابات سياسية وتغذية أجندات انتخابية يتقدّم على نحو انتهازي خبيث.

أجوبة باريس

استشعرت الحكومة الفرنسية جسارة “ثورة الضواحي” الجديدة. بدا أن الدولة فقدت السيطرة على الأمور وباتت فرنسا تستفيق في الأيام الأخيرة على مشهد أسود من رعب ودمار. كان الرئيس إيمانويل ماكرون وصف مقتل الفتى، بأنه “غير مفهوم” و”لا يمكن تبريره”، مشيراً إلى أن القضية “أثرت على الأمة بأكملها”، لكنه الخميس ندد بـ”مشاهد عنف .. لا يمكن تبريرها.”

 وكان من تدابير التهدئة قرار القضاء الفرنسي توجيه التهمة للشرطي وعدم الإفراج عنه وتقديمه للمحاكمة بما من

الشرطة الفرنسية متهمة بالعنصرية

شأنه خفض مستوى الغضب وبالتالي حجم الغضب. وجدير التنويه بأن الإعلام الاجتماعي وما أظهره من فيديوهات بشأن ظروف مقتل الفتى كان حاسماً في الدفع برواية قضائية كانت ستكون مشوّهة لو لم تكن الأدلة في الإعلان تثبت ما ارتكبه الشرطي بحقّ الضحية.

لكن حكومة رئيسة الحكومة اليزابيت بورن تحركت ميدانيا دافعة بالوزراء المعنيين، لا سيما رئيسة الحكومة ووزيري الداخلية والعدل، للقيام بجولات ميدانية مطلقين عدة مواقف.

 الأول، خطاب أسف وتفهّم لعمق المأساة التي نالت من حياة فتى بعمر 17 عاماً، وهو خطاب متسلّح بالاحتكام إلى العدالة وحدها واحترام مسالكها وقرارتها.

 الثاني، خطاب حزم هدفه طمأنة الناس بإمساك الدولة بزمام المبادرة من خلال استنكار ما طال الممتلكات العامة من ضرر مادي وما طال سكان الأحياء المتضررة من ضرر معنوي ومن خلال الإعلان عن تدابير أمنية رفعت عديد قوات الأمن المكلفة بمواجهة هذا التطوّر من 10 إلى 45 ألف رجل.

 الثالث، خطاب مناشدة (في طعم النقد والامتعاض) للطبقة السياسية بتجاوز حساباتها التكتيكية والمشاركة في الدعوة للهدوء  وعدم استغلال المناسبة لحساباتها السياسوية.

يأتي سياق الحدث متناسلا من سنوات من التوتر في الشارع ومن صدامات ميدانية شهدتها فرنسا منذ حركة “السترات الصفر” انتهاء بالاحتجاجات العنيفة بشأن إصلاح نظام التقاعد في البلاد. يأتي أيضا من داخل انقسام سياسي عبّرت عنه الانتخابات التشريعية الأخيرة في عام 2022 والتي أفقدت تحالف الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة وأنتجت برلمانا متصدّعا متشظيّا يعبّر بدوره عن انقسام داخل المجتمع الفرنسي نحوه.

 انتهاء زمن الوفرة

يمثل الصراع الداخلي في فرنسا هذه الأيام تحوّلا ليس بالضرورة محليا باتجاه انتهاء زمن “دولة الرعاية” التي ترعرعت على بحبوحة ما بعد الحرب العالمية الثانية. كان الرئيس إيمانويل ماكرون قد عبّر عن هذا التحوّل بإعلان جاف في آب (أغسطس) 2022 يبلغ فيه مواطنيه بانتهاء عصر “الوفرة”، داعياً إلى استيعاب هذه الحقيقة والاندماج بحقائقها.

أثار إعلان ماكرون آنذاك غضبا تيار يساري يقوده الراديكالي جان لوك ميلنشون. استنكر الرجل في خطاب مشحون بجرعات شعبوية عالية دوام “الوفرة” للأغنياء فيما بات مطلوبا من الطبقات الوسطى والدنيا أن تستعد، في ارتفاع مستويات العيش وتراجع القدرة الشرائية، لتحمّل تبعات انكماش اقتصادي مقلق

يلتقي اليمين المتطرّف بزعامة مارين لوبن مع نقيضه اليساري الراديكالي في شنّ الحملات ضد حكومة ماكرون التي تقودها اليسارية السابقة اليزابيت بورن لإسقاط خطط لإصلاح نظام التقاعد في فرنسا.

وإذا ما حلّ ميلنشون ثالثا (21 بالمئة) في الدورة الأولى للانتخابات الرئاسية التي جرت في أبريل الماضي بعد لوبن (23 بالمئة) وماكرون (27 بالمئة)، فإن كتلة ائتلاف اليسار البرلمانية التي يتزعمها ميلنشون من خارج البرلمان هي القوة الثالثة بعد كتلة اليمين المتطرف التي تقودها لوبن من داخل البرلمان وكتلة ائتلاف الأغلبية التي يقودها ماكرون من الإلييه.

نظام التقاعد

شهدت فرنسا خلال الأشهر المنصرمة غضبا عارما ضد مشروع الحكومة لإصلاح نظام التقاعد. أهم بنود القانون رفع سنّ التقاعد من 62 إلى 64 عاماً. والإصلاح الذي تقدمت به حكومة اليزابيت بورن هو جزء من الوعود الانتخابية لماكرون في حملته الرئاسية. وكان الأخير قد استجاب لضغوط سابقة وتراجع عن رفع سنّ التقاعد إلى 65 عاما على منوال ما هو معمول به أو بأعلى منه في دول أوروبية أخرى

أُقر القانون على أن العمل به في عام 2027، على أن يرتفع سن التقاعد بدءاً من تلك السنة وتدريجياً كل ستة أشهر، حتى يصل إلى 64 عاماً في نهاية العقد. لكن المسألة تبدو صعبة وربما مستحيلة ما قد يحول بسقوط القانون وربما سقوط الحكومة خلفه.

فرنسا هي من الدول القليلة (اليونان وإيطاليا ولوكسمبورغ وسلوفينيا مثلا) التي لم ترفع من بين دول أوروبية داخل وخارج الاتحاد الأوروبي سنّ التقاعد (بريطانيا: 66 عاما، ألمانيا: 67 عاما مثلا). وجهة نظر الحكومة تقول إن ارتفاع معدل الأعمار في فرنسا أوجد بونا شاسعا بين الحاجة إلى دفع مخصصات المتقاعدين وقدرة القوة العاملة على تمويل الأمر.

تتحدث الوثائق الحكومية عن أن نظام التقاعد الحالي كان يقوم على نسبة قيام أربع أشخاص من القوى العاملة بتمويل مخصصات متقاعد واحد، فيما هبطت هذه النسبة إلى 1.7 حاليا. وتحذّر الحكومة من أن انخفاضا قادما لا محالة سيطرأ على هذه النسبة، ما سيؤدي إلى انهيار نظام التقاعد وحرمان أجيال اليوم من امتيازات التقاعد غدا.

موقف الأحزاب والنقابات

تقاطع أقصى اليمين وأقصى اليسار في رفض الخطة الحكومية وكانا يتنافسان على إظهار حرصهما على حماية “المكتسبات” الاجتماعية. وكانا يلتقيان أيضا في رفض الحرب في أوكرانيا وإدانة كلفتها واستنكار الفلسفة العسكريتارية التي تنضم فرنسا إليها في التعامل مع الحقيقة الروسية ويعتبران أن تلك العقائد الاقتصادية والسياسية والجيوستراتيجية تسبب أزمة التمويل لمكتسب اجتماعي عريق.

واللافت أن النقابات الفرنسية التي لطالما كانت متباينة في أيديولوجياتها متناقضة في مصالحها متفرّقة في أجنداتها تقف جميعها يدا واحدة نادرة ضد الخطّة الحكومية وتنظم الإضرابات والمظاهرات مجتمعة على نسق ليس معتادا في التاريخ النقابي في هذا البلد.

تحرك الشارع بكثافة في المدن الفرنسية لكن النقاش احتد بضراوة داخل الجمعية الوطنية (البرلمان). عوّلت حكومة باريس على تفكّك نسبي للتحالفات البرلمانية والنقابية المعارضة لخطة إصلاح نظام التقاعد. تملك الكتلة البرلمانية الموالية للإليزيه أغلبية نسبية لا تمكّنها من تمرير قوانين الإصلاح بالقوة الذاتية. أنتجت الانتخابات البرلمانية الأخيرة برلمانا متشظيا أوقع النظام السياسي في وضع حرج تحتاج الحكومة بسببه إلى عقد تحالفات موضعية مؤقتة لتمرير قوانين أو استخدام أحد بنود الدستور الذي يجيز للحكومة تمرير قوانينها حتى لو لم تحظ بالأغلبية شرط قبولها بتصويت البرلمان على الثقة بالحكومة إذا أراد ذلك. بالنهاية مررت الحكومة القانون بشكل قهري تتيحه مواد البرلمان بما سبب إحباطا للشارع والمعارضة والنقابات.

السترات الصفر

تفاجأ الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون بالحراك الواسع الذي أظهرته “السترات الصفراء” الذي انطلق في 17 تشرين الثاني (نوفمبر) 2018. تفاجأت المنظومة السياسية التي أرساها الرجل في باريس على نحو صاعق، قد يشبه هول الصدمة التي أصابت الطبقة السياسية التقليدية، حين أطاح بها ماكرون في الانتخابات الرئاسية عام 2017، وشكل ظاهرة عجيبة خارجة عن المألوف والمعروف في السياسة الداخلية الفرنسية.

خرج أصحاب “السترات الصفراء” عن أي سياق سابق. لا ينتمي هؤلاء النشطاء إلى أحزاب سياسية تصنفهم يسارا أو يمينا، ولا ينطلقون من أُطر نقابية تقود حراكهم وتنظمه وفق تقاليد التاريخ النقابي القديم. يشبه هذا الحراك ذلك الذي انفجر في المنطقة العربية عام 2011، في ما أطلق عليه اسم “الربيع العربي”، من حيث أن الجماعات التي تحركت في تونس، ثم بعد ذلك في مصر وبلدان أخرى، خرجت بشكل عفوي غير منظّم وبدون قيادة وبدون أهداف أيديولوجية محددة.

وعلى هذا بدت فرادة ظاهرة “السترات الصفراء” متناسلة، للمفارقة، من فرادة ظاهرة ماكرون في التاريخ السياسي الفرنسي الحديث، لاسيما في عهد الجمهورية الخامسة منذ عام 1958. فإذا ما ارتجل الرئيس الفرنسي الشاب منظومة سياسية لا تعتمد على الأحزاب التاريخية التقليدية الكبرى، لاسيما الديغولي والاشتراكي منها، وإذا ما تخلى عن منظومات سياسية لها باع عتيق داخل الدولة العميقة، فإن الحراك الشعبي الطارئ يتسرّب، على ما يبدو، من شقوق الزلزال الذي أحدثه ماكرون قبل 18 شهراً داخل جدران البنائين السياسي والاجتماعي للبلاد.

كان الحراك مبهرا لا سابق له. أما الإبهار، فذلك عائد إلى كثافة التغطية الإعلامية المحلية كما الدولية لحراك استخدم رمزية “السترات” في اجتياح الفضاء العام. قبل ظهور التسونامي الأصفر لم يكن حراك الفرنسيين جامدا. أخذت تحركاتهم أشكال إضرابات واعتصامات ومظاهرات قامت داخل قطاعات الصحة والنقل والتعليم، لكن التغطية الإعلامية بقيت تقليدية بسبب تقليدية الوسائل وأدوات التعبير. وأما أن لا سابق له، ففي ذلك جهل بتاريخ فرنسا الحديث وبقصص النضالات الكبرى التي قادتها النقابات الكبرى في عهود سابقة إلى حدّ “إقفال فرنسا” من خلال إضرابات اجتاحت كافة القطاعات الاقتصادية كافة.

وعلى نحو مختلف عن “ثورة الضواحي” عام 2005  و “ثورة نائل” الأخيرة، مثل أصحاب “السترات الصفراء” الطبقة الوسطى في البلاد. ينتمي هؤلاء إلى العصب الاجتماعي الرئيسي لفرنسا الذي يجيد التعامل مع شروط العصر وأدواته. ولئن لبّت الجموع نداءات للتحرك ظهرت على وسائط التواصل الاجتماعي، ولئن جاء الحراك انفعاليا ردا على إجراءات تطال القدرة الشرائية المباشرة للملايين من المواطنين، إلا أن جلّ القيادات المرتجلة تجيد التعامل مع الحدث بلغة العقل والعلم والإعلام. وعلى هذا تبدو حكومة باريس أمام خصم يعرف ملفاته، مطّلع على متن القرارات الضرائبية، ومدرك للمسار الفلسفي العام التي تعتمده الـ “ماكرونية” بصفتها منظومة يعتبرونها تحمي الأغنياء.

انتهى الحراك بسلسلة إجراءات مالية اتخذتها الحكومة لمساعد الطبقات المتضررة من انتهاء زمن الوفرة. كان على ماكرون أن يجول في مدن البلدج وضواحيه مبشّرا بتدابير عاجلة وأخرى على المديين القصير والآجل لإعادة هيكلة تعيد التوازن إلى رواتب المواطنين وقدراتهم الشرائية. والأرجح أن المحتجون ق تعبوا فخرجوا من الشوارع مكتفين بما حققوه بانتظار حراك مقبل.

ولئن تشبه احتجاجات فرنسا الأخيرة تلك التي تنفجر عادة في الولايات المتحدة في كل مرة يرتكب فيها رجال الشرطة تجاوزات وانتهاكات تؤدي إلى سقوط قتلى، غير أن الحالة الفرنسية تبدو نافرة داخل الفضاء الأوروبي الكبير الذي لا تسجل دوله مستويات العنف والشغب والعام التي باتت من تقاليد الحراك السياسي والمجتمعي في فرنسا. والأمر ما فتئ يطرح دائما الخصوصية الفرنسية لفرنسا في مسألة قيام الأمة وتشكل المجتمع وتحديات الاندماج داخل مجتمع البلاد.

والأرجح أن حكاية فرنسا مع ماضيها الاستعماري، لا سيما في شمال أفريقيا، كما فشل حكوماتها المتعاقبة في تحقيق الدمج الموعود لمجتمع المهاجرين، يضاف إلى تخشّب عقلية إدارية ثقافية تتيح تسرّب عنصرية كامنة في عمل الشرطة، انتهاء بجدل هوياتي مفرط في هذا البلد، كلها عوامل تفسّر هبّات الضواحي ولا تّعِد بأي منافذ واعدة. سبق لحكومات اليسار واليمين جميعها أن أخفقت في تحقيق وعودها لحلّ أزمة الفقر والضواحي والهجرة والاندماج وكان ذلك قبل انتهاء زمن الوفرة الذي نعاه ماكرون وأعلن نهايته.

يطرح الحدث من جديد مسائل قديمة-جديدة بشأن إدارة الصراع المجتمعي، الذي يأخذ أبعاداً سياسية في فرنسا. لسان حال سكان الضواحي يقول إن الأمر يعبّر عن حالة بنيوية متجذّرة من الاستخفاف بمشاكل الضواحي ودفع هذه المناطق وشرائحها المجتمعية نحو الهامش خارج المتن الحقيقي للبلد في خرائط الثروة والسلطة. ولسان حال رجال الشرطة يقول إنهم يدفعون ثمن معضلة هي من مسؤولية الدولة والنظام السياسي بكافة مكوناته الموالية والمعارضة وهم (الشرطة) يدفعون ثمن ذلك.

ما بين الدفاع الحازم عن “الشرطة صاحبة الحقّ في الدفاع عن أمن الفرنسيين” في خطاب اليمين المتطرف وإدانة اليسار لـ “رخصة القتل” الممنوحة لرجل الشرطة، وفق تغريدة لليساري الراديكالي جان لوك ميلنشون، فإن استغلال الحدث من أجل تصفية حسابات سياسية وتغذية أجندات انتخابية يتقدّم على نحو انتهازي خبيث.

يأتي سياق الحدث متناسلا من سنوات من التوتر في الشارع ومن صدامات ميدانية شهدتها فرنسا منذ حركة “السترات الصفر” انتهاء بالاحتجاجات العنيفة بشأن إصلاح نظام التقاعد في البلاد. يأتي أيضا من داخل انقسام سياسي عبّرت عنه الانتخابات التشريعية الأخيرة في عام 2022 والتي أفقدت تحالف الرئيس ماكرون الأغلبية المطلقة وأنتجت برلمانا متصدّعا متشظيّا يعبّر بدوره عن انقسام داخل المجتمع الفرنسي نحوه.

الأرجح أن حكاية فرنسا مع ماضيها الاستعماري، لا سيما في شمال أفريقيا، كما فشل حكوماتها المتعاقبة في تحقيق الدمج الموعود لمجتمع المهاجرين، يضاف إلى تخشّب عقلية إدارية ثقافية تتيح تسرّب عنصرية كامنة في عمل الشرطة، انتهاء بجدل هوياتي مفرط في هذا البلد، كلها عوامل تفسّر هبّات الضواحي ولا تّعِد بأي منافذ واعدة. سبق لحكومات اليسار واليمين جميعها أن أخفقت في تحقيق وعودها لحلّ أزمة الفقر والضواحي والهجرة والاندماج وكان ذلك قبل انتهاء زمن الوفرة الذي نعاه ماكرون وأعلن نهايته.

مفهوم الأمة في فرنسا

تشكلت مفاهيم الجمهورية في فرنسا من تراكم تاريخي ومعرفي أفضى إلى نموذج يقوم عليه الدستور وتسير وفق روحه “الأمة” وحكاياتها.

وعلى الرغم من المشترك الجغرافي والتاريخي بين فرنسا ودول أوروبية أخرى، لا سيما ألمانيا وبريطانيا، فإن نموذجها بقي متميزا مختلفا عن نماذج أنغلوسكسونية مجتمعية شكلت حاضر العيش في تلك البلاد، وصولا على ما بني في الولايات المتحدة الأميركية.

وقد تنافس مفهومان فلسفيان في عز الجدل التاريخي بين ألمانيا وفرنسا في القرن التاسع عشر، بين مدرستين ما زالتا تمثلان قاعدة لمفهوم “الأمة” في العالم.

ويظهر سجال الحالتين في ما كتبه الفرنسيان أرنست رينان وفوستيل دي كولانج حول اتفاقهما على أن الأمة لا تتأسس حول لغة أو حول عرق، بل وفق روح مشتركة يجتمع داخلها البشر وتتشكل الأمة على أساسها.

واستفاض رينان خصوصا في الحديث عن قيم يجتمع حولها الناس، فيؤسسون أمتهم التي يمتد حيزها ما امتدت هذه القيم.

بالمقابل، يعتبر الفيلسوف الألماني يوهان غوتليب فيشته (فيخته) أحد المساهمين الكبار في صناعة مفهوم الأمة. لا سيما وأن أطروحته تأتي مختلفة عن المقاربة الفرنسية للأمر.

وقد اشتهر الرجل بسلسلة ما عرف باسم “خطابات إلى الأمة الألمانية”، حدد فيها بعمق رؤيته لتلك الأمة التي تتأسس على عوامل اللغة والدم، على نسق مختلف عن المدرسة الفرنسية التي تعتبر “الأرض” أي المكان والقيم هي أساس قيام الأمة.

على هذا وجد الفرنسيون في توسعهم الجغرافي، من أجل نشر قيم الحداثة التي أنتجتها ثورتهم، مبررا مشروعا لقيام أمتهم، فيما تمسك الألمان بصلة الدم، وربما العرق الجرماني، وصولا إلى الآري في عهد النازية الهتلرية، أساسا لقيام أمتهم.

حتى أن هتلر كان يرى أن الأمة الألمانية موجودة أينما وجد دم ألماني (الأمر الذي برر احتلال بولندا ودول أخرى).

ويكاد مفهوم الأمة في العالم أجمع ينقسم حول مدرستي الأرض والدم. وقد تبنت نصوص القومية العربية المفاهيم الألمانية من حيث التمسك بعوامل اللغة والدين والدم، كقواعد لقيام أمة العرب الكبرى.

بالمقابل، بنت فرنسا عمارتها الاجتماعية الثقافية على الاجتماع حول القيم التي صاغتها الثورة الفرنسية، بحيث تصهر تلك القيم الأفراد داخل عجينة وطنية واحدة مزيلة الحدود بين الجماعات والمذاهب والأعراق.

على هذا أقامت فرنسا الحديثة جمهوريتها بإبعاد الدين، والكنيسة طبعا، عن السياسة والسلطة وعن إدارة شؤون الناس في الاقتصاد والسيرورة والمصير.

وكان للتجربة الفرنسية فيما فرضته بالقوة والدم (منذ إعدام الملك لويس السادس عشر وزوجته ماري أنطوانيت)، وفيما فرضته بالنص (منذ قوانين العلمانية عام 1905)، صدى عالمي فرض تحديثا للمنظومات التي حكمت ضفتي الأطلسي.

تجمع فرنسا مواطنيها أفرادا حول قيم واحدة، فيما تكاد دول مثل بريطانيا والولايات المتحدة وألمانيا أن تجمع الناس بصفتهم مللا وجماعات.

وعلى هذا يمكن فهم أن ملكة بريطانيا هي رأس الكنيسة في بلادها، فيما للكنائس نفوذها في ألمانيا وفي الولايات المتحدة (لاحظ نفوذ الكنائس في الانتخابات الرئاسية الحالية). بالمقابل تحظر قوانين العلمانية الفرنسية انخراط الدين في المنابر الدنيوية للشأن العام.

ورغم تباين سيرة قيام الأمم وعصب ظهورها، فإن الصدامات الحديثة التي حصلت مع الإسلام قد لا تمت بصلة إلى الأصل الفلسفي لقيام الأمة وفق رينان الفرنسي أو فخته الألماني، ذلك أن للدين والتابعين له حيز واسع داخل هذه الأمم وفق القوانين التي تسيّر شؤونها.