مرثيّة ذاكرة الخراب

تتربّص بنا الذّاكرة المكلومة، تنشطُ في أيّام الحرب الشّرسة، تتشظّى أحداثها، ينشطر في أوردَتِنا ماضىٍ ثقيل، فيتفجّر الحاضر على مساحات حضورنا وغيابنا وانتظاراتنا وخيباتنا ومآقي الدّمع الجليدي.

لا فكاك من الذّاكرة، وعاء آلام وأحلام لا يفيض. وعاء لا حدود لامتلائه، لفيضه، لفورانه. ولا إشباع لرغبته بالامتلاء، مهما حاولنا إفراغه عند محطّاتنا واستراحات المسير. تتوالد فيه الذّاكرات بلا توقّف. تعيد ترميم ذاتها لاحتواءٍ جديد، لذاكراتٍ جديدة تنبثق كلّ حين.

أبناء الذّاكرة المتوحّشة نحن، تغرز في وعينا ووسَنِنا أنيابَها.

أدوات استيلادها نحن، نَقيها قسوة الاندثار باللّطم على صدرها المنتفخ. نسحب أجنّتها المشوّهة، مسوخاً لغدٍ رائب في بحيرات الدّم والقيح.

أبناء ذاكرة اللّهب نحن، يتساوى احتراقُنا في ذروة غضبها المقدّس. لا فرق بين نارَين، ولا توسُّل بعد قبسها الأول.

أبناء المآسي نحن، يتساوى فيها جمع الذّاكرات وذاكرة الجماعة. لا فرق بين ألَمَين، ولا تناص في الألم، مهما تفرّدنا في ابتكار القوافي لإكمال النشيد.  

لا فكاك من الصّخرة الرّهيبة الجاثمة على أمسِنا المهجور. ونحن أبناء ميراث الصّخور المضمّخة بثقل الجبال ملء عين الزّمن.

أبناء الحرب نحن، ونحن قَتَلة السّلام. منازل الأمس سقوف أحلامنا، ومآوينا مدن الخراب. كيف لباب الرّيح أن يوصَد، ونحن نستجدي العاصفة؟

ننده للحرب بصوت الذّاكرة فتحضر. للذّاكرة أصواتٌ كثيرة، نختار منها ما نشاء للنّداء. الحروب الجاثمة على أرض اليباب، وخلف الأبواب، وعند التهيّؤ للمسرّات، وقبل قرع الطّبول، وبعد صلاة الفجر، وفي الأغنية الحزينة، وابتهالات الدّراويش. الحرب تسكن بُحّة حناجرنا، تشرب من ماء قلوبنا، وتسرح مع نسائم حقولنا.

الحرب ذاكرتنا الأولى وصرختنا الأولى. رائحتها عبَق أرضنا المتخم بالبارود. أسماؤها من وحي عرّافاتنا النّدّابات. آلهتها تحرس سماءنا المبقّعة بدماء الرّضّع، وذِكر آلهتها يترك مذاقاً مرّاً في أفواه المؤمنين.

ننده الحرب كلّما شئنا تحديث الذّاكرة، فنحن أبناء الأمس وأسرى الماضي المجيد. نحمل النَّدب في جيناتنا والنّدوب في أعمارنا. نسكن مرثيّة الموت المقدّس، ندّعي امتلاك السرّ المقدّس، نُولِم لناحِري رقابنا، نشرع أبوابنا للشّيطان وأجسادنا لِمُلتهمي الأكباد.

الحرب ذاكرتنا التي لا تسأم من العودة، ولا تتعب من الحدوث. نحن حَطبها وفأسها، ونحن حجارة هيكلها ومذبح إبليسها. نحن خاصرة رماحها، ونحن أبواقها الغائرة في الصّمت. نحن عطبٌ أبدي في ذاكرة السّلام.  

لا فكاك من الذّاكرة، لا ارتواء من الدّم، ولا مفرّ من التّلاشي على قارعة وطنٍ شهيد.