يحيى السنوار، ما بين الشوك والقرنفل حكايةُ قائد مُشتبك

“لا تمُت قبل أن تكون ندًّا!” قالها المناضل والكاتب غسان كنفاني، وحفظها أحرار فلسطين فانزرعوا شهداء في رحم تراب فلسطين المثخن بالنزيف، فالموت ليس المهم في حقل الثورة بل المهم هو الاستمرار فمنذُ اغتُصبت أرضها وفلسطين تُقدم فلذات أكبادها على معبد الحرية قربانًا، الحرية التي هي المقابل الوحيد ودومًا هناك متسعٌ لشهداء وشهداء فلسطين كُثُر، لا يُعدّون على أصابع الزمن الواحد، وشهداء فلسطين لا يحدّهم سقفٌ أو توجّه واحد، وشهداء فلسطين لا يريدون موتًا سلبيًا بل كما قال السنوار في أحد خطاباته متبرّمًا أن يموت ميتة عاديّة : ” أكبر هديّة يقدّمها لي الاحتلال هو أن يغتالني وأن أقضي إلى الله شهيدًا على يده..”. لذا فهم شهداء شهدوا القضية وكانوا شهودًا على الظلم والجور، وعند الله يجتمع الخصوم، فهذا العالم والكلام لكنفاني ” يسحق العدل بحقارة كلّ يوم.”

اوكتوبر شهر السنوار؟

لم يعش السنوار حياة عاديّة، ولم يمُت كذلك ميتةً تُنسي ذِكره، يحيى إبراهيم السنوار، وُلد بتاريخ 29 اوكتوبر\ تشرين الأول 1962، في مخيّم خان يونس في قطاع غزّة،  تلقى تعليمه في مدارس الأونروا في المخيم، ودرس اللغة العربية وآدابها في الجامعة الإسلاميّة في غزة، نشط أثناء دراسته في مجلس الطلاب، انضم إلى حركة حماس، ويعدّ من مؤسسي الجهاز الأمني لحركة حماس، الذي أُطلق عليه اسم “جهاز الأمن والدعوة (مجد)” العام ١٩٨٥، ومن مهامه ملاحقة العملاء لصالح العدوّ الإسرائيلي.

 في العام 1989 أصدرت المحكمة العسكرية الإسرائيليّة  في غزّة حكمًا بالسجن مدى الحياة على السنوار بعد إدانته بخطف وقتل جنديين إسرائليين، ومقتل أربعة عملاء فلسطينيين، قضى 23 عامًا في السجن، واظب خلالها على متابعة الإعلام العبري، واهتم بالدراسات التي تناولت الوضع الداخلي الإسرائيلي،  وتعلّم الثقافة الإسرائيلية ومتابعة قنواتهم.

  أٌفرج عنه في عملية تبادل أسرى العام 2011، ضمن صفقة “شاليط” -وهو جندي إسرائيلي.  استعاد مكانته كقائد بارز وأحد أعضاء المكتب السياسي لحركة حماس. أدرجت الولايات المتحدة الأمريكيّة اسمه على القائمة السوداء للإرهابيين الدوليين في العام 2015.

يعدّ السنوار العقل المدبر والمهندس لطوفان الأقصى في السابع من أوكتوبر ٢٠٢٣، وكان صاحب مقترح إطلاق الرهائن الإسرائيليين المختطفين مقابل إطلاق سراح جميع الأسرى الفلسطينيين.  استُشهد في السابع عشر من أوكتوبر 2024، وهو في الثالثة والستين من عمره، رفقة قائد كتيبة تل السلطان وحارسه محمود حمدان في رفح. وكان لموته أسطورة لم تُعطِ الغلبَة للقاتل، فهو القائد المشتبِك، بُترت يمناه، وبيسراه ألقى عصاهُ على المسيَّرة التي دخلت حصنه في منزل مدمّر، لم يكن في نفق بل كان في خط المواجهة وكان ندّا صمد في أرضه، وعليها استُشهد،   “فقد يُقتل المرء ولا يُهزم”.

الشوك والقرنفل

 كتب السنوار روايته “الشوك والقرنفل”، وهو في سجن بئر السبع يقضي محكوميّته التي امتدت إلى  ثلاث وعشرين عامًا، بعد أحكام بالسجن المؤبد، ساعده زملاؤه على نسخ صفحات الرواية وتهريبها خارج السجن حتى نُشرت العام 2004.

بين العذاب والألم الذي يمثّله الشوك والرُقي والنقاء الذي يمثّله القرنفل، تتّضح في سياق السرد تلك الرمزيّة البليغة التي حاكاها السنوار في مؤلَّفه، فهو دارسٌ للغة العربيّة يعرف فحوى الكلام ومقاصده، ويرمي بأبعاده مُدركًا عميق أثره، والرواية قد يراها بعض النقاد لا تمثّل الرؤية الحديثة للرواية ولا تمتلك كلّ مقومّات وتقنيات السرد المستجدّة، ولكنّها لا تنفصل عن نوعها بل تنطلق من موضوعها، وعلى كثرة الموضوعات والوقفات والتواريخ والأحداث والمعلومات الموثّقة، يظهر دورها التأريخيّ والتوثيقيّ بكلّ بلاغة، بلاغة لا تُلامس الفجاجة، ولا تثير الملالة، فهي رواية وُلدت بين جدران السجن وتشبّعت بطاقة الأسرى فعبّرت عن مشاعر الحرمان والألم، وهي رواية أحاطت بتاريخ النضال الشعبيّ الفلسطينيّ ضد القمع والاحتلال ووثّقت لمحطات النضال والصمود والثورة، وقد تصلح في أدب السيرة لتقاطعها في الكثير من مفاصلها مع حياة السنوار الشخصيّة، وكشفت عن الكثير من تأمّلاته وأفكاره ورؤيته الذاتية للعالم.

من المُعاناة حتى الاستشهاد.

أشار السنوار في مقدّمة روايته أنها ليست سيرة شخصيّة ولا تُمثل أشخاصًا حقيقيين بعينهم، ولكنها حقيقيّة بأحداثها وتنقل ما عاشه وكثير مما سمِعَه من أفواه من عايشهم.

قدَم قراءة شفافة وواقعيّة من الداخل الفلسطيني، وتطرّق للعديد من القضايا والأحداث والمواقف التي شكّلت مفصلًا مهمًا في تحديد مسار القضيّة الفلسطينيّة وتاريخ العمل المُقاوم.

جاء في الرواية:  “إذا تحقق عزم الرجال واستعدادهم للموت، فإن شيئًا لا يمكن أن يقف في وجههم، ولا بد للنصر أن يكون حليفهم.”

تعيش عائلة “أحمد” الراوي الأوّل لأحداث الرواية، في منزل بسيط في مخيّم الشاطئ للاجئين الفلسطينيين، وتبدأ الأحداث من ذكر تداعيات نكسة العام 1967، حيث تفقد العائلة التي تضمّ الجد للأب، وابنَيْه وزوجتيهما وأطفالهم، معيلا الأسرة، وتبقى النساء بلا أزواجهن، تتحمّل أم أحمد مسؤوليّة تربية أبناء العائلة، أولادها وأولاد العم، بعدما فرضت عائلة زوجة العم الشهيد على ابنتها الزواج وترك أطفالها.

تأتي الرواية على توثيق وسرد حياة الفلسطيني من معاناة العيش في المخيّم وندرة المواد الغذائية، الفقر الجوع الخوف الاضطهاد التعسّف والظلم، التكافل الاجتماعي، التوترات الميدانيّة الاقتحامات، مداهنة العدوّ والعمالة معه، ويقدّم السنوار رؤية ذاتية للعالم، عن فهمه وإدراكه للقضيّة.

في مقطع يصف فيها دخول الشتاء يبدو وكأنه يحاكي أوجاع النزوح التي يعيشها أهل غزة اليوم: “شتاء 1967 كان ثقيلًا ويُزاحم الربيع بشمسه المشرقة الدافئة… وإذا بالمطر ينهمر غزيرًا من السماء فيُغرق تلك البيوت البسيطة… وتجري السيول فتقتحم الأبواب وتزاحم ساكنيها في غرفهم الصغيرة ذات الأرضيات المنخفضة عن مستوى الشارع…”

حياة يحكمها عدوّ لا تعرف الرحمة سبيلًا إلى قلبه، سارق يستولي على أراضي الفلسطينيين، يشقّ طرقاتهم ويمحو في طريقه ما شاء من منازل من دون حسيب أو رقيب، يحرق الزرع ويأسر ويقتل الأزواج والأبناء، والمؤلف في توثيق لعدوانيّة هذا المحتل يعرّج على الذاكرة ويجمع العادات والتقاليد التي تمثّل حياة الفلسطينيّ وهويّته التاريخيّة.

نتعرف في الرواية على مفاصل حياة الفلسطيني، على البدائل التي توفرت له، على الأونروا وخدماتها الإغاثية من المعونات الغذائيّة الطبابة والتعليم، وتُجسّد المرأة أعلى معاني الإيثار والقوّة والعطف، في شخص أمّ أحمد التي حرصت على تعليم أبنائها ولم تستهن بأبناء العم، بل رعتهم ولو نشأ من هؤلاء خلفٌ غير صالح وهو حسن كبير إخوته، أضاع الطريق واختار الحياة عند الأعداء، في مقابل أخيه “إبراهيم” الذي نبت نباتًا حسنًا واختار طريق الكفاح والجهاد لمقاومة الاحتلال.

يحرص  المؤلّف على التأطير الزمني والتأريخي لمسار القضيّة الفلسطينيّة، وعلى العمل المُقاوم الذي لم يتوقف على الرّغم من مراوحته وفقًا للتطورات الميدانيّة والإقليميّة، ويوثّق لحركة الأحداث والاتفاقات وتأثيرها على سير القضية منذ نكبة العام 1967وانسحاب الجيش المصري من القطاع أمام الدبابات الإسرائيليّة، إلى حركة ما سمي بـ “أيلول الأسود”، عن مغادرة المقاومة الفلسطينيّة للبنان إثر اجتياح العام 1982،  إلى اتفاقية الصلح بين مصر وإسرائيل والإحباط  والصدمة  التي أصابت العام بأسره وفي غزة والضفة، وعن قرار السلطات المصرية بتقليص العلاقات مع الفلسطينيين ومنها  عدم قبول طلبات الخريجين من القطاع في الجامعات المصرية، وعن تأسيس الجامعة الإسلاميّة في معهد مدرسة الأزهر وبعيدا عن أعين الاحتلال الذي لم يقبل بتأسيس جامعة داخل القطاع. عن نشاط الإسلاميين في القطاع وبنائهم المدارس والجمعيات   ونشر الثقافة الإسلاميّة، وعن نشأة حركة حماس، واندلاع انتفاضة الحجارة العام 1987، ويستمر في التوثيق حتى مدار العام 2000.

تناول المؤلف العديد من القضايا التي شكّلت نقطة جدل وخلاف في حياة الفلسطينيين، ومنها قضية عمل الفلسطينين في الأراضي المحتلة 1948 بسبب الفاقة والعوز، وما لذلك من امتدادات وتأثيرات ودوال ليس أسوأها أن يعمل بعض الفلسطينيين في حفر الخنادق التي يختبئ داخلها الجنود الصهاينة، وهي إشكالية أخلاقية وسياسية واقتصادية واجتماعيّة، تتعلق بالولاء للدولة الصهيونيّة.

يوظّف السنوار النوع الأدبي وهو الرواية لغاية التوثيق التاريخيّ لمسار القضية منذ النكبة وحتى العام 2000، ولذا يحرص على ذكر التفاصيل التي تُغني المشهد وتُعطي المعلومة حيويّة لا تُميت ذكرها في ذهن القارئ، عن حياة الفتيان عن الحب وعن بدايات التفتح وعن النظرة إلى المرأة، وعن التفاوت الطبقي بين اهل المخيّم وأهل المدن، وعن اختلاف التوجهات السياسيّة للأفراد حتى داخل البيت الواحد.

وحتى يضفي على الرواية حركة تقيمها من سردها الخطابي حرص على أن يمثّل كل فرد تيّارًا فكر وسياسيًا مختلفًا؛ من منظمة التحرير الفلسطينيّة، حتى حركة فتح، وحركة حماس والجهاد اللتان تمثلان التيّار الديني.

يمتلك السنوار وعيًا عميقًا بالذات والقضيّة وبالعدوّ الذي يواجهه، فالمعركة وكما يقول في الرواية : ” هي عقيدة ودين ومعركة حضارة وتاريخ وجود”. يلفت السيرة عن المقاومين المؤسسين لحركة المقاومة من أمثال الشيخ أحمد ياسين والمهندس يحيى عياش وجهودهم للحصول على التمويل والسلاح.

 يمثل السنوار المثّقف العضوي، العارف بتاريخ القضية وجغرافية الوطن ويحفظ عادات شعبه وتقاليده والقائد المُشتبك الذي لم يكتفِ بالتنظير بل كان شاهدًا وشهيدًا في الميدان.

وقد وصف لحظة النهاية كما جاءت في الرواية: “الآن جاء الموعد يا أماه، فلقد رأيت نفسي أقتحم عليهم موقعهم، أقتلهم كالنعاج ثم أستشهد..”.

  قضى السنوار مشتبكًا في رفح جنوب قطاع غزة، وفي وصف مشهديّة استشهاده كتب الشاعر تميم البرغوثي راثيًا في قصيدة بعنوان “رمى بالعصا”:

” مسيّرةٌ في شرفةِ البيت صادفت

جريحًا وحيدًا يكتسي شطرُه دَما

قد انقطعت يمناهُ وارتضّ رأسُهُ

 فشَدّ ضمادًا دونَهُ وتعمّمَا

وأمسك باليُسرى عصًا كي يردّها

 فكانَت ذُبابًا كلّما ذُبَّ حَوَّما

 وما أُرسِلت إلّا لأنّ كتيبةً

من الجُند خافت نِصفَ بيتٍ مهدّما

وقد وجدوه جالسًا في انتظارِهم

أظنُّ ومن تأخيرِهم متبرِّما

ولَوْ صورّرتْ تحت اللثامِ لصوَّرَت

 فتًى ساخرًا ردَّ العبوس تبسُّما. “