أرضها

 سهير آل إبراهيم

قد تكون أمنياتنا للعام الجديد اقل من الطموح الى حياة مثالية، فربما يصيبنا الملل ان فقدنا دواعي القلق او الانتظار والترقب.. امنيات واقعية سهلة المنال بالنسبة للبعض ولكنها قد تبدو مستحيلة بالنسبة للبعض الاخر، مثل اولئك الذين يعيشون في بلاد مثل بلدي، حيث ابسط الحقوق فيه تحولت الى أمانٍ وأحلام، ونيل أصغر تلك الحقوق صار يعد ترفا يستحق الاحتفال والتهليل.

تتوالى السنين وقائمة امانينا لا تتغير، او الاصح انها تتغير حيث تتقلص تلك القائمة وتقل محتوياتها، ففي كل عام  نعيد النظر فيما نريد ونتمنى، فنتخلى عن بعض تلك الأماني والتي نظنها أقل أهمية او اصعب تحقيقا لأجل الإبقاء على الأكثر أهمية والأيسر منها، فتبقى الكثير من أحلامنا معلقة الى اجل غير مسمى.

قد لا يفهم الناس في العالم المتحضر اليوم كيف يحلم إنسان ما برغيف خبر او بسقف يقيه عوادي الطبيعة والحياة، ولكن هذه الأحلام موجودة في بلادنا وتكبر ويزداد الحالمون بها بمرور الزمن تزايدا  مخيفا، تزايدا يدمي القلب  ويغلف الروح برداء قاتم من الحزن المقيم طالما استمر الجوع والظلم والقهر في ارض الخيرات، والتي اصبح كل شبر فيها مقدسا حيث تعمد بدماء الشباب الأحرار.

سمعت وقرأت الكثير من الآراء التي تربط العنف في العالم بسيادة الرجال فيه، فهناك من يقول لو سادت النساء العالم لتحولت مصانع الاسلحة الى مصانع لمواد التجميل. لا ادري مدى صحة هذا الرأي فليس لدينا تجربة حية نستخلص منها اجابة شافية. العنف لا يقتصر على الرجال، فهناك نساء دخلن التاريخ بسبب عنفهن وبشاعة أفعالهن،  الكونتيسة الهنغارية إليزابيث  باثوري مثال على ذلك. ولدت باثوري عام 1560م وتوفيت عام  1614م، وقد دخلت موسوعة جينيس للأرقام القياسية  لفظاعة  ما ارتكبته من جرائم حيث اعتبرت واحدة من الذين ارتكبوا ابشع الجرائم في التاريخ المدون. قتلت باثوري المئات من النساء ويقال انها كانت تستحم بدماء ضحاياها اعتقادا منها ان تلك الدماء تحافظ على شبابها. كما يذكرنا التاريخ بالملكة البريطانية الكاثوليكية ماري الاولى، والتي قُتل في عهدها المئات من البروتستانت وفر الألوف منهم خارج بريطانيا خوفا وهربا من القتل والتعذيب.

صدرت في بداية القرن الماضي رواية بعنوان (أرضها)، ألفتها واحدة من رائدات الحركة النسوية في اميركا. الرواية خيالية تصنف ضمن مجموعة الكتب التي تحمل رؤى طوباوية، وكانت قد نشرت على اجزاء ابتداء من عام 1915 في مجلة كانت ترأس ادارتها مؤلفة الكتاب، ولم تصدر كرواية الا عام 1979.

تبدأ الرواية بانطلاق ثلاثة رجال، بعمر الشباب وفي مرحلة الدراسة، نحو هدف للتحقق او لإثبات خرافة حكاية عن أرض تسكنها النساء فقط. كان لاولئك الشباب آراء مختلفة حول المرأة، فمنهم من كان يُؤْمِن انها يجب أن تُخدَم وتُصان، بينما الاخر كان يعتقد بوجوب قهرها والتغلب عليها. ولكن الذي كان يجمعهم هو السؤال حول كيفية استمرار ذلك المجتمع النسوي بدون وجود رجل، لغرض التكاثر  على اقل تقدير.

وصل الشباب الى تلك البقعة المعزولة عن العالم، وبعد احداث عديدة يقعون اسرى لدى النساء، في تلك الارض التي لاحظوا بمجرد وصولهم اليها جمال منازلها ومبانيها والعناية الواضحة بكل تفاصيلها. يُسجن الرجال في مساكن مريحة، وتوفر لهم النساء الطعام والملابس النظيفة بشكل مستمر. كما تم تخصيص امرأة لكل واحد منهم لتعلمه اللغة المتداولة هناك.

يلاحظ اولئك الرجال ان النساء في تلك الارض، والتي يطلقون عليها فيما بعد اسم (أرضها)، يتميزن بالقوة والمرونة والفطنة وانهن لا يعرفن الخوف إطلاقا! كما لاحظوا تميزهن بالذكاء وسرعة البديهية، والصبر، كانت النساء هناك لا تعرف الغضب وتتميز بقدر غير محدود من تفهم الطرف الاخر، الرجال في هذه الحالة.

 خلال تواجدهم هناك يكتشف الشباب ان بركانا كان قد انفجر قبل ألفي عام سد جميع المنافذ الى تلك الارض وراح ضحيته معظم الرجال الذين كانوا يعيشون هناك.  تخبرنا الحكاية تفاصيل انقراض جنس الرجال من تلك الارض وكيفية حصول تكيف طبيعي مكن النساء من التكاثر دون الحاجة الى رجال. كانت النساء هناك تلد اناثا، وقد عكفن جميعهن على تنمية وتطوير عقولهن، فكانت مهنة التعليم عالية الشأن هناك، مقارنة مع المهن الاخرى، والتي زاولتها النساء بكل براعة  وإتقان.

بمرور الزمن يحصل اولئك الرجال على بعض الحرية للتنقل في ارجاء تلك الارض؛ أرضها، وبالنتيجة يرتبط كل واحد منهم بعلاقة عاطفية مع واحدة من الفتيات هناك. لم تكن البنات تفهم  معنى العلاقات العاطفية والجنسية مع الرجل، لم يكن يعرفن الرجال اصلا. كما تحدثنا الحكاية عن الصعوبة التي واجهت ذلك الشاب الذي كان يعتقد بوجوب قهر المرأة والتغلب عليها، اذ كان من الصعب عليه التكيف  والعيش مع امرأة لم تكن امرأة بمفهومه هو، فالمرأة كانت  لا تختلف عنه من حيث الذكاء وقوة الشخصية والاستقلالية وغيرها من الصفات التي كانت تفتقر اليها النساء في المحيط الذي نشأ فيه، كانت المرأة هناك تختلف عن  نمط النساء التقليدي الذي كان سائدا في محيطه. عندما يحاول إخضاعها ومضاجعتها قسرا تتم محاكمته بجرم الاغتصاب ويُنفى خارج أرضها.

تركز الرواية على الأمومة كمحور رئيسي في حكاية مجتمع النساء ذاك، فنرى الام تغرق طفلتها بالحب والرعاية، ولا يقتصر ذلك على الام فقط، فجميع النساء هناك تحب وترعى جميع الاطفال، العناية بكل طفلة هناك تعد مسؤولية المجتمع بأكمله، ربما كانت الكاتبة هنا تشير الى مقدرة المرأة على الحب والعطاء بدون حدود. في نفس الوقت فكل طفلة في أرضها هي إنسان قائم بذاته فلم تحمل اي منهن هناك سوى الاسم الاول بدون ان يلحق به اسم الام التي ولدتها، في إشارة على عدم جعل الاطفال ملكية لذويهم كما هو سائد في عموم المجتمعات.

لا اشك ان مؤلفة الرواية كانت تتمتع بخيال أقل ما يقال عنه انه خصب، وربما أتت خصوبة ذلك الخيال من القهر التي كانت تعاني منه المرأة هناك في ذلك الزمن، والذي لا زالت الكثيرات تعاني منه في أماكن مختلفة من هذا العالم للاسف.

هل احلم واطمح الى وجود مكان مثل أرضها؟ بالتأكيد لا، فالحياة لا تكتمل بوجود امرأة بدون رجل او العكس من ذلك. الطريق للقضاء على العنف في هذا العالم لا يكون من خلال القضاء على جنس وابقاء الاخر، لكنه حتما يكون بالبحث عن اسباب تولد ذلك العنف ومعالجتها، فهو وباء يصيب النفس وقد تكون مسبباته كثيرة.

يبدو لي ان إنهاء الظلم والعنف في هذا العالم واحد من الأحلام المستحيلة التحقيق، الا ان ذلك لا يمنعني من ابقاء ذلك الحلم على قائمة الأحلام والأماني لكل عام جديد قادم، وحتى نهاية العمر.

اتمنى لكم عاما سعيدا مكللا بالمحبة والسلام.

العدد 99 –كانون الاول 2019