أوباما والأجهزة الأمنية تتهم روسيا بأنها وراء انتخاب الرئيس الأميركي الجديد

محمد قواص *

دخل إلى البيت رئيس الولايات المتحدة دونالد ترامب. أخيرا صار العالم يتعامل مع ترامب بصفته رئيسا محاطا بإدارة وكونغرس ولم يعد ذلك المرشح الذي يتسلى بإرسال تغريداته التويترية معلنا المواقف تلو المواقف التي أقلقت الولايات المتحدة من الداخل كما أقلقت كافة عواصم العالم دون استثناء. فحتى من انتخب ترامب داخليا ومن يعوّل عليه في الخارج لا يأمن لهذا الرجل الذي، ورغم كثافة التركيز الإعلامي العالمي عليه، ما زال لغزا لا أحد يغامر في فك طلاسمه.

ينطوي الجدل الجاري هذه الأيام بين واشنطن وموسكو على أبعاد متعددة لا تطال علاقة الولايات المتحدة بروسيا فحسب، بل تمسّ وجعا داخلياً تتفاقم أورامه منذ صدمة انتخاب دونالد ترامب رئيسا في نوفمبر الماضي.

وفيما أفرج الشارع الأميركي غداة الانتخابات الرئاسية عن غضب حيال فوز المرشح الجمهوري على نحو لم تتوقعه مؤسسات استطلاعات الرأي، بدا أن الحزب الديمقراطي الذي كان غافلاً عن مفاجأة صناديق الاقتراع ومستسلماً لبلادة الاستطلاعات، لم يظهر ردّ فعل انفعالي دفاعي ولم يكشف عن علّة داخلية يعاني منها الحزب في آليات عمله وفي مضمون خطابه الذي ترك للمرشحة هيلاري كلينتون التعبير عنه.

تآمر الديمقراطيون لإبعاد منافس كلينتون لتمثيل الحزب بيرني ساندرز. قلقت النخبة الديمقراطية من خطاب ساندرز اليساري، والذي من خلال أطروحاته الجديدة لعدالة اجتماعية في الفضاء الداخلي ولسياسة عدل وانسانية في الفضاء خارجي، أثار قلق الحزب العريق من خطاب خارج التقليد الأميركي، وبالتالي خارج ذائقة الناخبين.

المظاهرات ضد ترامب في الولايلت المتحدة
المظاهرات ضد ترامب في الولايلت المتحدة

وفيما اعتمد الحزب الديمقراطي على المرشحة هيلاري كلينتون إبنة المؤسسات الأميركية وزوجة رئيس أميركي ديمقراطي سابق وزعيمة دبلوماسية واشنطن في ولاية أوباما الأولى، خرجت صناديق الاقتراع برئيس للولايات المتحدة يطل من خارج أي مؤسسات سياسية أو حزبية أميركية متسلّحاً بخطاب جاف صادم لا يقيم حساباً لأصول وقواعد وقيم لطالما تبناها كافة المرشحين بكسل وبلادة.

لم يستفق الحزب الديمقراطي، لكن الرئيس الديمقراطي الحالي باراك أوباما لم ينم على هذه الهزيمة، وهو يسعى قبل أيام من رحيله على تنشيط مواسم لطمٍ تفسّر الواقعة وتبرر الهزيمة.

ومنذ الصبيحة التي أعلن فيها إنقلاب الأرقام الليلة لصالح دونالد ترامب معلنة فوزه بعقد البيت الأبيض للأربع سنوات المقبلة، توالت التصريحات وخُطّت المقالات وتراكمت الدراسات وراج الجدل والنقاش حول ما تكشفه النتائج من تبدل في الوعي العام الأميركي، وما تفرج عنه الواقعة من قيح كان يخفيه سلوك، بدا لافتا، لإدارتي الرئيس أوباما خلال 8 سنوات.

وفي مضامين الجدل الأميركي الأميركي لم يتطرق أحد، ولم تتجرأ أطروحة، على اتهام العامل الخارجي بأنه وراء تحوّل الصناديق باتجاه ترامب. ويندر أن تجد في ما كُتب وما قيل، حتى حدود الأسابيع السابقة، أي إشارة إلى هذا الدور المزعوم لروسيا في التأثير على مسار الانتخابات الأميركية الرئاسية.

ومع ذلك فإن سلاح الرئيس أوباما الوحيد لتفسير فوز من وعد بتفريغ قانون »أوباما كير« الصحي وبمنع المسلمين من دخول البلاد وببناء جدار مع المكسيك وبعهد تعاون مقبل مع روسيا وبصدام مع الصين، هو اتهام روسيا بشنّ هجمات الكترونية شوّهت سمعة كلينتون وقوّضت من حظوظها بالفوز.

تعيب واشنطن على موسكو قيامها بأنشطة تجسس ضد الولايات المتحدة. ليس في الأمر أي جديد لافت. فروسيا والولايات المتحدة دولتان متخاصمتان ترثان عداوة أجهزة المخابرات منذ عهد الاتحاد السوفياتي وعصر الحرب الباردة. ثم أن الولايات المتحدة نفسها لا تتجسس على الخصوم فقط، بل على الحلفاء دون خجل، في ما أفرجت عنه فضيحة التنصت الأميركي على هاتفي الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية انغيلا ميركيل. لكن الأمر في السياق الأميركي يتجاوز اختراقاً أمنيا تقنياً تقليدياً، فلـ »أميركا« حسابات أخرى من هذا الحصاد.

ليس أوباما من انتفض ضد »إنقلاب« الانتخابات الرئاسية. بدا أن كافة المؤسسات الأمنية التي أبدى دونالد ترامب استخفافاً بها وتشكيكا في مصداقية تقاريرها أثناء حملته الإنتخابية، تستنفر مفاعيلها لتدلي بدلو اتهامي مباشر لموسكو باقترافها محظوراً معيباً، وهي في نفس الوقت تبلغ الرئيس الأميركي دونالد ترامب أن للأصوات التي أتت به إلى البيت الأبيض روائح عفن تنفخها رياح بثتها روسيا بأوامر مباشرة من زعيم الكرملين فلاديمير بوتين.

يتكتم تقرير المؤسسات الأمنية على المصادر وطرق الحصول على المعلومات، وهو الامر الذي لن يؤدي الى اقناع المشككين بنتائجه، لكنه ولأول مرة يعلن التقرير بوضوح أن الكرملين اتخذ موقفا منحازا وان كان لا يسعى الى اثبات ان بوتين غيّر نتيجة الانتخابات.

ولفت التقرير إلى أنه »من المرجح جدا أن يكون بوتين أراد تشويه سمعة كلينتون لأنه يتهمها علنا منذ العام 2011 بأنها حرضت على خروج تظاهرات ضخمة ضد نظامه في أواخر 2011 وبداية 2012« عندما كانت وزيرة للخارجية الأميركية. في الأمر ترجيح يشبه الاجتهاد بظاهرة ما زالت عصيّة على الفهم.

اوباما والاجهزة الامنية كبلوا ترامب باتهامات علاقته بروسيا
اوباما والاجهزة الامنية كبلوا ترامب باتهامات علاقته بروسيا

لرسائل أوباما ومؤسسات الأمن عدة أهداف:

الأول رسالة سياسية وأمنية تقليدية تفيد بأن روسيا هي خصم تقليدي يشن هجمات هدفها إيذاء الولايات المتحدة، وأن هذه الهجمات ترقى إلى مستوى الحرب، ولو أنها تتخذ شكلا الكترونيا.

الثاني وهو ما عبّر عنه تقرير وكالة الأمن القومي أن روسيا لا تمسّ هذه المرة أهدافا روتينية عسكرية وأمنية واقتصادية، بل أنها تعبث بالبنى التحتية للعملية الانتخابية المسؤولة عن انتاج النظام السياسي برمته، وهنا مكن الخطر.

الثالث أن إجماع مؤسسات الأمن أن هدف الاختراق الالكتروني الروسي للنظام المعلوماتي للحزب الديمقراطي وحسابات المرشحة كلينتون الالكترونية، كان هدفه دعم المرشح دونالد ترامب، من خلال كشف معلومات وملفات ورسائل الكترونية تفقد المرشحة الديمقراطية شعبية، ما يقوي من حظوظ المرشح المنافس في الاستفادة من تحوّل أصوات المتأثرين بالحملة الروسية باتجاه من فاز بهذه الانتخابات.

يحذر تقرير واشنطن من أن موسكو »ستطبق الدروس التي تعلمتها« من الحملة التي أمر بها بوتين خلال الانتخابات الاميركية، من أجل التأثير على الانتخابات في بلدان أخرى وبينها بلدان حليفة للولايات المتحدة.

يشير التقرير الى أن الحملة التي قادتها موسكو للتأثير على الانتخابات الاميركية جاءت في إطار »استراتيجية اتصال« مستوحاة من الأساليب السوفياتية، من بينها »العمليات السرية، ووسائل الإعلام الرسمية، واللجوء الى طرف ثالث ومستخدمين للشبكات الاجتماعية )…(«.

تنذر واشنطن العالم بأن الخطر الروسي على انتاج السلطة ليس حكرا على الولايات المتحدة بل أن مفاعيله ستؤثر على الانتخابات في أوروبا، في فرنسا وألمانيا مثلا.  يختلف المرشحان المتنافسان الأكثر حظاً حتى الآن، فرانسوا فيون ومارين لوبن، في الانتخابات الرئاسية الفرنسية المقبلة على أشياء كثيرة لكنهما، للمفارقة، متفقان على التعاون مع روسيا والاعجاب ببوتين. فجأة تكشف هيئة حماية الدستور في ألمانيا )الاستخبارات الداخلية( أنها تمكنت في العام الماضي من اكتشاف هجوم إلكتروني على حواسب منظمة الأمن والتعاون في أوروبا وأنها وجدت قرائن على صلة روسيا بهذا الهجوم.

طردت واشنطن 35 دبلوماسيا روسيا مستدرجة حرباً دبلوماسية بين البلدين. لم ترد روسيا بالمثل. اعترف العالم بحنكة بوتين وحذاقته، وغرّد ترامب »كنت أعرف أن هذا الرجل ذكي«.

لكن رئيس الولايات المتحدة المنتخب فهم من رسائل المؤسسات الأمنية أن »أميركا العميقة« لن تكون طيّعة لنزواته الانتخابية، وأن سياسة واشنطن الخارجية لا ترسمها تغريداته على موقع تويتر. استمع ترامب لرواية المؤسسات الأمنية في اجتماع مغلق مع مدير مكتب التحقيقات الفدرالي )اف بي اي( جيمس كومي، ومدير وكالة الاستخبارات المركزية جون برينان، ورئيس وكالة الامن القومي الاميرال مايكل روجرز، ومدير الاستخبارات جيمس كلابر.

أسقط ترامب شكوكه السابقة بالتنويه بعمل أجهزة الاستخبارات الأميركية. قال »لدي احترام كبير للعمل الذي يؤديه رجال ونساء« الاستخبارات، مقراً باحتمال قيام روسيا بارتكاب الخرق الالكتروني، واعداً، بهذه المناسبة، وبانتهازية بارعة، بالعمل على حماية البلاد من أي هجمات الكترونية مقبلة.

في كلمات ترامب أن »روسيا والصين ودولا أخرى ومجموعات وعناصر في الخارج يحاولون بشكل دائم اختراق البنى المعلوماتية لمؤسساتنا الحكومية، ولشركاتنا وبعض المؤسسات مثل الحزب الديموقراطي، إلا أنه لم يكن لذلك أي تأثير على الإطلاق على نتائج الانتخابات«.

وتابع »كانت هناك محاولات قرصنة للحزب الجمهوري، لكن الحزب أقام دفاعات قوية ضد القرصنة، والقراصنة فشلوا«.

ما يهم دونالد ترامب هو التأكيد على أن فوزه شرعي لم يتأثر بعبث روسي مزعوم حتى لو كان هذا العبث مؤكدا. وما كان يهم أوباما الديمقراطي ومؤسسات الأمن الكبرى أن تلقي شكوكاً حول »أميركية« التصويت لترامب ونقائه، والتلويح بأن رئيس الولايات المتحدة الجديد الذي تسلم الحكم رسميا في الـ 20 من الشهر الماضي، »صنع في روسيا«.

هل أعطى بوتين أوامره لتدمير هيلاري كلينتون الكترونيا؟
هل أعطى بوتين أوامره لتدمير هيلاري كلينتون الكترونيا؟

يسجل اوباما على ترامب علامة معيبة ويضيف »ما يقلقني هو إلى اي مدى رأينا الكثير من الجمهوريين أو المنتقدين أو المعلقين يظهرون ثقة أكبر بفلاديمير بوتين من ثقتهم بنظرائهم الاميركيين، فقط لأن أولئك ديموقراطيون«.

لكن أوباما الذي استخف يوما بروسيا حين وصفها بأنها »قوة إقليمية كبرى« قبل أن يصوّب ذلك لاحقاً ويعترف بها قوة دولية كبرى، يقر من حيث لا يدري، من خلال الحديث عن هجماتها الالكترونية ضد بلاده، أنها )أي روسيا( أصبحت ندّا دوليا تستعيد ندية الاتحاد السوفياتي القديمة، وأن في المبارزة الشخصية بينه وبين بوتين، استطاع الأخير تسجيل انتصاراته حتى داخل الولايات المتحدة نفسها. يستنتج اوباما الأمر ويتبرع بنصح خلفه: »علينا أن نذكر أنفسنا أننا في نفس الفريق. فلاديمير بوتين ليس في فريقنا«.

أمام هذه الحقيقة الجديدة التي تفرج عنها تقارير المؤسسات الأمنية الأميركية، ستقف الإدارة الأميركية الجديدة برئاسة دونالد ترامب أمام خيارين. إما اعتبار روسيا دولة كبرى ذات نفوذ دولي يمثل تهديداً للولايات المتحدة والعالم الغربي، وبالتالي التمسك بدعوة الرئيس للودّ مع فلاديمير بوتين واعتماد تغريداته أنه »من الغباء اعتبار التعاون مع روسيا خيارا سيئاً«، وأما اعتبار أن روسيا هي كل هذا الرجس، والذهاب إلى مواجهتها على ما يدعو بوتين المنصرف، وعلى ما تميل إليه كل مؤسسات »أميركا العميقة«. فحتى رئيس مجلس النواب الأميركي الجمهوري بول راين استغل صدور التقرير من أجل اتهام روسيا بالإقدام على »محاولة واضحة للتدخل في نظامنا السياسي«.

وفي محاولة لطمأنة المسؤولين الجمهوريين، اختار ترامب السناتور السابق دان كوتس )73 عاما( لمنصب مدير الاستخبارات الوطنية. وكوتس، السيناتور السابق عن ولاية إنديانا، واحد من ستة من أعضاء مجلس الشيوخ وثلاثة من مسؤولي البيت الأبيض، الذين شملتهم العقوبات الروسية ومنعوا من دخول الأراضي الروسية في العام 2014، وذلك ردا على العقوبات الأمريكية ضد موسكو بعد عودة القرم إلى روسيا.

يعرف ترامب أنه لا يستطيع أن يحكم دون دعم المؤسسات الأميركية الكبرى، ولن  ينفذ مضامين تغريداته دون الحزب الجمهوري الذي يمثله. وحده هذا الحزب سيكون كابحاً لشطط الرئيس ومصوّباً لانحرافاته بما يتّسق مع المعهود ولا يناقض مصالح اللوبيات.

معارضو دونالد ترامب في الولايات المتحدة يتساءلون بخبث انه إذا كان ترامب يرى في التعاون مع روسيا مصلحة أميركية، فلماذا لا يعتبر الشيء نفسه مصلحة مع الصين. ورب قائل في كواليس القرار في موسكو أننا لا نستحسن ود ترامب المفرط، ولا نريد لاعجاب الرئيس المنتخب بالرئيس الروسي  أن يكون استفزازيا لذاكرة وذائقة الأميركيين، ذلك أنه »من الحب ما قتل«.

لملفات الأمن الأميركي ضد روسيا مفاعيل هدفها جعل مخاض أي تقارب بين ترامب وبوتين موجعاً. قد يكون منطقياً أن ينفتح الرئيس ريتشارد نيكسون المنتخب دون تشكيك ولا جدل ولا مظاهرات على دولة خصم مثل الصين في أوائل سبعينيات القرن الماضي، لكن الأمر سيكون عسيراً على رئيس »تدخلت موسكو« لفتح أبواب البيت الأبيض أمامه. لكن دونالد ترامب نفسه يستطيع أيضاً أن يتأبط ملفات الأمن هذه في أي محادثات سيجريها مع نظيره الروسي لعل الأخير يتفهم معوقات الودّ بينهما إذا لم يتنازل بوتين في هذا الملف ويتراجع في ذاك الميدان.

Republican presidential hopeful Donald Trump speaks during the prime time Republican presidential primary debate on August 6, 2015 at the Quicken Loans Arena in Cleveland, Ohio. AFP PHOTO/MANDEL NGAN
ترامب يعترف باختراقات موسكو لكنه يهاجم اجهزة المخابرات الاميركية

لكن وبغض النظر عن مدى تأثر رئاسة دونالد ترامب بالتشوهات التي يوحيها اتهام موسكو بأنها سوّقت لهذا الرئيس بالذات، فإن روسيا نفسها غير متأكده مما يحمله الرئيس الجديد وليست متيقنة من قدرته على احترام تعهداته ووعوده بطي صفحة الخلاف بين واشنطن وموسكو وفتح صفحة الاتفاق والتعاون بين البلدين. وربما أن في موسكو من سيكتشف أن ترامب ظاهرة مجوفة لا يمكنها قيادة بلد مثل الولايات المتحدة دون مؤسساتها، وربما أن في موسكو من سيندم على خسارة هيلاري كلينتون الرئيسة المعادية لروسيا لكن الواضح كيف التعامل معها.

ليس أوباما من انتفض ضد »إنقلاب« الانتخابات الرئاسية. بدا أن كافة المؤسسات الأمنية التي أبدى دونالد ترامب استخفافاً بها وتشكيكا في مصداقية تقاريرها أثناء حملته الإنتخابية، تستنفر مفاعيلها لتدلي بدلو اتهامي مباشر لموسكو باقترافها محظوراً معيباً، وهي في نفس الوقت تبلغ الرئيس الأميركي المقبل أن للأصوات التي أتت به إلى البيت الأبيض روائح عفن تنفخها رياح بثتها روسيا بأوامر مباشرة من زعيم الكرملين فلاديمير بوتين..

تعيب واشنطن على موسكو قيامها بأنشطة تجسس ضد الولايات المتحدة. ليس في الأمر أي جديد لافت. فروسيا والولايات المتحدة دولتان متخاصمتان ترثان عداوة أجهزة المخابرات منذ عهد الاتحاد السوفياتي وعصر الحرب الباردة. ثم أن الولايات المتحدة نفسها لا تتجسس على الخصوم فقط، بل على الحلفاء دون خجل، في ما أفرجت عنه فضيحة التنصت الأميركي على هاتفي الرئيس الفرنسي فرانسوا هولاند والمستشارة الألمانية انغيلا ميركيل. لكن الأمر في السياق الأميركي يتجاوز اختراقاً أمنيا تقنياً تقليدياً، فلـ »أميركا« حسابات أخرى من هذا الحصاد…

معارضو دونالد ترامب في الولايات المتحدة يتساءلون بخبث انه إذا كان ترامب يرى في التعاون مع روسيا مصلحة أميركية، فلماذا لا يعتبر الشيء نفسه مصلحة مع الصين. ورب قائل في كواليس القرار في موسكو أننا لا نستحسن ود ترامب المفرط، ولا نريد لاعجاب الرئيس المنتخب بالرئيس الروسي  أن يكون استفزازيا لذاكرة وذائقة الأميركيين، ذلك أنه »من الحب ما قتل«…

نيويورك تايمز: 6 أسئلة تشرح التلاعب

تشير صحيفة نيويورك تايمز في تقرير نشرته حول الأمر إلى أنه في ظل دوامة الاتهامات والكشوفات في مسألة تورط روسيا في الانتخابات الأمريكية، ليس من السهل أبدا الوصول لنتيجة واضحة ومحددة بهذا الشأن.

على سبيل المثال، بعض المحللين يقولون إن روسيا اخترقت الانتخابات، ولكن هذا الاختزال يُخفي خلفه ما هو أكثر من مجرد تغيير الاصوات، وهي نقطة من نقاط عديدة في المسألة. يعرض ماكس فيشر في تقريره ما هو معروف وما هو ليس كذلك، ويُفصِّل بين الحقيقة والزيف في هذه القضية.

ما حقيقة دور روسيا في الانتخابات؟

بحسب نيويورك تايمز، قامت الأجهزة الأمنية في روسيا باختراق خوادم البريد الإلكتروني الخاصة باللجنة الوطنية للحزب الديمقراطي العام الماضي، ومجددا في ربيع هذا العام، وفق ما أكدته الوكالات الأمنية الأمريكية، والعديد من الشركات الأمنية المستقلة. قام الروس كذلك باختراق البريد الإلكتروني الخاص بـ»جون بوديستا«، رئيس حملة كلينتون الانتخابية.

هذا الصيف قام وسطاء لهم ارتباطات بروسيا بتمرير الرسائل المُخترقة إلى ويكيليكس، وإلى مدونة ووردبريس مجهولة تسمى Guccifer 2.0. قامت هذه المنصات بنشر الرسائل على الملأ، وهو ما تسبَّب في أسابيع من الصعوبات في وجه الحملة الرئاسية لكلينتون في وسائل الإعلام.

وتشير الجريدة إلى أن الكثير من المُحللين يعتقدون أن هدف روسيا كان إثارة الاضطراب، وزعزعة ثقة الأمريكيين في حكومتهم- وهو تكتيك روسي معروف- وليس محاولة تغيير مسار الانتخابات.

لكن بعد الانتخابات، أشارت وكالة الاستخبارات المركزية إلى أن هدف روسيا كان إعطاء دفعة لحملة دونالد ترامب الانتخابية.

لا توجد معلومات حول ما إذا كان السي آي إيه يعتقد بالفعل أن التدخل الروسي غيَّر نتيجة الانتخابات، على حد وصف الجريدة.

هل تم اختراق الانتخابات نفسها؟

تلاحظ الجريدة في تقريرها عدم وجود أي أدلة على أن مخترقين من روسيا أو أي مكان آخر قد تلاعبوا بالأصوات الانتخابية نفسها.

يقول ترامب: إن هناك الكثير من الأصوات الزائفة ذهبت لصالح كلينتون، بينما يدَّعي مُعلقون ليبراليون أن الانتخابات تم اختراقها، ولكن المحللين المستقلين يقولون: إن هناك الكثير من الأدلة التي تُثبت خطأ الطرفين.

بحسب التقرير، فإن مجلة نيويورك، وهي دورية واسعة الانتشار، أوردت أقوالا لـخبيريْن في شؤون التصويت أكدوا أنه على الحزب الديمقراطي المطالبة بإعادة الفرز خوفًا من أن يكون مخترقون قد تلاعبوا بالأصوات، ولكن أحد هذين الخبيريْن تبرأ من التقرير قائلا: إنه دفع باتجاه إعادة الفرز، لكنه شكَّك في احتمالية الاختراق.

البيت الأبيض ولجنة الانتخابات صرحوا بأنه ليس هناك أي دلائل على التلاعب في الأصوات، وأنها تعكس بشكل دقيق الإرادة الشعبية.

يُنوِّه التقرير إلى أن جهود إعادة فرز الأصوات، التي قادها مرشح الحزب الأخضر جيل شتاين، ليس لها أي علاقة باكتشاف اختراق روسيا لرسائل البريد الإكتروني للحزب الديمقراطي والسيد بوديستا.

هل حرفت روسيا الانتخابات باتجاه ترامب؟

من المستحيل على حد تعبير الجريدة معرفة هذا الأمر على وجه اليقين؛ لأن رسائل البريد الإلكتروني تم الكشف عنها خلال أسابيع عديدة، إلى جانب العديد من دراما الانتخابات الأخرى، لهذا فإن استطلاعات الرأي لا يمكنها أن تُحدد بشكل دقيق تأثير هذه التسريبات على النتيجة.

فاز السيد ترامب بفارق ضئيل جدًا في ثلاث من الولايات الغربية، حتى لو كانت التسريبات غيَّرت نسبةً قليلة جدًا من الأصوات، فهذه النسبة قد تكون كافية لتغيير نتيجة الانتخابات بشكل عام.

لكن هذا المنطق ينطبق على العديد من العوامل الأخرى، مثل التحقيق الذي أجرته الـ FBI في مسألة خوادم البريد الإلكتروني الخاصة بـ»كلينتون«. وقد أوضح علماء السياسية أنه حتى التغير في الطقس أو أداء الفرق الرياضية قد يُغيِّر من طريقة تصويت الناس.

يشير التقرير في هذا السياق إلى أن كل الأدلة المتاحة تُوضح أن المُصوتين اختاروا دونالد ترامب بكامل إرادتهم في يوم الانتخابات بعدد كافٍ من الأصوات يُحقق له الفوز في ظل نظام المجمع الانتخابي. لكن هذا لا يُقلل من خطورة التدخل الروسي غير المسبوق.

لماذا يعتقد سي آي إيه أن روسيا أرادت مساعدة ترامب؟

يلاحظ التقرير أن تقييم سي آي إيه يعتمد على حقيقة أنه حدث اختراق روسي آخر لقاعدة بيانات الحزب الجمهوري، ولكن روسيا اختارت أن لا تُسرِّب ما وجدته، على عكس ما حدث مع الحزب الديمقراطي. أعطى هذا بعض المصداقية للنظريات التي تفترض أن موسكو كانت تُفضِّل مرشح الحزب الجمهوري.

وعد السيد ترامب بشكل مُتكرر بالوقوف في صف روسيا، ومدح رئيسها فلاديمير بوتين، بينما تعتبر موسكو وجهات نظر كلينتون عدائيةً تجاهها.

يشير التوقيت إلى أن رغبة روسيا في مساعدة ترامب لم تظهر إلا بعد واقعة اختراقها لقاعدة الحزبين، التي حدثت قبل صعود ترامب.

طالب ترامب في مؤتمر شعبي في يوليو/تموز الماضي روسيا باختراق »إيميلات« كلينتون، لكن هذا الطلب لم يُشجع أو يدفع روسيا لفعل ذلك، فقد حدث الاختراق قبل هذا المؤتمر بعدة شهور.

هل نشرت روسيا أخبارًا زائفة مؤيدة لترامب؟

بحسب الصحيفة، فإن وسائل الإعلام الروسية المملوكة للدولة كانت تُفضِّل ترامب بالتأكيد، وتهاجم كلينتون، ولكن وصولية هذه الوسائل للداخل الأمريكي محدودة، بينما تحظى بشعبية أكبر في أوروبا.

هناك شركة تُدعى PropOrNot  ادَّعت أن الحكومة الروسية قامت بإغراق وسائل التواصل الاجتماعي الأمريكية بأخبار الانتخابات الزائفة. لكن العديد من المُحللين المستقلين شككوا في منهجية التقرير، الذي صنَّف بعض المواقع على أنها وسائل دعائية لموسكو دون أن يُثبت الرابط فعليا.

الأخبار الزائفة مُشكلة كبيرة، وهناك العديد من الشركات في شرق أوروبا تقوم بكتابة ونشر هذه الأخبار، ولكن على ما يبدو فإن هذه الشركات مدفوعة بدافع الربح الخالص دون أي أجندة سياسية مسبقة، على حد وصف التقرير.

ما هي أهداف روسيا من هذا التدخل؟

يخلُص التقرير إلى أن هناك مدرستين من الأفكار في هذه المسألة. الأولى ترى أن روسيا هدفت لإضعاف الولايات المتحدة وزعزعة اليقين فيها، في الوقت الذي كان الجميع واثقا فيه من فوز كلينتون. المدرسة الثانية ترى أن لروسيا مصلحة في وصول ترامب للرئاسة بالتحديد.

هاتان النظريتان ليستا متعارضتين تمامًا، بحسب التقرير. ربما بدأت روسيا بالهدف الأول، وأضافت الثاني لاحقا على سبيل الأمل في الربح الإضافي.

أشعلت روسيا حملة مُماثلة في أرجاء أوروبا عن طريق الهجمات الإلكترونية والتسريبات الانتقائية بهدف إضعاف الوحدة الغربية.

يرى الكرملين نفسه تحت الحصار الغربي، الذي يسعى لتدمير روسيا. يدفع الجنرالات الروس باتجاه حروب الظل وساحات الحروب الهجينة عبر استخدام الدعاية والهجمات الإلكترونية؛ لزعزعة الأعداء من الداخل.

ليست كل التضليلات قادمة من موسكو. انتشار الشائعات في منصات التواصل الاجتماعي حول التورط الروسي في الانتخابات الأمريكية قد يُحقق الهدف الروسي في زعزعة ثقة الأمريكيين في شرعية ونزاهة نظامهم الديمقراطي.


* صحافي وكاتب سياسي لبناني