إشاعة

سهير آل إبراهيم

قرأت قبل أيام مقالا  لكاتبة نمساوية ذكرت فيه انها أمضت ومنذ طفولتها ليالٍ طويلة كانت تشعر فيها بالحزن والأسى كلما تذكرت ذلك المهندس من قريتها، والذي سمعت حكايته من جدتها. تقع قرية تلك الكاتبة خلف جبل كان يجعل الوصول الى أطراف البلد الأخرى صعبا، مما دفع أحد المهندسين في القرية الى التفكير بشق نفق لقطار يمر عبر الجبل، لغرض تسهيل تنقل الناس ونقل البضائع من والى القرية، والتخفيف من معاناة سكانها، وفعلا باشر بدراسة المشروع التي إستهلكت من وقته وحياته أشهرا طويلة. كانت فكرته أن تكون المباشرة بحفر النفق من منطقتين على جانبي الجبل؛ من جانب القرية ومن جانب الجبل المقابل له في الطرف الآخر بحيث يلتقي النفقان في المنتصف بعد انتهاء الحفر ليشكلا نفقا واحدا، وذلك ما تم الشروع به فعلا. إستغرقت عملية الحفر عدة سنوات فبدأ الشك يدب في نفس المهندس، وصار يفكر أنه ربما أخطأ في حساباته وأن شقي النفق لن يلتقيا أبدا. تلك الفكرة كانت مرعبة بالنسبة إليه الى درجة دفعته  الى إنهاء حياته بإطلاقة من مسدس صوبه نحو رأسه. المؤلم في تلك الحكاية ان الحفر انتهى بعد عدة أيام من وفاته حين إنهدم الجدار الأخير الذي كان يفصل شقي النفق فالتقيا وتحقق حلم ذلك المهندس وهدفه ومشروعه الذي لم يشهد للأسف نجاحه.

لا تلام تلك الكاتبة إن وجدت الحكاية مؤلمة، من حيث النهاية المأساوية لحياة شخص سعى جاهدا لتسهيل حياة سكان قريته، وقد تأثرت بها بشكل كبير بحيث انها رسخت بذهنها منذ الطفولة ولم تتمكن من نسيانها، فقررت أن تقوم ببحث مستفيض عن ذلك المهندس، والذي فارق الحياة في بداية القرن العشرين. أسفر البحث عن نتيجة لم تخطر ببالها أبدا، فقد سجلت الأوراق الرسمية أنه فقد حياته نتيجة إصابته بداء مميت! معنى ذلك أن الحكاية التي روتها الجدة، والتي سببت الحزن والقلق للكاتبة في طفولتها وشبابها لم تكن إلا من نسج الخيال. الغريب في الأمر أن تلك الحكاية أو الأكذوبة هي التي كانت شائعة في القرية، والتي كان الناس هناك يتداولونها كجزء من تاريخ إنشاء النفق، بينما حقيقة موته لم تُعرف إلا من خلال البحث والتقصي!

تشكل صفحات التواصل الإجتماعي في هذا الزمن بيئة خصبة للكثير من الأكاذيب والإشاعات. من ذلك مثلا بعض الحكايات التي يدعي كاتبوها إثبات الإعجاز العلمي في القرآن، والتي يبدو أنها تزداد شيوعا مع تزايد أعداد مستخدمي صفحات التواصل تلك. بعض الحكايات، وأقول بعضها لأني بالتأكيد  لم أمر عليها كلها، بعضها محبوك بطريقة لا يملك القاريء أمامها إلا أن يقول سبحان الله، ولكن من يلجأ الى البحث عن مدى مصداقيتها في المواقع العلمية الرصينة لا يجد لها أي أساس من الصحة.

تعرف الإشاعة بأنها خبر أو مجموعة أخبار زائفة تنتشر في المجتمع بشكل سريع، ويعتمد مدى انتشارها وسرعته على درجة الوعي لدى المتلقي، فالجاهل مثلا تنطلي عليه الأكاذيب بسهولة في أغلب الأحيان. كلما ارتفع الوعي لدى المتلقي كلما فكر بما نُقل اليه وربما حاول البحث لإيجاد حقيقة الكلام من زيفه. الإشاعة بلا شك تختلف عن الرأي، فالآراء أحيانا لا يمكن تصنيفها الى صحيحة وخاطئة، فرأي الفرد يعتبر صحيحا حتى وإن اختلف عن آراء الآخرين؛ من لا تستهويه رياضة كرة القدم مثلا وسط مجتمع من محبي تلك الرياضة يكون رأيه صحيحا بنفس درجة صحة آراء الآخرين، أما الإشاعة فإنها تروي وتنقل معلومة او مجموعة معلومات قد تكون معظمها كاذبة. والسؤال هنا لماذا يلجأ البعض الى إطلاق الإشاعات والأكاذيب؟ ولماذا يتداولها الآخرون بدون التأكد من صحتها؟

العقل البشري مذهل ومدهش وغريب أحيانا، ومن صور غرابته مثلا الإستماع الى من يدعي أنه رجل دين وهو يقف على المنبر ليلقي على مسامع الكثيرين حكايات أجدها أحيانا مضحكة لما فيها من مبالغة وإمعان في خيال لا يصدر عن عقل سوي، وفي ذروة الأكذوبة يهب المستمعون بترديد عبارات الصلاة على النبي تأثرا بعظمة ما سمعوه، ولكن أي باحث عن الحقيقة يستطيع أن يكتشف بسهولة زيف تلك الحكايات وبطلانها، ربما يكون قد مر على القاريء الكريم خطاب ذلك الشيخ الذي (أثبت) أن الأرض مسطحة وليست كروية، أو مثلا تلك المقالات التي يدعي كاتبوها أنها تستند على دراسات صادرة من جامعات مرموقة، أو يدرجون فيها أسماء باحثين غربيين ليس لهم وجود حقيقي، والتي يحاولون من خلالها إثبات حصول معجزات ما أنزل الله بها من سلطان، في محاولة منهم لتعزيز الإيمان في قلوب الناس، كما يظنون، ولكن أكاذيبهم تلك لا تعكس سوى جهلهم وضعف إيمانهم. مشكلة الجاهل أنه يعتقد أنه أكثر علما من الآخرين.

يعمد البعض الى تأليف الحكايات المثيرة بهدف تحقيق مكانة لأنفسهم لدى جمع المستمعين، كي يظهر الشخص وكأنه الأكثر علما بينهم أو الأكثر معرفة بمجريات الأحداث، ولا يغيب على القاريء الحصيف عدد الأشخاص الذين أصبحت لهم قدسية في نفوس البعض بسبب حكايات كاذبة وخرافات ألقوها على مسامع من يصدق أي حكاية مهما كانت غرابتها. وفي الواقع هناك أدوات جامدة صبغت بصبغة القدسية الزائفة، ولا أستغرب إن كان الهدف من وراء ذلك تحقيق مكاسب مادية، فالنذور التي تُقدم الى جرارٍ زراعي مثلا لا تُستهلك بالطبع من قبل تلك الماكنة وإنما هناك من يستفيد منها ومن يعتاش على بساطة عقول البعض وجهلهم.

ليس بالضرورة ان يحقق مطلق الإشاعات والأكاذيب مكاسبا مادية، فالبعض يتوق الى تحقيق مكانة مرموقة  بين الناس يعلم انه لا يستطيع تحقيقها بالطرق السوية السليمة كالعمل الدؤوب الذي يكلل بنجاح متميز مثلا. وقد يكون الهدف من وراء الإشاعة الانتقام من آخرين وإيقاع الأذى بهم.

يا ترى ماذا كانت نية من ابتدع حكاية انتحار ذلك المهندس؟ هل كان يتمنى لو كانت تلك النهاية فعلا لذلك الرجل الذي أسدى خدمة عظيمة لقريته بعقله وعلمه وعمله الدؤوب؟ هل نُسجت تلك الحكاية بدافع الحب أم بدافع الكره؟ مهما يكن الدافع فالاكذوبة تبقى أكذوبة مهما حاول مؤلفها من إتقانها وجعلها معقولة وقريبة من الواقع. قد لا نستطيع إيقاف نشر الأكاذيب والإشاعات، ولكن من واجب المرء، إتجاه نفسه على الأقل، أن يفكر فيما يسمع ويرى وأن يحتكم الى عقله لتلافي الإنزلاق في دروب الجهل المظلمة.

 »ذو العقل يشقى في النعيم بعقله

و أخو الجهالة في الشقاوة ينعمُ«

العدد 95 – اب 2019