»إن طال بك ليل الأوهام«

سهير آل إبراهيم

في مشهد من أحد الأفلام القديمة التي أُنتجت في أربعينات القرن الماضي، يبدو المطرب محمد عبد الوهاب مهموما فيذهب الى حمام منزله، يملأ حوض الاستحمام بالماء والصابون ثم يغمر جسده فيه وهو يتغنى بالماء وفوائده وجماله، ومما يقول:

إن طال بك ليل الأوهام

و عيونك مش قادرة تنام

صدقني خُذ لك حمام

يجي نومك والليلة هنية…

الحمام ببساطة غرفة موجودة في كل منزل تقريبا في زماننا هذا، انشاؤها وتفاصيلها اكثر تعقيدا من غرف المنزل الأخرى، لانها تتطلب مثلا  تمديد أنابيب لإيصال الماء اليها وتصريفه منها بدون ان تتسرب تلك المياه أو الرطوبة الناتجة عنها الى سائر ارجاء المنزل. حمام الدار رفاهية لم تتوفر للانسان عبر العصور، فقد مر ذلك الإختراع المهم بتطورات كثيرة عبر الزمان حتى وصل الى الشكل والتفاصيل التي نعرفها اليوم.

على أراض قد تبدو مساحات منها قاحلة اليوم، قامت قبل الوف السنين حضارات وادي الرافدين، أو كما تسمى بلاد ما بين النهرين، اولى الحضارات  التي قدمت للانسانية اختراعات كانت الاساس لما وصل اليه الانسان اليوم. من ضمن ما اخترعه اولئك العظماء اضافة الى الكتابة والعجلة، كانت انظمة الري والتحكم بالمياه لغرض الاستفادة منها في الزراعة وفي الحياة اليومية عموما، ومن ذلك انشاء الحمامات الخاصة في قصور ومنازل الاثرياء منهم، والتي كانت تستخدم للاغتسال بالماء ومباركة الجسد بالزيوت المقدسة.

كانت الحمامات الخاصة تبنى في الطرف الجنوبي من قصور ومنازل اثرياء البابليين، تغطى ارضيتها والاجزاء السفلية من جدرانها بالطابوق الطيني المفخور. اما ارضية الحمام، والتي كانت تغطى بطبقة من مزيج القير ومسحوق حجر الجير، فكانت  تنحدر من الجوانب نحو الوسط حيث يتم تصريف المياه عبر انبوب فخاري مغلف ببلاط من الخزف.

تبين الاكتشافات في مواقع التنقيب عن آثار الحضارات القديمة ان مغاطس الاستحمام عرفت قبل أكثر من ثلاثة آلاف سنة قبل الميلاد، وفي ثلاث من قارات العالم، حيث استخدمت مغاطس المياه الباردة في قارة اسيا، وحمامات البخار التي وجدت آثارها في مناطق من اوروبا وشمال اميركا، والتي كانت قد بُنيت من الحجر او الطابوق المفخور. كما عثر في الجزر اليونانية على مغاطس من السيراميك مزودة بموصلات للمياه الباردة والساخنة، يعود تاريخها الى حوالي الف وخمسمائة سنة قبل الميلاد.

انشأ قدماء الاغريق حمامات عمومية كانت تعتمد على مرشات المياه، حيث يغتسل الناس بدون الحاجة الى المغاطس أو احواض المياه. كانت المياه تتدفق عبر تلك المرشات عن طريق الدفع والضخ عبر الانابيب الموصلة. اما قدماء الرومان فقد اوجدوا الحمامات العمومية التي كانت تضم احواضا كبيرة تُملأ بالمياه الساخنة، كما كانت تضم غرفا للمياه الباردة والدافئة واخرى للبخار. كان الذهاب الى الحمام من الفعاليات الاجتماعية، الا ان الاختلاط بين الجنسين فيها كان ممنوعا وبشكل مشدد، فالحمام يفتح للرجال في اوقات معينة وللنساء في اوقات اخرى. وبطبيعة الحال كان للاثرياء منهم حماماتهم الساخنة الخاصة في دورهم وقصورهم.

مع بدايات القرون الوسطى تضاءل استخدام وانشاء الحمامات العمومية بشكل كبير في الغرب، بينما تطورت وازدهرت مثيلاتها في الشرق الاوسط، حيث كانت احواض الاغتسال تُنشأ في دور لها فتزين جدرانها برسوم وزخارف عربية اسلامية وتبلط ارضياتها بالموزاييك. من اقدم تلك الحمامات الموجودة الى يومنا هذا حمام في سوريا يعود تاريخه الى القرن الثاني عشر الميلادي.

اما الحمامات في بغداد فحكاية اخرى، حيث كانت بغداد في القرون الوسطى قلبٌ العالم الاسلامي ومركز الحكم وقبلة للعلوم والترجمة، وكان العلماء والباحثون يقصدون دار الحكمة من كل مكان. شكلت الحمامات في ذلك الزمان جزءا مهما من تفاصيل الحياة في المجتمع، بحيث كان عدد الحمامات وجودتها من المؤشرات التي تبين مدى ازدهار أي مدينة وتحضرها. لذلك كثرت الحمامات في بغداد آنذاك، فقد بنيت بجوار المساجد نظرا الى حاجة المسلمين الى الوضوء قبل كل صلاة، كما بنيت بجوار المدارس واماكن عديدة اخرى من المدينة. يذكر ان المؤرخ وكاتب الديوان هلال بن محسن الصابىء، المولود في بغداد عام 968 للميلاد كان قد قدر عدد الحمامات في بغداد في اوج عظمتها وازدهارها بستين ألف حمام. قد يكون في ذلك الرقم مبالغة اذا اخذنا بنظر الاعتبار المساحة الكلية للمدينة آنذاك، ولكنه يعطي فكرة عن كثرة الحمامات وشيوع انشائها هناك في تلك الفترة.

تركز معظم الدراسات حول حمامات المشرق على جمالية العمارة والزخرفة والتزيين فيها، الا ان الادوات التي كانت تستخدم فيها لا تقل عن ذلك اهمية وجمالا. تصور الرسومات على جدران الحمامات القديمة نساء يحملن سلالا، اغلب الظن كانت تضم ما يحتجنه في الحمام من أمشاط وعطور ومستحضرات تجميل، وهذه كلها تختلف حسب ثراء المرأة وطبقتها الاجتماعية، فلا شك ان مشط الاميرة يختلف عن مشط جاريتها.

لم تكن الحمامات مختلطة بالتأكيد، اذ كان استحمام الرجال والنساء يتم في أوقات مختلفة، أو ربما في حمامات مختلفة كليا، الا ان ضوابط استخدام الحمام كانت موحدة تقريبا، مثل ارتداء المئزر وعدم الجلوس عراة في غرف الاستراحة.

تطورت الاقمشة التي كانت تستخدم لتجفيف الجسم والشعر بعد الاستحمام، فقد انتجت للسلاطين والامراء والاثرياء في الدولة العثمانية أفخر انواع المناشف التي كانت تطرز بدقة وحرفية عالية باستخدام خيوط الذهب وغيرها من الخيوط الثمينة، ولا زالت اسماء تلك المناشف متداولة حتى اليوم، المنشفة الاصغر تسمى(هالي) أو كما تسمى في العراق (خاولي)، والاكبر منها التي يُلف بها الجسد تسمى پشتمان وهذه الكلمة ايضا ليست عربية لكنها مستخدمة في اللهجة العراقية في بعض مناطق بغداد، اذكر انها تُلفظ پشطمان.

و مثل المناشف تطور ايام الدولة العثمانية  القبقاب الخشبي الذي كان يلبس في الحمام، فصارت تُحفر على خشبه نقوش دقيقة تُزين احيانا باللآلىء والاحجار الثمينة. ربما كان القبقاب وسيلة للتعريف بمركز مرتديه الاجتماعي، فعندما يكون المستحم عاريا يدل القبقاب المزين بالاحجار الثمينة على مركز صاحبه ومدى ثرائه، وهذا رأيي الخاص الذي لم اقرأه في أي كتاب.

قبل عقود من الزمن لم يُغن حمام المنزل النساء في بلادنا عن حمام السوق، فكان ذلك الحمام يستخدم احيانا كمكان للترويح عن النفس خارج المنزل، تلتقي فيه الصديقات والقريبات للاستئناس بصحبة بعضهن البعض بالاضافة الى الاستحمام، فيتبادلن الاحاديث ويتناولن الاطعمة التي جلبنها معهن استعدادا لذلك. كانت زيارة الحمام تطول احيانا لعدة ساعات خصوصا عند صبغ الشعر بالحناء حيث يجب ان يترك الشعر منقوعا بها لعدة ساعات كي تتحقق الفائدة المرجوة منها.

سقى الله اياما ضمت فيها بغداد الوف الحمامات العمومية مع ما يناسبها من انظمة الصرف الصحي، بينما في زماننا هذا وبعد مرور مئات السنين على ذلك الوقت صارت شوارع بغداد العظيمة تلك تفيض بالمياه كلما امطرت السماء!

العدد 110 / تشرين الثاني 2020