الأخ في الشعر العربي… صورة لجوهر لا يتغير

الأخ اسم صَوت يدلُّ على التوجُّع والتأَوُّه وجمعه أُخْوان و إخْوان و أُخْوَة و إخْوَة ومثنّاه أَخَوانِ ومؤنثه أُخْت وجمع مؤنثه أَخَوات، ومعناه من جمعك وإياه صلبُ أبٍ أو بطن أمّ أو كلاهما معًا أو رضاعة. ويقال للأخوين اللذين يجمعهما أب واحد وأم واحدة شقيقان، ويقال أخ لأب لمن هو من أب واحد وأمّ مختلفة، وأخ لأم لمن هو من أمّ واحدة وأب مختلف.

وتستعار لفظة الأخ لكل من اشترك معك في القبيلة أو الدين أو الصنعة أو المعاملة أو المودة أو الصداقة. وورد عن بعض اللغويين أنهم يفرقون ما بين جمع الأخ في النسب والأخ في الصداقة؛ فجمعوا إخوة لمن هم في النسب وإخوان لمن هم أصدقاء مستندين الى ما جاء في القرآن الكريم تأييدا لهذا التفريق حيث قال تعالى (فَإِن كَانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلأُمِّهِ السُّدُس) يعني الأخ من النسب. وقال أيضا (وَجَاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُواْ عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَهُمْ لَهُ مُنكِرُونَ). وأيضا بجمع إخوان للأصدقاء كما في قوله تعالى (إِذْ كُنتُمْ أَعْدَاء فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُم بِنِعْمَتِهِ إِخْوَانًا). لكن هذا الجمع في حقيقته لم يكن واحدا فهنالك من الشواهد القرآنية أيضا ما يدل على استخدام المعنيين بكلا الصيغتين كما في استعمال لفظ أخوة للأصدقاء في قوله (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ). وأيضا استعماله للفظة إخوان للنسب كما في قوله (ولا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبَائِهِنَّ أَوْ آبَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنَائِهِنَّ أَوْ أَبْنَاء بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوَانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَوَاتِهِنَّ). لذلك يصح جمع أخ على الصيغتين دونما ريب، خاصة وأن القرآن الكريم أفصح دليل موجود قد دلّ على ذلك.

والأخوّة في حقيقتها رابطة وميثاق يربط بين الأفراد؛ سواء كانوا على صلة نسبية أم دينية أم مجتمعية أم بأي صفة أخرى تجمعهم.

ومن المهم أن نعرف أن العرب قديما وحديثا اهتموا بمفهوم الأخوّة وقيمتها بشقيها النسبي والمجتمعي. وقد نقلت لنا كتب التراث ما يجسد ذلك. وربما شعر مسكين الدارمي من الأمثلة عليه حيث قال:

أَخاكَ أَخاكَ إِنَّ من لا أَخا لَه

كساعٍ الى  الهيجا بغير سلاحِ

وإِن ابن عم المرء فاعلم جناحُه

وَهَل ينهضُ البازي بغير جناح

وَما طالبُ الحاجات إِلّا معذياً

وَما نال شيئاً طالب لنجاح

لحا اللَه من باع الصديق بغيره

وما كل بيع بعته برباح

كمفسد أَدناه ومصلح غيره

وَلَم يأَتمر في ذاك غير صلاح

وعلى هذا النهج سار العرب مهتمين بالصداقة التي هي من الصدق وبالأخ الذي هو من الوجع والآه؛ فهما يعبران عن دواخل النفس الإنسانية من التآزر والود والوفاء.

لذلك نرى أن صورة الأخ وإن تنوعت في القصيدة العربية إلّا انها لا تخرج عن هذا الإطار. فهي في واقعها تدل على أن الأخ أو الصديق السند والملجأ الذي يعاضدك على اجتياز مصاعب الحياة وتخطي همومها ومشاقها وهو نعمة كبيرة من الله تعالى. كما أن

المعيارالنفسي الحقيقي لها يقوم على التكافؤ والمعادلة، لأنها ان لم تكن كذلك فقدت ضوابطها الرئيسة. ينسب لطرفة بن العبد أنه قال:

عن المرء لا تسأل وسل عن قرينه

فكل قرين بالمقارن يقتدي

لذا فان الفاضل لا يكون مع غير الفاضل حسب ما يرى أبو العتاهية حيث يقول:

وللقلب على القلب   دليل حين يلقاه

وللناس من الناس   مقاييس وأشباه

يقاس المرء بالمرء   إذا ما هو ما شاه

وفي العين غنى للعيــــن أن تنطق أفواه

بل ان بعض الشعراء يصور الأخ الصديق على أنه أفضل من الأخ في النسب في بعض الحالات كما فعل العباس بن عبيد حيث قال:

كم من أخ لك لم يلده أبوكا  وأخ أبوه أبوك قد يجفوكا

صافِ الكرام إذا أردتَ إخاءهم   واعلم بأن أخا الحفاظ أخوكا

وكم من إخوة لك لم يلدك أبوهم   وكأنما آباؤهم ولدوكا

لو كنت تحملهم على مكروهة   تخشى الحتوف بها لما خذلوكا

وأقارب لو أبصروك معلقا           بنياط قلبك ثم ما نصروكا

الناس ما استغنيت كنت أخا لهم   وإذا افتقرت إليهم فضحوكا

وقد اهتم بعض الشعراء بتصوير الجانب الإيجابي من الأخوّة رغم أن البعض الآخر صوّر سلبياتها. ولم لا وهي مثال حيّ على تنوع المجتمع وقضاياه.

فالأخ عند محمد بن عمران الضبي شلو من أشلاء الجسم وقطعة لا يمكن أن تنفصل عنه حيث يقول:

وما المرء إلا بإخوانه      كما تقبض الكفّ بالمعصم

ولا خير في الكف مقطوعة  ولا خير في الساعد الأجذم

وهذه الصورة في الأصل مثال جوهر للفضيلة والوداد والشهامة والرجولة والكرم وكل شيء سام في هذه الحياة. كما يصورها أيضا الاصمعي بقوله:

ولا تقطعْ أخا لكَ عند ذنب  فإِن الذنبَ يغفرهُ الكريمُ

ولا تعجلْ على أحدٍ بظلم   فإِن الظلمَ مرتعُهُ وخيمُ

وإِن الرفقَ فيما قيلَ يمنٌ   وإِن الخرقَ في الأشياء شومُ

وخَيْرُ الوصلِ ما داوَمْتَ منه  وشرُّ الوصلِ وصلٌ لا يدومُ

ولا تفحشْ وإِن ملّئتَ غَيْظا  على أحدٍ فإِن الفُحْشَ لومُ

لكن أسمى معاني الأخوة والصداقة ستر عيب الأخ والتغطية عليه وفق ما يصور بيت الإمام علي بن أبي طالب عليه السلام ورضي الله عنه حيث يقول:

البس أخاك على عيوبه   واستر وغط على ذنوبه

وكذا في قول كشاجم:

جليس لي أخو ثقة   كأن حديثه خبره

يسرك حسن ظاهره وتحمد منه مختبره

ويستر عيب صاحبه  ويستر أنه ستره

فيما يصف ابن رشيق القيرواني الأخ والصديق بأنه الصدوق الذي يصدقك الأمر كما يصدق نفسه في دواخلها إذ يقول:

أحب أخي وإن أعرضت عنه  وقلّ على مسامعه كلامي

ولي في وجهه تقطيب راض   كما قطبت في إثر المدام

ورب تقطّب من غير بغض    وبغض كامن تحت ابتسام

ورغم أن ما يعرف عن الأخوة والصداقة إيجابياتها ودلالاتها الجميلة. إلّا ان عددا من الشعراء تواتروا على رسم صورة سلبية لها. فجسدوا في أشعارهم معاني الخسة والغدر والنذالة مستعملين في بعض الأحيان مفردات لاذعة ربما يلخصها قول حماد عجرد:

كم من أخ لك لست تنكره   ما دمت من دنياك في يسر

متصنع لك في مودته      يلقاك بالترحيب والبشر

يطري الوفاء وذا الوفاء ويلــحى الغدر مجتهدا وذا الغدر

فإذا عدا والدهر ذو غير  دهر عليك عدا مع الدهر

فارفض بإجمال أخوة من  يقلي المقل ويعشق المثري

وعليك من حالاه واحدة   في اليسر إما كنت والعسر

لا تخلطنهم بغيرهم    من يخلط العقيان بالصفر

وهذا حسان بن ثابت يحذر من مغبة اتخاذ أخ غير صدوق قد يتخلى عنك ويغدر بك حيث يقول:

أخلاءُ الرخاءِ همُ كثيرٌ    وَلكنْ في البَلاءِ هُمُ قَلِيلُ

فلا يغرركَ خلة ُ من تؤاخي    فما لك عندَ نائبَة خليلُ

وكُلُّ أخٍ يقولُ  أنا وَفيٌّ    ولكنْ ليسَ يفعَلُ ما يَقُولُ

سوى خلّ لهُ حسبٌ ودينٌ    فذاكَ لما يقولُ هو الفعولُ

وقد اختصر المرقش الأصغر صفة الأخوة الحقة في بيتين من الشعر قال فيهما:

أخوك الذي إن أحوجتك ملمة    من الدهر لم يبرح لها الدهر واجما

وليس أخوك بالذي إن تشعبت   عليك أمور ظل يلحاك لائما

ومن أصدق المعاني النفسية التي رسمها الشعراء صور رثاء الأخ والصديق. وأن خير من نستشهد به بهذا الباب هي الشاعرة المعروفة الخنساء التي بكت أخاها صخرا بعد موته فأبدعت بتكوين صور هائلة متنوعة لا تنفرط عن الذاكرة لقوتها وبلاغتها ومعانيها السامية؛ فقد جعلته شقيق روحها ولم تفارقه أبدا رغم موته حيث تقول:

يذكرني طلوع الشمس صخرا   وأذكره لكل غروب شمس

ولولا كثرة الباكين حولي   على موتاهم لقتلت نفسي

وما يبكون مثل أخي ولكن  أعزّي النفس عنه بالتأسي

 

بل انها توبخ عينيها بأنهما أصبحتا لا تجودان بالدمع على أخيها؛ فأي صورة أقوى في الرسم من هذه حيث تقول:

أعيني جودا ولا تجمدا   ألا تبكيان لصخر الندا

ألا تبكيان الجريء الجميل  ألا تبكيان الفتى السيدا

طويل النجاد رفيع العماد  ساد عشيرته أمردا

إذا القوم مدّوا بأيديهم  إلى المجد مدّ إليه يدا

فنال الذي فوق أيديهم إلى المجد ثم مضى مسعدا

ولم تقتصر هذه المعاني السامية على الشعر العربي القديم بل قد جرت على ألسن المحدثين أيضا ومنهم على سبيل المثال لا الحصر مصطفى لطفي المنفوطي الذي بكى أخاه في قصيدة معروفة قال فيها:

جاوَرتَ رَبَّكَ إبراهيمُ مُطَّرِحاً  أخاك أحمَدَ يَشكُو قِلَّة العَضُدِ

يقولُ والدمع في خديه منتظمٌ  كالعقد منتثرٌ كاللؤلؤ البَدَد

الى ان يقول:

 فاليومَ أصبحتَ بعد الأُنسِ منفرداً وكنتَ لي عُدّةً من أحسَنِ العُدَدِ

أخي قد كنت أرجو أن تُغيبني   تحت الترابِ ولكن خابَ مُعتَقدي

 وأخلف اللَه ذاك الظن إذ وثبتْ    إليكَ حُمرُ المنايا وثبة الأسدِ

وهذا إيليا أبو ماضي يرثي أخاه رثاء حزينا حيث يقول:

أَبَعدَكَ يعرف الصَبرَ الحَزينُ  وَقَد طاحَت بِمُهجَتِهِ المُنونُ

رَمَتكَ يَدُ الزَمانِ بِشَرِّ سَهمٍ   فَلَمّا أَن قَضَيتَ بَكى الخَأونُ

رَماكَ وَأَنتَ حَبَّةُ كُلِّ قَلبٍ   شَريفٍ فَالقُلوبُ لَهُ رَنينُ

وَلَم يَكُ لِلزَمانِ عَلَيكَ ثارُ   وَلَم يَكُ في خِلاِلكَ ما يَشينُ

ولكن كنت ذا خلق رضيّ  على خلق لغيرك لا يكون

عَجيبٌ أَن تَعيشَ بِنا الأَماني  وَأَنّا لِلأَماني نَستَكينُ

وَما أَرواحُنا إِلّا أَسارى  وَما أَجسادُنا إِلّا سُجونُ

ولم يقتصر جوهر الأخوّة على البشر كونه جوهرا يجسد المعنى لا قالبه المادي. وعلى هذا فقد يؤاخي الرجل ما ليس ببشر كالحيوانات لما لها من اشتراكات وارتباطات به كما نقلت لنا الكتب. بل وقد تتعدى هذه المؤاخاة الى الطبيعة وأدواتها كالليل والسيف وغير ذلك.

فهذا الشاعر العربي الكبير الفرزدق يؤأخي في شعره ذئبا راسما له صورة الجائع الخائف مشتركا معه فيها حيث يقول :

وأطلس عسال و مــا كان صاحبا

دعـــــوت لناري مــــوهنا فأتاني

فلما أتى قلت ادن دونـــــك إنني

وإيـــــاك في زادي لمشتــــركان

و بت أقدّ الزاد بـــيــني و بيــــــنه 

على ضـــــــوء نار مرة ودخان

و قلت له لمــــا تكشــــــر ضاحكا

وقائم سيــــــفي في يــدي بمكان

تعش فإن عاهـــدتني لا تخـــونني 

نكن مثل مــن يا ذئب يصطحبان

و أنت امرؤ يا ذئب و الغدر كنتما 

أخييـــــــن كــــــانا أرضعا بلبان

حريّ بالقول إن العرب في أشعارهم وصفوا الحيوانات بأوصاف البشر وربما فضلوها على بعضهم واستعاروا لها صفات المدح والثناء فقالوا مثلا إن العصافير لا تقيم في دار إلّا وهي مسكونة، فإن هجرها الناس لم تقم فيها. وان الهرّة تعرف ولدها وإن صار مثلها، وإن أطعمت شيئا حملته إليه وآثرته به.

بل لقد ورد عن أبي زبيد أنه رثى كلبا له يقال له (أكدر) قاتل أسدا فقال:

وظنّ أكدر أن تموا ثمانية   أن قد تجلّل أهل البيت باليمن

فخاف عزّتهم لما دنا لهم    فحاص أكدر مشفيّا من الوسن

بأربع كلّها في الخلق داهية  عضف عليهنّ ضافي اللحم واللبن

ألفاه متّخذ الأنياب جنّته    وكان باللّيل ولّاجا إلى الجنن

لكن، مهما تراجعت صورة الأخ في الشعر العربي تبعا لظروف الحياة وتقلباتها فهذا لا يعني أن جوهر هذه الصورة قد تغير وتلاشى. فهذا الجوهر يبقى جوهرا مثالا لا يتغير ولا يتلاشى أبدا مهما تغير الزمان والمجتمع. وهي دعوة الى الاستدراك والرجوع الى الفضائل والصفات النبيلة التي يتحلى بها الأخ سواء أكان النسبي أم المجتمعي.