الإستعداد للرحلة الأخيرة

سهير آل إبراهيم

كان الموت المجهول الشاغل لأذهان الناس وتفكيرهم عبر التاريخ، وهو لا يزال بلا شك كذلك، بل ربما كان هو المجهول الأكبر في هذه الحياة. كل إنسان يصل الى نقطة النهاية، والتي يراها البعض بداية لما يأتي بعد إنتهاء الرحلة على وجه هذه الأرض.

قد تكون فكرة الموت مرعبة للكثيرين، خصوصا اولئك الذين يؤمنون بعذاب الآخرة؛ فالموت يأخذهم عنوة الى حيث يكون الحساب والعقاب. وإن كانت الآخرة غير منظورة لنا، فإن القبور موجودة حولنا في كل مكان، تذكرنا أننا نسير نحوها في اتجاه ثابت لا يمكن أن نحيد عنه، كل ما هنالك اننا لا نعرف على الأغلب مقدار ما تبقى لنا من الطريق الى ذلك المستقر الأخير.

تختلف أساليب التعامل مع أجساد الموتى من مجتمع لآخر، وللأديان والمعتقدات دور كبير في تحديد ذلك، وقد لا يكون للشخص حرية اختيار الطريقة أو الهيأة التي يود ان ينتهي اليها جسده، ففي المجتمعات التي تسود فيها ديانات معينة غالبا ما تحدد تلك الديانات طريقة التعامل مع أجساد الراحلين. دفن الموتى تحت الأرض هي الطريقة التي ربما تكون الوحيدة في المجتمعات التي تسود فيها الديانات السماوية، بينما يعمد الهندوس مثلا الى حرق جثث موتاهم ونثر الرماد المتبقي فوق مياه أنهار مقدسة أو في أماكن أخرى تبعا لوصية الشخص المتوفى، وهنا لا توجد الحاجة الى توابيت وقبور، إذ لا يتبقى من الجسد ما يستوجب الحفظ ولن يحتل مكانا محددا على هذه الأرض.

صاحب التطور العلمي في شتى المجالات تغيرا في نظرة بعض الناس الى الموت، ففي الوقت الذي نصادف فيه أناسا يشعرون بالهلع لمجرد ذكر كلمة الموت، نجد آخرين يتعاملون معه كمرحلة من مراحل الحياة، أو بتعبير أدق المرحلة الأخيرة المتممة للحياة. وفي المجتمعات المتحضرة والتي يتمتع فيها الإنسان بحرية الرأي والإختيار، يختار بعض الناس حرق جثثهم مثلا، رغم انتمائهم لعوائل لها معتقدات تتعارض مع ذلك، كأن تقتضي الدفن مثلا، لذلك صارت بعض مقابر الغرب تضم قبورا صغيرة الحجم، ظننتها لأول وهلة  قبور أطفال صغار، لكني علمت فيما بعد انها قبور تضم حاويات رماد أجسادٍ  اختار أصحابها أن تُحرق، وربما كان دفن الرماد المتبقي يوفر مكانا لمحبيهم لزيارتهم كما تُزار القبور عادة.

ظل الإنسان الحر يتوسع في ممارسة حريته في الإختيار، فصار البعض يرفض مراسيم الجنائز التقليدية، والتي غالبا ما يسودها الحزن وتكللها الألوان القاتمة، إذ اصبحوا يريدون تلك المراسيم أن تكون احتفالا بالحياة التي عاشوها حيث يودعهم محبيهم خلالها الوداع الأخير، ولا أنكر انني، في بداية انتقالي للعيش في الغرب، كنت أستغرب عندما أسمع ذوي المتوفي وهم يصفون مراسيم جنازة أحبتهم بأنها كانت وداعا جميلا أو رائعا، حيث كانت حكايات المَلَكين وعذاب القبر تحتل مكانا في ذهني آنذاك!

يبدو أن الطريقة التقليدية للمآتم الحزينة لم تلق قبولا لدى الممرضة النيوزيلاندية كَيتي وِليامز الى الحد الذي دفعها الى التفكير بطريقة اعتبرها البعض ثورة في عالم المآتم والجنائز! رأت كَيتي أن المراسيم التقليدية لا تعكس صورة الحياة التي عاشها الشخص المتوفى ولا تبين سعادته فيها، وأرادت تغيير ذلك، فبدأت في عام بتشكيل ما يُعرف بنادي التابوت! كانت البداية في مرآب دارها، حيث أعلنت عن تشكيل نادٍ يقوم فيه الأعضاء بصنع التوابيت التي سوف تحتوي أجسادهم فيما بعد، ولهم الحرية في تزيينها بما يحبون من رسوم أو صور أو نقوش. كان لذلك النادي جانبا اجتماعيا ترفيها، بلا شك، حيث كان الأعضاء خلال تواجدهم هناك يتبادلون الأحاديث، عن الموت أحيانا،  ويحتسون الشاي والقهوة ويتناولون المأكولات الخفيفة. بعد الانتهاء من عمل التابوت وتزيينه، يقوم الشخص بأخذه الى منزله فيستخدمه كقطعة أثاث جميلة صنعها وزينها بنفسه حتى يحين وقت استخدامها للغرض الذي صنعت من أجله.

شاهدت مقطع فيديو يصور بعض الأشخاص المسنين من أعضاء ذلك النادي، يتحدثون عن توابيتهم وكأنها قطع فنية يفخرون بأنهم أنجزوها بأنفسهم، فتلك سيدة تستعرض صندوقها ذَا اللون الذي يماثل زرقة السماء، حيث زينت سطحه الخارجي بتشكيلة زهور جميلة رسمتها بيدها، وقد وضعته في غرفة المعيشة في مسكنها وفوقه مزهرية تضم أزهارا طبيعية وغيرها من قطع الزينة. بينما قامت سيدة اخرى بتزيين تابوتها بصور المغني الراحل ألفيس بريسلي الذي كانت تعشق فنه وأغانيه، وقد أستبدلت تلك السيدة سريرها بذلك الصندوق، تنام فوقه الى ان يحين الوقت الذي تنتقل فيه لترقد في داخله.

لاقت فكرة ذلك النادي قبولا واستحسانا كبيرين، إذ سرعان ما انتشرت في نيوزيلاندا وخارجها. افتُتِحَ أول نادٍ للتابوت في بريطانيا عام  في مدينة هَيستنكز الساحلية، أعقبته ثمانية نواد أخرى في أماكن متفرقة من إنكلترا. سيتم افتتاح أول نادٍ للتابوت في لندن، في منطقة توتنهام، خلال شهر أيلول (سبتمبر) الجاري.

مؤسسة نادي منطقة توتنهام هي السيدة جَين موران والتي تبلغ  سنة من العمر. عملت جَين لسنوات طويلة في مجال التحضير للمآتم ومراسيم دفن الموتى بكل تفاصيلها. تقول انها كانت تجد الكلفة المرتفعة لتلك المراسيم صادمة أحيانا، وكان يشغل بالها فداحة تلك الكلفة على الفقراء من الناس، لذلك وجدت في فكرة نادي التابوت الحل الأمثل. يوفر النادي توابيتا جاهزة تأتي على شكل قطع مفككة داخل صناديق وما على الشخص إلا أن يربط تلك القطع ببعضها بمسامير تأتي مع القطع الخشبية داخل الصندوق، وبعد ذلك له أن يطلق لمخيلته العنان في كيفية تزيينه من الداخل والخارج. الكلفة الأولية للتابوت  جنيه استرليني، وهذا الرقم يشكل جزءا بسيطا من كلفة التوابيت التقليدية.

أقامت السيدة موران حفلا أوليا لتأسيس النادي، وكانت تتوقع أن يكون الحضور من المسنين وربما بعض المرضى المقبلين على الموت، لكنها فوجئت بجمع من الناس ضم مختلف الأعمار، أصغرهم كانت فتاة في الثانية عشر من العمر وبصحة جيدة، وقد أظهرت تلك الفتاة حماسا واضحا حول النادي والمشاركة فيه. أعتقد ان ذهن تلك الطفلة خال من حكايات عذاب القبر وما يليه من عذاب أقسى وأشد في الآخرة. لا يوجد تاريخ محدد لافتتاح نادي توتنهام حتى وقت كتابة هذا المقال، إذ يبدو ان اغلب مالكي القاعات التي تصلح للتأجير كورش عمل، يرفضون فكرة إمتلاء قاعاتهم بالتوابيت!

اعتبر الفراعنة التابوت وكأنه مركبة ينتقل بها الإنسان لحياته الاخرى التي تبدأ بعد الموت، وها هو الإنسان بعد الوف السنين من زمن الفراعنة يتعامل مع تابوته كرمز يعكس من خلاله صور المحطات السعيدة في حياته، فينزل الى مستقره الأخير محاطا برموز وصور وذكريات من حياته أرادها على الأغلب ان ترافقه الى مثواه الأخير. تعددت التوابيت والموت واحد!

العدد 96 – ايلول 2019