البخل

سهير آل ابراهيم

هناك صفات و طبائع و عادات تميز كل واحد منا، قد يجدها البعض غير محببة، بينما هي عادية أو ربما حسنة برأي أناس آخرين. لكني اعتقد ان الكثير من الناس، في كل مكان تقريباً، يعتبرون البخل صفة ذميمة. رغم اننا قد لا نتوصل الى تحديد مفهوم دقيق للبخل، فمن اجده بخيلا قد يكون كريما برأي شخص آخر أشد منه بخلا!

طالما كانت طرق البخلاء و أساليبهم في تجنب إنفاق اموالهم موضوع تندر و فكاهة، فمنها ما لا يخطر على بال الانسان المعتدل في نظرته للمال و تعامله معه. و قد ترك لنا الجاحظ كتابا كاملا عنهم، بل و جعلهم هم عنوان ذلك الكتاب، حيث اسماه البخلاء؛ و هو كتاب ضخم ضم بين دفتيه الكثير من حكاياتهم و نوادرهم، بعضها كان عن شخصيات حقيقية. مما ذكره الجاحظ حكاية ذلك التاجر الخراساني الذي كان خلال ترحاله للحج و التجارة يحل ضيفا على شخص عراقي، و كان هذا الأخير يكرمه و يحسن ضيافته و يزوده بمؤونة الطريق عند رحيله. كان الخراساني يقول للعراقي في كل مرة لو كنتُ في بلدي لأكرمتك كما تكرمني. و بعد دهر من الزمان سافر العراقي الى بلدة ذلك التاجر، و قصد مجلسه مباشرة بعد وصوله من السفر، فأنكره التاجر و ادعى عدم معرفته به. ظن العراقي ان التاجر لم يتعرف عليه بسبب ملابس السفر فخلع عمامته، فأنكره أيضا، ثم خلع قلنسوته، و بعدها خلع عباءته و التاجر يدّعي انه لا يتذكره، و عندما همّ بخلع ردائه اخبره التاجر انه حتى لو خلع جلده لن يعرفه! يبدو أن هذا هو حال العراقي عبر الأزمان؛ يبادر بالخير و قد لا يُقابل بمثله.

لم يكن الجاحظ الوحيد الذي اهتم بالحديث عن البخلاء، فهم لم يسلموا من هجاء بعض الشعراء لهم، و ها هو ابن الرومي يصف بخل شخص اسمه عيسى بقوله:

يُقتِّرُ عيسى على نفسِهِ و ليس بباقٍ و لا خالدِ

فَلَو يستطيعُ لتقتيرهِ تنفّسَ من منخرٍ واحدِ

يصفُ بعضُ الناس البخلاءَ بالانانية، إذ يبدو جلياً أن البخيل يحب الأخذ و يكره العطاء، و قد قرأت قبل فترة تقريراً في واحدة من الصحف البريطانية، تحدثت الكاتبة فيه عن السلوك و الصفات التي تميز البخيل، قالت من ضمن ما قالت ان البخلاء يستدينون المال و لا يرجعونه الا بعد مطالبة و إلحاح، إن أرجعوه، و انهم يستعيرون الأشياء التي يحتاجونها من الاخرين و لا يعيدوها، و ذلك للمحافظة على مقتنياتهم او لتوفير المال اللازم لشراء ما يحتاجون. نجد من ذلك الوصف ان البخيل يشبه الأحياء الطفيلية التي تتغذى و تعتاش على غيرها من المخلوقات.

قال احد الشعراء يتكلم على لسان بخيل:

مِنكَ الدقيقُ، و مِنِّي النارُ أُوقِدُها. و الماءُ مِنِّي، و منكَ السَّمنُ و العَسَلُ

تؤثر العوامل البيئية بشكل كبير على خلق صفة البخل في الأفراد، فقد ينشأ الانسان منذ طفولته في بيئة يعاني فيها من الشحة و الحرمان من الكثير من احتياجاته المادية و المعنوية، و التي بالنتيجة تُفقده الكثير من مشاعر الامان، و تجعله يتمسك بشدة بما يملك خوفا و تحسبًا من العودة الى تلك الظروف مرة اخرى.

و بالاضافة للعوامل البيئية فإن العوامل الوراثية تلعب دورا في ذلك أيضا، فقد بينت الدراسات ان هناك نوع من الجينات تنقل صفة البخل من الآباء الى الأبناء، و لا تختلف النساء في ذلك عن الرجال، فلا نستطيع القول ان النساء أشد بخلا من الرجال، او بالعكس.

غالبا ما يرتبط ذكر البخل بالمال، فالبخيل احيانا يتخطى الحدود المعقولة لغرض تجنب إنفاق ماله و المحافظة على مقتنياته. الا ان البخل لا يقتصر على المال و الممتلكات الشخصية فقط، فهناك نوع آخر من البخل قد يعتبره البعض هو الأسوأ، ألا و هو البخل العاطفي؛ حيث يحاول الشخص ان لا يظهر عواطفه حتى لأقرب الناس اليه. يُرجع المختصون ذلك الى اعتقاد الشخص ان الإفصاح عن عواطفه و إظهارها يجعله ضعيفا تسهل السيطرة عليه! من اسباب ذلك هو قلة او انعدام ثقة الشخص بالآخرين، و التي غالبا ما تتولد نتيجة مروره بتجارب قاسية تعرض فيها الى الخذلان من أناس كانوا موضع ثقته.

لا بد من التمييز بين البخل و الاقتصاد، فالاقتصاد منهج حكيم ينتهجه الانسان لأسباب شتى، فقد تكون موارده محدودة جدا، الاقتصاد عندها يجنبه العوز و الوقوع في دوامة الاقتراض. كما ان الاقتصاد ضروري للاستعداد لخطط المستقبل و توفير إمكانية تحقيقها.

مما لا شك فيه ان البخل يتنافى مع العطاء. يعتقد البعض ان البخل هو الطريق الى الغنى، و لكن بالتأكيد لا يمكننا التعميم، فكم من غني ينفق بسخاء في مساعدة الفقراء و المحتاجين، و ذلك لان العطاء سمة تميزه، و مساعدة الاخرين تشعره بالبهجة و الرضا. غير ان احصائية أُجريت قبل سنوات عديدة، بينت ان عطاء ذوي الدخل الأقل اكبر من عطاء ذوي الدخل الأعلى، و ذلك بمقارنة المبلغ الذي تبرع به كل فرد شملته تلك الإحصائية الى الاعمال الخيرية، و حساب نسبة ذلك المبلغ من الدخل الكلي له.

وُجد المال لخدمة الانسان و توفير احتياجاته، كما انه الوسيلة التي تساعده على اقتناء وسائل الراحة، و تُسهل السبيل نحو حياة مرفهة، الى حد ما. و لكن يبدو ان الامر معكوس مع البخلاء، اذ نجدهم قد جندوا أنفسهم لحراسة المال و حمايته. عبيد المال يثيرون مشاعر الاسى و الشفقة في نفسي، و كلما ازداد ثراؤهم كلما تعاظم إشفاقي عليهم، خصوصاً اولئك الذين اعلم ان لديهم وَرَثة ينتظرون على أحر من الجمر رحيلهم عن هذا العالم!

عبر مسيرتي في هذه الحياة، أستطيع القول ان البخل درجات؛ فهناك أقصى درجات البخل، حيث يكون الشخص شحيحاً في كل شيء؛ في عواطفه و في ماله و حتى في الكلمة الطيبة، و كأن هذه الاخيرة تُنقص من رصيده المالي إن نطقها، و يبدو لي ان شخصاً كذلك لا يدرك ان بخله لا يترك له اَي رصيد محبة في قلوب الآخرين. بَيْدَ ان هناك من يطلق عليه الناس صفة البخل بسبب حرصه الشديد على المال، لكنه مُحبٌّ ودود، سخي في محبته للآخرين، كريم الخُلق جميل الطباع، و ذلك إنسان احترم حرصه على المال، و الذي قد يكون وليد تجارب مريرة سابقة . بالنسبة لي، أنا لا أعبأ بمقدار ما يملكه الشخص من مال و مقتنيات، و ليس لغناه او فقره أهمية عندي، لكني حتما اهتم بخُلقه و صفاته الانسانية التي لا تُشترى بالمال.