السكان الافتراضيون

الدكتور إبراهيم الحريري

8/8/2018

لطالما وصفتها بأنها خارج التغطية رغم استخدامها وسائل الاتصال التقليديه فهي تملك خطين تلفون ارضيين ببيتها ومكتبها وموبايل من أرقى الماركات ومزود بأحدث التقنيات وخدمة الانترنت عبر شبكة البيت والمكتب اللاسلكيتين ولكنها لم تنزل أي برنامج من برامج التواصل الاجتماعي وتقاطعها ولا تقتنع بها من قبيل التوتير والفيس بوك والسناب شات والانستقرام والويتس أب و….الخ.

و سألتها مرات ومرات عن سبب المقاطعة التي تقوم بها شخصيا وكانت اجابتها:  »إن التقنية وجدت لخدمتنا ولا يجوز أن تسيرنا وتسوقنا الى المنطقة التي رسمها لنا مبتكروها وتخترق خصوصياتنا من خلال سكانها الافتراضيين الذين لا نعرف عنهم الاما يزودونا بها أصحابها وهذه المعلومات تحتاج لكثير من التحقق والتصديق والموثوقية ونحن بشر ولسنا روبيتات«.

 قررت أن أمشي على خطاها ومقاطعتها للتقنية واخوض التجربة وامتنع عن وسائل التواصل الاجتماعي لمدة 24 ساعة فقط ونرى ما الذي يحصل وهل أقدر على خوض التجربة والوصول لنهايتها.

و بدأ الاختبار الاصعب على من تربى على التقنية والتكنولوجيا من نعومة أظفاره.

قمت بفصل الانترنت عن موبايلي وبدأ السباق وتحول موبايلي من موبايل موديل 2018 الى موبايل من قبيل موبايلات الجيل الماضي يقوم بالاتصال والاستقبال للمكالمات والرسائل النصية بأفضل الاحوال.

في بداية التجربة التي أخترت أن يكون توقيتها بعطلة نهاية الاسبوع  راودتني نفسي الامارة بالسوء لماذا هذه التجربة؟ وماذا ستستفيد منها؟ ولكني تمكنت من كتم جوارحي ومتابعة تجربتي بدون وسائل التواصل الاجتماعي التي نبدأ صباحنا باستعراضها ونتابع أفطارنا موازاة مع استعراض التغريدات التي تروق لنا والتي لا تروق لناو احيانا تعكر صفوة يومنا وأصبحنا من شدة تعلقنا بهذه الوسائل ترافقنا بحلنا وترحالنا وأفطارنا وغداءنا وعشاءنا ولقاءنا بأحبتنا وأصدقاؤنا وعائلاتنا وحتى لكثير منا بقيادة سياراتنا.

و قد عشت يوما كلاسيكيا بامتياز فقط خلدت للنوم مبكرا بصحبة كتابي التقليدي اشتم رائحة ورقه فلا وقت مخصص لليوتيوب قبل النوم على غير العادة لأستفيق باليوم التالي بكل نشاط وخصوصا لم تزعجني رسائل الويتس أب التي تأتينا من الأصدقاء والأحباب من وراء البحار والمحيطات مع فرق التوقيت الذي لا يدركه الكثيرين عند بعث الرسائل بكل الوسائل ولحسن الحظ كان يوم عطلة نهاية الاسبوع وارتشاف فنجان القهوة الصباحي مع العائلة على أنغام أرزة لبنان فيروز التي حرمنا من ترانيم صوتها الرقراق الجذاب بأغنيات )بحبك يا حبيبي -سلملي عليه- بكتب اسمك يا حبيبي – أنا وشادي – أنا أنا أنا وياك -اعطيني الناي أغني فالغناء سر الوجود وانين الناي يبقى بعد أن يبقى الوجود( ولكن هذا الشعور كنت الوحيد الذي أشعر به لان أقراني ممن كانوا يجالسوني بأجسادهم لشرب القهوة والغائبين بأرواحهم كانوا مشغولين بمواقع التواصل بينما انغمست بقراءة الجرية اليومية بالحديقة الغناء والافق الرحب كي لا أزعجهم وتذكرت نفسي قبل 20 سنوات وهذه الطقوس الكلاسيكية التي تضم أفراد الاسرة بنهاية الاسبوع.

و كان مجدولا أن نذهب بصحبة الاصدقاء للحديقة العامة لتناول ما لذ وطاب من المشاوي الشهية بجانب التبولة والمتبل والحمص وعلى غير العادة كنت اخرج موبايلي لاستعراض قوقل ماب وتجنب الطرق الاكثر ازدحاما بهذا اليوم المشمس بمدينة الضباب لاعتمد على خبرتي وحدسي باختيار الطريق الأفضل.

وصلنا الحديقة ونصبنا المنقل وتفاجأنا بحضور مأمور الحديقة ليخبرنا بأن الشواء بالحديقة قد تم منعه  تصدر أحد الاصدقاء الكلام قائلا : لا عليكم سنتغدا المشاوي وانا سأطلب لكم عبر تطبيق دليفيرو من أحد المطاعم المشاوي وسيحضروها للحديقة وتم الاجماع على الطلبات التي أتت بوقتها.

كنت قد جهزت تجهيزات الكرة الطائرة بالحديقة من الشبكة والكرة ولكن الكثير من أصحاب الانترنت احجموا عن لعب الكرة الطائرة لصالح ألعاب الموبايل التي ترافقهم صباح مساء.

و قد كنت أقوم بالاتصال بالاصدقاء عن طريق الاتصال العادي على غير العادة لاطمئن عليهم بينما عزف مرافقيني عن فعل ذلك وأكتفوا ببعث رسائل على برنامج الويتس أب وخصصوا نفس الرسالة أن تبعث لكل من وُجد رقمه على موبايلهم وبزر واحد انهوا العملية بنجاح.

و قد كنت استمع بعد الظهر لاغنية المبدعة أم كلثوم  »الأطلال« مع سطوع الشمس ونزول المطر واستل صاحبنا موبايله ليعلن أن الجو سوف يستمر جيد طوال اليوم حسب برنامج  »بي بي سي ويذر«

و بنهاية اليوم تم الاتصال بي من كثير من الاصدقاء مشكورين يسألون عني أن رسائل التواصل الاجتماعي لا تصلني وهذا ليس من عاداتك وخشينا أن يكون أصابك مكروه.

و كنت أخبرهم بأني مقاطع لوسائل التواصل الاجتماعي هذا اليوم وطلبوا أن نزودهم بخلاصة التجربة بنهاية اليوم واليكم النتائج:

اكثر من 4000 رسالة على الويتس أب.

اكثر من 2000 رسالة على الفيس بوك.

اكثر من 1000 رسالة على التويتر.

والكثير الكثير من الرسائل على وسائل التواصل الاجتماعي الأخرى التي أصبحت لا تعد ولا تحصى.

وسألت نفسي بعد هذه التجربة.

إلى أين المسير وما المصير مع هذا الساكن الجديد من العالم الافتراضي؟

أين تسير قافلة البيت تسير بمفردها دون ضابط أو رقيب في زمن النت ووسائل التواصل الاجتماعي؟

إلى أين تسير الأسرة؟

بيوتنا اصبحت خالية من المشاعر والقُرب والود!!! وانتقلت مشاعرنا الى الواقع الافتراضي حتى اصبح

جوجل متخم بالمشاعر والحب…….

بيتٌ كل فرد فيه دولة مستقلة منعزل عن الآخر ومتصل بشخص أخر خارج هذا البيت،

بيتٌ لا جلسات لا حوارات، لا مناقشات لا مواساة. تيقظوا! أين المسير؟

هكذا بيوت العنكبوت واهية!!!!

الأب الذي كان تجتمع حوله العائلة تبدل وتحول ليصبح مشغل للانترنت لا أكثر ولا أقل يتذكر عند أنقطاع الانترنت بسبب نسيانه دفع الفاتورة بوقتها !!!!

أب يهتم بكل مشاكل العالم ويحلل وينظر لكل احداث الأسبوع وهو لا يعلم ماذا يدور في بيته ولا يستطيع تحليل الجفاف العاطفي والروحي في بيته.

والدٌ يخطط لنصيحة شابة تمر بأزمة نفسية وهو لا يهتم بابنته التي تعيش في أزمات.

وزوج يلاطف هذه ويتعاطف مع تلك في الفيسبوك، وهن غريبات بعيدات وزوجته بالقرب منه ولكنها لم تسمع عطفه ولا لطفه.

 إلى أين المسير وما المصير؟

الأم التي كانت تلملم البيت بحنانها ورحمتها، تحولت وصارت واتس آب. في بيوتٍ الكل مشغول عن الكل.

الأم تراقب كل العالم في مواقع التواصل ولا يمر منشور إلا ووضعت بصمتها عليه ولكنها لا تدري ماذا يوجد في بيتها وهل لها بصمة في سكينته ومودته وتربوياته؟

الأم يحزنها ذلك الشاب الذي كتب  »إني حزين« وهي لا تدري أن بنتها غارقة بالحزن و…..و…..و….. والوحدة. تتأثر لقصص وهمية يكتبها أناس وهميون.

الزوجة تعلق على كل منشورات الرجال الغرباء وتعجب بصورهم الشخصية وزوجها بجانبها يترقب منها كلمة إعجاب واقعية.

 إلى أين المسير وما المصير؟

 ابن معجب بكل شخصيات الفيس ويراها قدوة له ويحترمها ويبادلها الشكر لما ينشروه ووالده الذي تعب لأجله لم يجد منه كلمة شكر ولا مدح

الأبناء تحولوا من مسؤلين إلى متسولين في وسائل التواصل يتسولون كلمة إعجاب من هنا ومديح مزيف من هناك وتفاعل من ذاك وهذا وهذه زمن أصبحنا نستجدي الحنان من الغريب بعدما بخلنا به على القريب.

و لما وصلنا لهذا المصير؟

لأننا نبحث عن رسالتنا خارج البيت نريد أن نؤدي رسالتنا خارج أسوار البيت مع الاخرين مع البعيدين حقيقيا القريبين افتراضيا مع الغرباء مع من لا نعرفهم.

ما الحل والعلاج؟

التقنية والتكنولوجيا سلاح ذو حدين ونريد أن تخدمنا ونسيطر عليها لا أن تحكمنا وتسيطر علينا وأن نتعامل مع السكان الافتراضيين الذين يلازمونا تفاصيل حياتنا اليومية بكل حذر وتقنين المعلومات الخاصة بنا والتي يستطيعون الولوج لها لاننا لا نعرف عنهم الا المعلومات والبيانات التي يصرحون عنها والتي بأغلب الاحيان تكون موجهة لتحقيق أهداف رسمها أصحابها بكل دقة ومهنية عالية.

الرسالة الحقيقية هي التي نبدأ من بيوتنا ومع أهلنا ولنعلم أننا عندما نعمل على أداء رسالتنا في البيت قبل الشارع ستنتهي أكثر مشاكلنا.

ليس مطلوباً منكم أن تصلحوا العالم كله ولكن لو نظف كل واحد منا بيته لأصبح المجتمع كله نظيفا.