الشاعر كريم العراقي؛ فقيد الشِّعر والأُغنية

ما كان اليأس ثوبه، ولا كسرته الأحزان، وهو الذي حرمته الدنيا من أهله، وسكن في الغرب غصبًا عنه، كم خاب ظنه بمن أهداه ثقته، وعذره لما تساقط دمعه، كتب ترانيم في حب السويد، وشكا الغربة والحنين للأهل، ضاقت عليه كأنها تابوت، وظل يقول لا تشكو للناس هما أنت صاحبه، فالشكوى منقصة، وهو الثائر على ذاته المعبّأ بالأمل، كتب أغان في الحب والغزل، وما نسي الوطن واستذكر أطفال العراق بشجن، وعلى فراش المرض كتب الكثير ورحل وما زال في جعبته ما هو أكثر.

وُلد الشاعر العراقي كريم عودة اللعيبي، المعروف بـ “كريم العراقي”، في منطقة الشاكرية كرادة مريم في بغداد،

العراقي و ساهر

(1955-2023)، كتب رواية بعنوان الشاكرية، يحكي فيها على لسان الطفل أمين مستذكرًا طفولته في فترة حكم عبد الكريم قاسم ومن ثم الانقلاب عليه في الستينيات. خاض غمار فنون الكتابة بأجمعها من  الشعر الشعبي والفصيح، والأغنية والأوبريت والمسرحية والمقالة وحتى الرواية.

        البدايات..

بدايته مذ كان طفلا على مقاعد الدراسة، يعمل في الصيف في مقهى، يحفظُ الأغاني العراقية الشعبيّة ويروح يردِدها على مسامع نزلاء المقهى، الذين صاروا يطلبون منه أن يغني لهم مواويلا حزينة، مما نمّى لديه سليقة الحفظ والوزن. وكان جده حارس بستان، في منطقة شعبيّة، فألهم الكوخ وموقد الجمر وطنين الحشرات مترافقًا مع حكايا الجدّ في السهرات الليلية خياله الخصب، وحفرت جلسات الأنس هذه في باله الكثير من الحب.

دفعه وعيه المبكر للشعر والحكاية، يشتري الكتب ويحكي لأصدقائه ما سمعه وقرأه من حكايات. كان طفلا خجولا، بنيته ضعيفة، يُراسل المجلات، وفي المدرسة التفت لموهبته أستاذه في مادة الإنشاء فكان يخصّص له وقتًا ليقرأ أمام زملائه ما يكتبه والعرق يتصبب من جبينه خجلا. كتب أغنيّتين للأطفال في المرحلة المتوسّطة “الشميسة” و “يا خالة يالخياطة”. ولاحقا كتب “جنّة جنّة جنة يا وطنا” التي نسبها كُثر لأنفسهم، وغناها كُثر من مختلف الدول العربية.

درس علم النفس وموسيقى الأطفال من معهد المعلمين في بغداد. عمل في التدريس وأدخل حسّه الموسيقي في التعليم، عمل مشرفًا متخصّصًا في كتابة الأوبريت المدرسي.   قدّم كلمات العديد من الأغنيات الشهيرة لكبار الفنانين منهم سعدون جابر، جعفر الخفاف وكاظم الساهر وغيرهم من مشاهير الفنانين العرب..

        قلقه الشعريّ

تنقل في شعره بين الشعبيّ والفصيح، وكانت بساطة التعبير وليونته مدخلا للقلوب، فالشعر الشعبي العراقي  يشكّل معلما ثقافيًا وهو يكتب باللهجة الدارجة ويستخدم في مختلف المناسبات، ما يميز هذا النوع  من الشعر كونه يتفاعل مع تفاصيل الحداث اليومي وهموم الناس ويقدّم صورًا فنيّة يفهمها جميع الناس بمختلف طبقاتهم، ما جعله قابلًا للغناء، إضافة إلى سهولة اللفظ وانسيابه ورشاقته وطبيعة القالب الموسيقي المختار. وقد تجاوز العراقي الذوق الخاص إلى الذوق العام بغية إحداث حالة نفسية قوامها الإمتاع والإقناع، وهو يجمع بين الوضوح والرمزية كما جاء في تعريف الدكتور حمد الخلف عن القصيدة المغناة.

“اشتهرت قصائدة لبساطتها ووضوح اللغة وصدق التعبير والإحساس مما يجعلها قريبة من القلب، إضافة إلى طريقة إلقائه لشعره وكتابته بلغة بسيطة عميقة المعاني وسهلة الفهم” بحسب الناقد الفني محمد سمير.

        مع الفنان كاظم الساهر

جمعته بالفنان كاظم الساهر صداقة ومواقف عظيمة، وقد غنى له الفنان الساهر ما يفوق الخمسين أغنية، ويذكر في مقابلة له أنهما اجتمعا في الضيق وفي الرخاء. بدأ تعاونه معه منذ العام 1986، أثناء الخدمة العسكريّة، جمعتهما أغنية شو جاها الناس في العام 1987 وهي مقدمة مسلسل نادية. وتتالى تعاونهما مع السنوات حتى كانا يتشاركان كتابة الأغنية.

كتب قصائد حماسيّة تمجّد الجيش العراقي في الحرب وسنوات الحصار الدولي على العراق.

لكلّ قصيدة حكايتها وموقفها الإنساني والشعوري، وفي السياق تحدث في إحدى مقابلاته عن قصيدة “تذكر” فبينما كانا يتهيأن للمجيء إلى الإمارات، اتصل به الساهر طالبًا إليه أن يقرأ في جريدة الأهرام موضوعًا عن أطفال العراق، يتضمّن إحصائيات موثّقة عن موت الأطفال. جاء الردّ قصيدة لحنها وغناها الساهر في المطار. ولاقت صدى وتلأثُرً عالميًا، حتى اتصل به مكتب الشيخ محمد بن راشد طالبًا إليه إرسال القصيدة بالفاكس. في اليوم التالي تحرّكت سفينة أدوية إلى العراق، وحصلت القصيدة على جائزة اليونيسف وتُرجمت إلى كلّ اللغات. وجاء في بيان الجائزة أن القصيدة خطاب إنسانيّ يُترجم عذابات أطفال العراق.

“تذكر كلما صليت ليلًا ملايين تلوكُ الصّخر خبزًا/  قلبي على جرح الملائكة النوارس/ إني أرهم عائدين من المدارس بلا حقائب بلا ملابس ..”

        الغربة وحنين العودة

غادر العراق إلى تونس في التسعينيات، تنقّل بين عدّة دول عربيّة قبل أن يستقر في الإمارات العربيّة، عمل محررًا فنيًّا في مجلة فنون العراقية، ثم محررَا صحفيًا في عدّة مجلات عربية، بين مصر والسعودية والإمارات. وشغل منصب عضو جمعية المؤلفين وناشري الموسيقى  العالمية.

انتقل إلى السويد على أثر مشاركته في أمسية شعرية، ولاحقًا سجل طلب لجوء على ألّا يكون مقيّدًا في المغادرة

كريم العراقي

والقدوم وحرية التنقل، وكان شرط القبول أن لا يأخذ مساعدات من الدولة، وأن يعرّف بمهنته التي يعتاش منها وعائلته. كتب هناك قصائده في الغربة والهجرة، وهو يسمع عن حال الحرب والانفجارات في العراق، وقد صرّح في مقابلة له، أنه كان خجلًا بلجوئه. وفي قصيدة يعبّر عن حال العراق الذي هجره كلّ أهله، يقول:

” بالأمس رأيته في دائرة الهجر/ …/ تقدّم العراق حاملًا أوراقه/ طالبًا مرحمة اللجوء/صار العراق خارج العراق/ مخلّفًا وراءه النيران والدّخان / مخلفًا وراءه جمجمة الحضارة..”

وكان يرى أن شبابه ضاع في الحروب والتهمته الغربة: “ما إن بدأ الشباب حتى بدأت الحروب، من سنوات الخدمة الإجبارية في الجيش حتى الغربة والسفر.”

بين العودة واللاعودة كانت مشاعر العراقي، تراوح بين الأمل بالعودة وخيبات الحضور؛ يقول في مقابلة له: “المشكلة كلّ مرة نبني أمال العفو، ونلقى آلام.. وكل مرة يزداد حزننا لمن نروح بين اللهفة والحنين، نسأل عن فلان نلقى فاقدين عشرات الأصحاب والأصدقاء..” متحدثًا عن فقدان الأمان في العراق والذي انسحب على كل شيء.

جلجامش

أعاد كتابة سيرة جلجماش الأسطورة السومرية، بوعي معاصر في قالب مسرحيّ، واتفق مع الساهر على تمثيلها، وبعد سنة وشهرين من انتهائها تراجع الساهر لاستصعابها – كما صرّح- واقترح تحويلها إلى فيلم سينمائي وهنا حصل الخلاف بينهما للفروقات بين كتابة المسرح والسينما.

فاضطر إلى اختصارها إلى فيلم، تعامل مع الحكاية بتغيير كبير، فعمد إلى تخليصها من صراع الآلهة، ومنحها مدلولات أخرى، فهي في الأساس تتحدث عن الحب، المجد والخلود والصداقة، وما يتبقى للإنسان في الحياة.

        لا يؤلم الجرح إلا من به ألمُ

أثّرت فيه تجربة المرض كثيرا، متألمًا على أشياء لم ينجزها. حينها كان يرفض قبول المقابلات التلفزيونية، وهو القوي المليء بالأمل والقوّة. كان ينجز قصائده في المستشفى. تحامل على أوجاعه، وخاض العلاج، راجعًا إلى قصيدته الأولى التي كانت مقدمة مسلسل المسافر، وفي بدايتها: “لا تشكو للناس جرحا أنت صاحبه لا يؤلم الجرح إلا من به ألم”، أعاد كتابة القصيدة بنفَسٍ شعبيّ وكأنّها وصيّته.. يقول: أنا مُهرتي جرحي وسفر عمري طويل/ أعثَر وأرد أنهض/ أضعف  مستحيل/ زمني يعاندني / ويخطف ما أريد/ وحزني كسر ظهري/ وقيّدني بحديد/  أوقع وأصيح الله/ وابدأ من جديد..” .

كانت قصائده معاشه ومنقذته في أوقات الضيق، منها قصيدة لا تشكو للناس التي كانت جوازه ليحصل على التأمين الصحي في دولة الإمارات بإشارة من كبار المسؤولين في الدولة.

برحيله بعد صراع مع المرض، خسر العراق وخسر العالم شاعرًا متسامحا دؤوبًا، ثقيل الوزن وممتلئ الحضور،  خاض غمار الشعر حتى النفس الأخير، رجلًا أخرج المفردة من المعاجم وجعلها في متناول كلّ طبقات القرّاء، وهو القائل: «ملأنا الأرض أزهارًا وحبّا/  وفي أعماقنا همٌ كبير

ونقضي العُمر نكرانًا وفقرا/  وبعد الموتٍ أعلامًا نصير»