“أبي توفّى في الحرب واضطريت للتسوّل من أجل عائلتي”. سمعت هذه العبارة مراراً وتكراراً على لسان الأطفال المتسولين الذين قابلتهم في حياتي، وتكاد تصبح هذه العبارة مهزلة يعجز المنطق عن تصديقها، كأن شيئاً ما برمج عقول هؤلاء الأطفال الذين لا يتجاوز عمرهم ١٢ عاماً على “امتهان” التسوّل، إن جاز التعبير وحفظهم الدرس. وهذا الشيء أو المحرّك الخفّي لجماعات التسوّل يجعل منه قضية عالمية، بات حلّها ملحّاً، ومنع كلّ مَن وما يغذيها…
في حين العالم غارق في الاستثمارات الرقمية والتحول الاقتصادي السريع وانشغال البلدان في زيادة مردود الفرد

المعيشي تزداد يومياً نسب البطالة، وتواجه غالبية الدول خطر التسول الاجتماعي والنفسي والاقتصادي. وهذه الدول مهما بلغ شأنها وعلت إمكانيتها الإنتاجيّة لن تصل إلى مرتبة التطور والتحضّر ما لم تحل ظواهر الفقر والبطالة وأشكال الانحراف المجتمعي الناتج عن التسوّل وآفات أخرى.
الانشغال في التعبير عن سوء الحال الذي ينتج عن التسوّل لا يُقدّم ولا يؤخّر بل العمل الحقيقي يبدأ من خلال مسودة عالمية تكشف مصادر هذه الظاهرة وتطاردها، ويتم التعامل مع أشكالها على أنها جرم إنساني ويحاسب عليه القانون. وهذه المسودة تكون مقترحاً للدول المشاركة فيها بإنشاء لجنة تطوعية تعنى بها من خلال اتفاقية تمنع التسول الإجباري والعمدي أو حتى التسول الإرادي…
اخترنا لكم أعزائي القراء لهذا العدد من “الحصاد”، التوجّه إلى هذه الآفة التي يُجمع عليها الجميع أنها كارثة إنسانية اجتماعية تحطّم المجتمعات، وسنتطرق في هذا التقرير إلى أشكال التسوّل ونتائجه الفردية والجماعية ومعظم أسبابه.
إشكاليّة لا قدر
التسوّل بمفهومه الضيق لا يتعدّى أن يكون حاجة. حاجة إلى المال، حاجة الى الطعام، أو الكساء أو الدواء ويمكن أن يتعدّى ذلك حتى يصبح التسول أداة احترافية للسرقة أو التجارة أو الاستغلال. من هنا لا يمكن اعتبار أنه قدرٌ، هو إشكالية متعددة الجوانب ومعقدة الحلول وكثيرة البلاء، بحيث تتخذ هذه الظاهرة ميولاً غير أخلاقية في كثير من الأحيان.
وللدلالة على أن التسوّل لم يكن يوماً مكتوباً لأحد فقد حرّمت الأديان السماوية كافة ممارسته، فقد ذُكر في القرآن الكريم “وأن السائل فلا تنهر” (الضحى:١٠). ومن هذا المنطلق الفكريّ الذي يوجب على الفرد احترام إنسانيته وكرامته وعدم الاتجاه إلى الذل من أجل العيش بل عليه إعالة نفسه وعائلته ولو بأقل ما يمكن من العيش الكريم.
العوامل المؤدية إليه
ثمة العديد من العوامل المؤدية إلى التسوّل منها اقتصادية كالفقر المدقع، تقلّص فرص العمل أو انعدامها، ضعف مستوى الدخل؛ منها عوامل اجتماعية كفقدان الوالدين، التشتت الأسري؛ ومنها غير أخلاقية. وهذا النوع الأخطر تقوده جماعة تتحكم بالأطفال وتجبرهم على التسول وتستغلهم من أجل الكسب المادي من “عملهم” لديها كمتسولين، واعتبار التسول تجارة مربحة. وقد أكدت بعض الدراسات أنه قد تنتشر في العالم ظاهرة التسوّل بسبب الإدمان على المخدرات.
آفة اجتماعية خطرة
في بعض الأحيان يقع الأطفال ضحية التسوّل ما ينتج عنها مشاكل على الصعيد الشخصي كالحالة النفسية والانحراف، وعلى صعيد المجتمع بحيث يصبح مفكّكاً وهشّاً وضعيفاً.. وسنذكر تباعاً أبرز نتائج هذه الظاهرة.
التسوّل والسلوك الإجرامي: تفتح ظاهرة التسول الباب للسلوك الإجرامي بالظهور بحيث ينمو لدى ممارسيه وتشتد الرغبة في الحصول على المكاسب بطرق غير مشروعة، خصيصاً أن عند دراسة وتحليل شخصية المتسوّل نجد أنه يميل للمكسب غير الشرعي كالسرقة والانحراف الاجتماعي والابتزاز. وقد ظهرت مؤخراً طرائق جديدة منه وهي التسوّل الالكتروني وغرضه الابتزاز.
التسوّل وعدم تقدير الذات: معظم المتسوّلين يفقدون أهميتهم كأناس بسبب نظرة الآخرين لهم ما يولّد نزعة انتقامية تحثهم على التصرّف بعدوانية وعدائية، وذلك بسبب الحالة النفسية الهشّة التي يعيشونها.
التسوّل والصحة الجسديّة: يعاني غالبيتهم من مرض نقص المناعة وانتشار الأمراض المعدية بينهم لسوء الأحوال التي يعيشونها.
التسوّل والتشرد: إنّ عدم وجود مأوى للأشخاص وتشرّدهم في الشوارع يؤدي بهم لممارسة التسوّل، وقد بيّنت نتائج اليونيسف أنّ أكثر من 100 مليون طفل في مختلف أنحاء العالم لا يتوفر لهم أي مأوى.
التسول في العالم
ينتشر التسول في جميع دول العالم بحيث لا يقتصر على البلدان الفقيرة بل أيضاً الغنية منها، ففي تقرير تلفزيونيّ

عرضته “قناة العربي” منذ سنتين إلى تصنيف الدول العربية التي عرفت نمواً كبيراً لظاهرة التسول، حيث تأتي الجزائر بالمركز الثالث بعدد 11 ألف متسوّل، تسبقها في المركز الثاني مصر إذ يبلغ عدد المتسولين 41 ألف متسوّل، أما المغرب فقد بلغت مستويات التسوّل أرقاماً قياسية مقارنة بالدول العربية الأخرى.
أما في أوروبا فيتّخذ المتسوّلون طرائق ومناهج غير معتادة في العالم العربي لجذب العطف كالرسم والموسيقى وتأدية حيل سحرية أو ارتداء ملابس غريبة. فهذه الطرق المبتكرة خففت وطأة تسميتهم متسوّلين. فمنهم من استعان بالموسيقى والغناء من أجل الحصول على القليل من السنتات، فتجد أعلى قمة حديقة “بارك جويل” في برشلونة، عازف غيتار تبتكر بعض أدوات معدنية تصدر أصواتاً سيمفونية، أما في اسبانيا فيعتمد البعض على الأشكال الكرتونية لجذب الأطفال للرقص أمامها، والبعض الآخر يغطي وجهه باللون الأبيض وارتداء اللون الأبيض لجذب لسياح للتصوّر معهم من أجل بعض النقود.
وغيرها من البلدان التي يتخذ فيها التسوّل أشكالاً عديدة وغريبة يجعل من هذه الظاهرة قضية عالمية، خصيصاً مع انتشار الوسائل وازديادها وسهولة ممارستها دون محاسبة جديّة. وتجدر الإشارة هنا، إلى المانع الذي يردع هذه الدول عن وقف هذه الظاهرة حتى اليوم، على الرغم من آثارها السلبية على المجتمعات والاقتصاد؟
التسوّل الالكترونيّ وتوسّعه
لا بدّ من المرور على التسوّل الإلكتروني الذي تطور مع تطور شبكة الانترنت. في بداية الأمر كان لأسباب إنسانية كالحاجة إلى الطبابة أو فتح مشروع صغير، لكن في يونيو 2002 اكتسب سمعة سيئة مع ظهور أكبر موقع للتسوّل على يد كارن بوسناك، التي جمعت حوالي 13 ألف دولار لسدّ ديونها. وهكذا بدأ التسوّل عبر الإنترنت يتخذ غايات فردية استغلالية. وحتى اليوم فإن الاستغلال عبر الانترنت بات واسعاً، خصوصاً أن هوية المتسول مجهولة ولا يمكن ملاحقته، كما أنه من الصعب حصر هذه الظاهرة في مكان واحد. وحتى اليوم لا توجد قوانين فعّالة ورادعة لهذه الظاهرة التي اتخذت أبعاداً خطيرة.
من يحمي هؤلاء؟
الرأي العام العربي يتفاوت بي مؤيد ومعارض لقضية التسول، منهم مَن يعتبر أن العوز والحاجة هما وراء هذه الظاهرة، والبعض الآخر يرى أن التسوّل جرم يحاسب عليه القانون، خصوصاً أنه بدأ يشكّل خطورة على المجتمع والبيئة والاقتصاد والسياحة.
ويبقى السؤال الأساسي: هل التسوّل ظاهرة أم مهنة؟ ومَن يحميهم حتى باتوا بطلب الحاجة وقحين وكأن من واجبك مساعدتهم؟