تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث

شربل داغر نموذجًا” للدكتورة حورية الخمليشي

لقاء الشعر والفن

تنتهي الحدود بين الأجناس في الشعر الذي يسير في علاقة تجاور مع المسرح والموسيقى والفنون والأخرى. فالشعر مجال واسع للانفتاح على الفنون كافة. وقد دعت التحولات السياسية والفكرية والفنية التي طرأت على العصر الحديث، إلى طرح تساؤلات عدة حول تقارب الأنساق الشعرية والأنساق الفنية في الخطابات الفنية التي تثير فكر القارئ العربي.

في دراستها المعنونة بـ “تواشجات الشعري والفني في الشعر العربي الحديث شربل داغر نموذجًا” الصادر عن دار الأمان/الرباط (منشورات ضفاف/ منشورات الاختلاف) والذي تهديه “إلى ماريا أجمل قصيدة حب”، تتناول الدكتورة حورية الخمليشي التفاعل بين الشعر والرسم وتضعنا أمام عملية من التفاعل بين اللغوي والبصري، لتثبت من خلال النماذج التي طرحتها انفتاح الشعر على إمكانات التأويل ومشاركته باقي الفنون، فتتمّ بذلك عملية تلاقح الثقافات وتناسج المعارف. من هنا تعدّ بعض النصوص لا إجناسية منفتحة على التأويل ومحققة في لوحات تشكيلية.

وتختار الكاتبة مجموعة من النقاد والمختصين في هذا المجال وتستشهد بدراساتهم وأفكارهم وتوثق بحثها. ويرى عبد العزيز المقالح في كتابه “الشعر والرؤيا والتشكيل”، أنّ القصيدة العربية أصبحت تكتب للعين لا للأذن. فأثر الشعرية

صورة حورية الخمليشي

هذا الموجود في كل شيء، يمكن أن نلمحه في العديد من اللوحات التشكيلية المستوحاة من الشعر أو تلك التي تحاكي القصائد.

وتخصص الناقدة حوالى المئة صفحة للجزء النظري لتنتقل بعدها إلى الجزء التطبيقي. وتقسّم الخمليشي المتخصصة في نقد الشعر الحديث والمناهج النقدية بحثها إلى مقدمة وأربعة أقسام في نهاية  كل قسم استنتاج، بالإضافة إلى مجموعة من الملاحق في آخر الكتاب.

وفي الكتاب العناوين الآتية: القسم الأول: الشعرية الحديثة، توطئة نظرية وتعالج فيه اللغة الشعرية بين الشعر والنثر وأفق الفن الحديث في العالم العربي وجدلية العلاقة بين الشعر والفن وعناق الشعر والفن. وفي القسم الثاني بعنوان: القصيدة الشعرية وبناء الرؤيا في شعر شربل داغر ويتضمن اللغة في شعرية شربل داغر وشعرية المشي والتعالق الفكري وتواشجات الشعري والفني في شعر شربل داغر واختلاف القراءات والمزج بين الفنون في القصيدة الواحدة. وفي القسم الثالث المعنون بــ الشعر نصًّا بصريًّا تشكيليًّا يحتوي على مواضيع حول قراءات بصرية لأعمال فنانين تشكيليين والبحث عن المعنى. حوارات مع أدباء وشعراء. وفي القسم الرابع: تفاعل الشعر والفن من منظور الفنانين، والبحث عن المعنى، وحوارات مع فنانين تشكيليين، وشعرية الرسم بين اللوحة والقصيدة، وتداخل الشعر والموسيقى والمسرح والسينما.

وتقارب صاحبة “الشعر المنثور والتحديث الشعري” إشكالية تواشجات الشعري والفني في الشعر الحديث بما تحمله الحداثة من معنى جديد في تجديد الشعر وكأنّها تقدّم للقارئ قراءة معرفية حديثة من خلال انفتاح الشعر على الفنون وعلى شعريات العالم حيث التلاقح وتناسج الثقافات العالمية. وتعتبر د. حورية الخمليشي أنّ هذه الدراسة نوع من

غلاف تواشجات

مغامرة جديدة في المجهول لاكتشاف العوالم المشتركة بين الشعر والفن في علاقة تجاور، مستثمرة المعطيات المعرفية الشعرية والفلسفية والبلاغية والمعطيات الفنية من تشكيل وموسيقى ومسرح…

تعدّ هذه الدراسة الأولى من نوعها التي تؤسس للجمع بين الفنانين التشكيليين والأدباء الشعراء وتقول الناقدة أن هذا الكتاب يأتي بعد سنوات من العمل وبعد عشرين سنة من التجربة والتحصيل والبحث الجاد.

وقد اتخذت الناقدة قصيدة الشاعر شربل داغر كأنموذج لتواشجات الشعري والفني بالإضافة إلى أنها أجرت حوارًا معه ومع أدباء آخرين منهم محمد بنيس والمنصف الوهابي ومحمد الولي… كذلك أنجزت القراءات البصرية لعدة فنانين وحوارات مع البعض منهم كضياء العزاوي وإيتيل عدنان ووليد رشيد القيسي ومحمد العامري وأحمد عيدون وعز العرب العلوي وغيرهم… بالنسبة إلى الكاتبة من خلال هذه الحوارات مع الأدباء والفنانين تتابع القصيدة رحلتها الفنية الشعرية حول العالم.

وتشتغل الخمليشي على التفاعل اللغوي البصري بعيدًا عن الأنماط السائدة والمألوفة لتخرج بدراسة فريدة تحقق اللقاء المنشود بين المبدع والمتلقي.  هذه القصيدة التي تعدّ منجزًا شعريًا إبداعيًّا تكمن شعريتها في لغتها من حيث أنها لغة شعرية تخييلية. وتعرف الأكاديمية بالشعرية معتمدة على آراء نقاد وباحثين اشتغلوا على هذا المصطلح منذ العصر القديم وحتى العصر الحديث. ويعتمد تعريف الشعرية في العصر الحديث إلى كتاب فنّ الشعر لأرسطو الذي يعد بمنزلة مرجع للعديد من الباحثين. فالشعر محاكاة عند أرسطو ولكتابه أثر كبير في الفلاسفة الذين اهتموا بالمسألة الشعرية. ويعتبر تودوروف أنّ كتب الشعرية ابتداء من عصر النهضة ليست إلا تعليقات على كتاب “فن الشعر” لأرسطو الذي سهّل رؤية النظام الشكلي للصورة الشعرية وهو أيضًا بحسب شاكر عبد الحميد تمكّن من تحويل الصورة والدراما إلى أنواع أو أنماط (أجناس) من الموضوعات الشكلية يمكن للذات المستكشفة أن تتعرفها. وتعرض الخمليشي آراء أخرى في الشعرية منها القديم ومنها الحديث كجيرار جينيت الذي يرى أنّ الشعرية ليست نظرية عامة للأشكال الأدبية لكنها تفجير لكل الاحتمالات الممكنة للخطاب. كما يعالج جاكوبسون الوظيفة الشعرية في علاقتها بالوظائف الأخرى للغة أي أنّ الشعرية معناها واهتمامها خارج الشعر أيضًا. وتنتقل الكاتبة إلى نظرية جمالية التلقي وأهميتها وهي التي تكشف عن البعد الجمالي في النصوص وتأويلها. وتخلص  إلى أنّ لا حدود للكتابة التي لها حرية التعبير وأشكاله وصوره. من هنا يعدّ خلود الأثر مرتبطًا ارتباطًا وثيقًا بمدى تفاعل القراء والمستهلكين وترى أنّ القارئ العربي يعيش مشكلة الكتابة والتلقي.

 إنّ التفاعل بين اللغوي والبصري وخصوصًا الصورة الفنية في السينما والمسرح واللوحة التشكيلية… يؤدي إلى الاهتمام بالبصريات ودراسة الصورة التي تحمل وظيفة فنية وجمالية وبلاغية وتصويرية، فالصورة تنتج دلالات جديدة كذلك النصوص الشعرية اللاإجناسية ساهمت في الانفتاح على التأويل.

وتتطرق الكاتبة إلى ماهية الفنون واتجاهاتها وفلسفتها والتيارات المتعددة وتدرّجها واختلاف مفهوم الصورة وتاريخها وسياقاتها الثقافية والحضارية. وتعتبر  أنّ فلسفة الصورة في عصرنا أعادت الاعتبار إلى الذاكرة والخيال واللغة لتأدية المعنى وقد صارت أوضح وأكثر تأثيرًا في ظل التحولات التي طرأت على عصرنا وتطورت التقنيات والوسائط. وللصورة سلطة وجمالية في العصر الحديث وباتت ترتبط بالشعر والرواية والفلسفة والعلوم الأخرى.

لقد انفتح شعر الحداثة على الفنون الغربية كافة، متأثرًا بها، وتتساءل حورية الخمليشي حول معايير رصد الجمال بالنبة إلى ابن عربي والغزالي وغيرهم بينما في العصر الحديث ترى أنّ الجمال ملازم للفن وقد تطور خصوصًا مع فلسفة كانت (الاستيطيقا)  وهيغل في حديثه عن علم الجمال.

 بين الشعر والفن علاقة جدلية ويعد الفيلسوف الألماني جوتهولد ليسينج أول من انتبه إلى هذه العلاقة بين فن الشعر والفن التشكيلي والحدود الفاصلة بينهما في كتابه “لاؤوكون” وفي الكتاب تشترك الفنون بالمواضيع والملاحم والأساطير التي قد تكون بداية لحوار الشعر والفن على أن الأسطورة حقل يفتح المجال لتجاور الشعر والفن. وميز ليسينغ بين القارئ العادي للفن وبين الفيلسوف والناقد الفني. ويعتبر أن الشعر هو الزمان والمدى اللامحدود والتعبير عن الروح، والرسم هو الكان والمدى الضيق والمحاكاة… من هنا ثمة حدود فاصلة وعلاقة تجاور بينهما بالرغم من الحفاظ على استقلالهما الذاتي. وتخلص الكاتبة إلى أن ليسينغ أسس للعلاقة الرسمية بين الشعر والرسم من حيث علاقتهما بالزمان والمكان. وتطرح الناقدة أفكار عبد الكبير الخطيبي الذي يعتبر أهمية الشعر في الصورة الشعرية التي تؤثر في الآخرين وارتباطها بالانفعال والحركة والتخيل، فالأدب والروايات تدعو إلى التفكير البصري والأدب يعمد إلى تحويل اللغة إلى صورة، فالتفكير البصري يعمل على فهم العالم من خلال لغة الصورة والشعر. والشاعر والرسام يمكنهما التصوير على نحو مختلف لفكرة مشتركة.

وتشير الكاتبة إلى ممارسات أوروبا من خلال فتح الحوار بين الشعر والفن من خلال كتاب إيف بيري بعنوان “الرسم والشعر” 2001 الصادر عن دار غاليمار للنشر ويعرض الكتاب للشاعر مالارميه والرسام ماني.

والقصيدة العربية بانزياحاتها ولغتها تمكنت من التصوير البصري للأشياء المرئية والتعبير عنها من خلال اللغة. والجاحظ هو أول من أثار علاقة الشعر بالتصوير وكل من الشاعر والرسام لهما دور في إثارة المتلقي.

تكونت الدراما من المسرح الشعري في بداياتها وأرسطو هو أول من أشار إلى هذه العلاقة بين الشعر والمسرح كما ذكرنا عن كتابه “فن الشعر”. وقد عرفت القصيدة انفتاحًا على المسرح الذي قدم تصورات جديدة للشعر ومن القصائد التي قدمت على المسرح كانت لأدونيس ودرويش وشربل داغر في تواشج بين الشعري والمسرحي، فحضر النص المكتوب بطريقة مميزة واستطاعت العين أن تلتقط المرئي والمستتر داخل القصيدة.

يقتصر دور السينما على خلق شعرية الصورة الفنية من خلال الصورة الفنية السينمائية، وقد استفادت القصيدة العربية من تقنية المونتاج السينمائي الذي يوظف آلياته الجديدة وقد استوحى العديد من الشعراء أعمالهم من أفلام سينمائية. وبالنسبة إلى سلمى بكار هناك اختلاف بوجهتي نظر الشاعر والسينمائي وهو اختلاف أيضًا بين الصورة الشعرية والصورة البصرية، مع ذلك تبقى الشعرية في عمق الصورة وليس في ظاهرها.

ولطالما كانت الموسيقى عند العرب لصيقة الشعر بل جوهره في مختلف العصور، على أن الشعر غناء ناطق على حد تعبير الشاعر أحمد عبد المعطي حجازي. ويرى الفارابي أن الفرق بين الشعر والموسيقى هو أن الأول يرتب الكلام في الوزن مراعيًا اللغة والقواعد بينما الثاني بإرسال الأصوات ومزاحفة أجزاء الكلام والتحكم بالتلحين. أما في العصر الحديث ومع ظهور الحركات التجديدية فصار الاتجاه إلى ذات الشاعر وتجربته الخاصة وحدث تحول في الأسس الموسيقية. ويرى محمد مفتاح أن الموسيقى عنصر جوهري في الشعر وقد اعتبر أن للموسيقى أسبقية على اللغة.

يبقى من الحق أن نقول هذه البحث الواسع فتح آفاق جديدة في موضوع تواشجات الشعر والفن ودعا إلى التعمق في هذا المجال وتعتبر هذه الدراسة ثراء ينضم إلى الكتب المهمة في المكتبة العربية.