سفرٌ في شعر سوزان عليوان

        ولدت الشاعرة سوزان عليوان، في بيروت العام 1974 من أبٍ لبنانيّ وأمّ عراقيّة، صدر لها عدة دواوين شعريّة، ما بين الأعوام: ( 199- 2014 )  في طبعات خاصة ومحدودة  منها: (عصفور في المقهى، شمس مؤقتة، ما من يد، كائن اسمه الحب، كراكيب الكلام، بيت من سكر.” . مخطوطات بعناوين مختلفة نذكر منها: ( شارع نصف القمر 2015، حزن بزرقة السنافر 2020.)  إضافة إلى (نصوص فالتة في الهواء 2021) نُشرت على موقعها

الشاعرة سوزان عليوان

الرسمي.

غُربةٌ وحنين..

“أحدنا يربي ديناصورا صغيرا في غمام غرفته/ في أعماق أكواريوم فارغ/ يتوسط فوضى الأحلام/ كنا نترك سمكة ذهبيّة/ بمفردها في متاهةٍ/ لتجفيف ذكريات صيف مضى/ من أصداء الدموع”.

 نسجت حبال غربتها شعرًا وحزنًا كالته بمكيال التحسُر والفقد، غرّبتها الحرب عن وطنها لبنان، فتنقلت بين مدن عدة : الأندلس، باريس، القاهرة وبيروت: “شعرت بأنني غريبة منذ غربتي في طفولتي ربما حتى غربتي في نفسي، … اخترتُ الشعر و أن أكون وطن نفسي وأن يكون من أحبهم أوطاني، رغم زوال الإنسان إلا أنه أبقى من الأوطان.” (من لقاء حواري لها في الجامعة الأميركية في بيروت 2016 مع هالة كوثراني وبلال الأرفة لي)

إلّا أنّ الحنين حاضر وهو يفكّ أسر الشعور، ولكنه كما تقول: “حنين إلى وطن لم يعد موجودًا، وطن كان أكثر أمنًا”.

        لا تشبهُ في شعرها أحدًا، تفيضُ بالعاطفة والحنو، حتى تمنّت لو تكون أمًّا لأمها:

 “ليتني كنت/ حينما كانت أمي/ طفلة حزينة/ تحتاج إلى صديقة/ في مثل حزنها/ ليتني كنت هناك أقاسمها وحدتها/ يتمها/ وليتني كنت أكبر منها قليلا /لأكون أمها.”

في شعرها تفاصيل “ما يفوق الوصف” “كراكيب كلام..”  “رشق غزال”، وتبادل استعارات ، “معطف علق حياته عليك..” وشوق مستتر إلى “الحب جالس في مقهى الماضي”.

جمل قصيرة ومعان عميقة، تداعيات حُرّة وحَرّة، أسئلة وتكررات، عوالم طفولية وذكريات مثقلة بالكثير، تضادات عميقة، حب وهجر، وحدة وأمل.. تكتب عن الأشياء عن الأماكن وأصحابها، عن الحرب وضروبها وهي ابنة التجربة، ولدت ما بعد النكسة، وتزامنا مع الحرب الأهلية اللبنانية، ولم ترغب يوما أن تكون من حملة الشعارات. عن الثورات وسكتاتها، وفي لقاء الجامعة الأميركية توضّح رسمها للثورات العربية وتعاطفها معها من دون أن تكتب شعرا فيها، وهي التي لا تحب الشعر السياسي الذي قد يكون رهن موقف آني: “الشعر هو ثورة دائمة، … لا يعنيني طاغية ولا خصوم الطغاة الذين بدأوا يتحولون إلى طغاة ، تعنيني الشعوب، الجموع التي نزلت إلى الشارع، لا أنتمي إلا للإنسان والناس..”.

الشعرُ وأصوله

درست سوزان عليوان الصحافة في الجامعة الأميركية في القاهرة عملت بها لسنتين، من ثمّ تفرغت للكتابة الشعريّة باللغة العربية التي تحب، نهلت من ينابيع الشعر الجاهلي والذي تعده “نبع اللغة القدسية والمقدّسة أيضًا وهو  المكان الذي ذهبتُ إليه بحثا عن جذوري، درست في مدارس أجنبية في كل مراحل حياتي، واخترت الذهاب بنفسي إلى شعراء العربية القدامى، وأدين للقرآن والمعلقات والشعراء العرب.. “..

كتب الشاعر محمد علي شمس الدين في الحياة عن ديوانها “الحب جالس في مقهى الماضي” (مجلة ثقافات  22أغسطس 2014)، معترفا بها شاعرة عريقة، متحدثا عن الطلَلية أي الوقوف على الأطلال كما في القصيدة العربية القديمة، مفسّرًا : “فكل مكان مهجور هو طلل. وهي الحاضرة في زمنها الراهن، وشرطها الخاص والشخصي.”  ” شعرية سوزان عليوان ، تدافع، عن موقع الشعر القلق في العصر، المبتلى بهشاشة اللغة وسذاجة التصور وابتذال الأحوال. ذلك أن عليوان قادرة على تكوين لغة مرسلة مفعمة ومدهامة. وهي لغة لا تتأتى إلا لمن يقدر على استقبال هارموني العربية، من أعمق أعماق أصواتها وأجراسها، في التاريخ، وفي المقدس أيضاً…”.

الشعر لا يأتي -بحسب كلامها- من الطمأنينة بل من القلق، هو الموسيقى.  وهي التي تؤمن أنه “على القصيدة أن تكتب وتعاد كتابتها أكثر من مرة، أغلب ما ننشره هو مسودات”، لذلك تعلن بدايتها الشعرية بقولها “كتابتي الحقيقية للشعر وآمل أن يكون شعرًا حقيقيًا، بدأت بـ ديوان شمس مؤقتة  1998،” وهو ديوانها الرابع،  فالشاعر بنظرها ليس ناظمًا: ” بل هو من يفكك ويعيد تركيب العالم من وعيه ومن وجهة نظره..” “علينا أن نشبه زمننا أن نسبق ونُضيف”.

        “في الصورة المعلّقة على الجدار/ طفلةٌ تشبهني/ ولولا أنّها تبتسمُ/ لظننتُها صورتي.”

        حملت عليوان نعش طفولتها على كتفيها، ومشت في جنازة أحلامها، تقسو كي لا يكسرها حنانها، ولكن أناها الحاضرة شعرًا ليست أناها الشخصيّ، تقول كما ورد في لقاء الجامعة الأميركيّة: ” قصيدتي ليست حياتي، أفصل بيني وبين ذاتي الشاعرة، حياتنا والأنا تخصّنا وحدنا. وعلينا أن نفكر حين نكتب في القارئ المجهول الذي سيأتي والذي لا يعرفنا.. ولا يعنيه شيئا من وجودنا”. ولكن سوزان الشاعرة التي تجيد وزن العبارات ولو أنها غير خاضعة لنظام التفعيلة، يظهر الشعور عندها حقيقيًّا ويلامس التجربة الإنسانية في كل تجلياتها: “توهمنا العالم يُقايِضُ ضحكاتنا القليلة/ بفرح لا يستثني صحراء أو حصاة..”  ولكن القطار مرّ “بكدمات في الملامح/ وثقوب عميقة في الأرواح”.

تضيف عن الخصوصية والشعر: ” الحب هو الغاية والسبيل وكذلك الشعر، ويتقاطعان. ولا أؤمن بتسخير أي جزء من حياتي لكتابة الشعر.. ” لذا: أحرقت دواويني الأولى أنا كثيرة النشر، على الشاعر أن يتجاوز نفسه طوال الوقت.

        رسومات على طريقتها

        على موقعها يظهر ملف يضم جميع رسوماتها؛ وهي التي لا تعدّ نفسها فنانة تشكيلية، بل تقول بأنها ترسم من باب الهواية.

“العالم الذي أحببناه في ضحكة ميكي ماوس/ وفي عزلة السنافر/ في بيضة كيندر المليئة بالأمل/ وبخيبات المل،/ في عربة آيس كريم صدئة كغوّاصة في غابة،/ وفي الشوارع الواسعة/ كعيوننا على إعلان متحرّك/ ببهجة المهرّج المخيف…/ العالم الذي دار طويلا بطواحين أرواحنا/ برِحى الرحلة على قمح القلوب.”

وكما تظهر في هذا المقطع الشعريّ عوالم الطفولة جليّة، بألوان زاهية، وأسلوب بسيطٌ على امتناعه، تبدو رسوماتها كخربشات متتالية، رسومات توحي بخيالات الطفولة، وقصصها. بعناوين واسعة ودلالت وذكريات، حرب ومضادات، ألوان ورماد، عيون مغلقة في وجه بيضاوي طفولي، وعيون مفتوحة غارقة في السواد، رموش مسدلة، مكعبات، وبين الرائية والرائي عين غارقة في الزرقة ودب يحمل شمعة، تتنوع الرسومات وتتقدم وتتضامن مع البلدان العربية الغارقة في وحلها، ، يحتل الوجه اللوحة ويبدو الرأس هو المهيمن، صور وأعمال يدوية رسم على الكولاج. تحمل بعض اللوحات نصوصا ثم تبدأ الرسومات بالتفتح ، وتحمل في جزء كبير منها إحالات على حالة الزمن التي رسمت فيه كلوحات 2020، حيث  الكورونا بكل محمّلاتها، وفي جزء آخر عودة للطفولة؛ أن تواجه العالم بعلبة تلوين، على بساطتها تظهر الرسومات محملة بالرسائل المرجعية.

        بين الجرح والأمل

        ترى فيما يرى الحالم مدينة تتلألأ بالدموع، تعدّ الأمكنة كلازمة في مشهد (شوارع، أبنية، جسور، حدائق، حانات، أزقة..منازل، محطات.. معابد معتّقة..) في وحدتها أغنية، نافذة معلّقة، لوحة، غيوم تمرّ وتمحوها.. وفي وحدتها أيضًا تستشعر ضعف الكائنات وحاجتها الغريزية للحب والحنو: ” ننحني لأجل الكلاب الضالة/ ذات النظرات العسلية/ المتوسلة لحنوّ راحتنا على رؤوسها الحاسرة”.

تغزل من جرح بيروت والمدائن التي أحرقتها الحروب والطمع البشري كلمات، تقاوم ما وسع الجرح  ولكنها في واقعية الحلم تعلن :” لسنا طيور فينيق كي ننهض من نثار الزجاج/ نحن الذين بهاشاشة ما تهشّم من نوفذنا.” وحزنها يمتد ليتضامن مع كل مشاهد العوز والبؤس حزنها مثقل بصورة الأمهات الشاحبات خلف درابزين الشرفات. حزن الشاحنات التي تنقل القمح والنفط على الطرق الجبلية، وحزن الثلاجات الخاوية، أكوام الزبالة، الزينة في ساحة بلا عشاق، محاورة الألم .

وكما يحمل الشاعر أغصان اليأس ويوقد بها نار حزنه، كذلك تبدو هذه النار نورًا في مكمن ما، يُضيء لأملٍ ما، رُبّما! وهكذا هي سوزان عليوان في شعرها:

 “في زاوية صغيرة من روحها/ ستعيد بناء المقهى القديم/ ستحفر على بابه/ ضحكة من خشب الورد..” ، “الشمس الذائبة في قلب كبير/ أيّام حلوة/ ربّما.”