تصوّرات حول الشّعر والشّاعر

بيروت من ليندا نصّار

يعيش الشّاعر في سياق حالة شعورية شديدة التعقيد، تجعله يميل إلى العزلة الاختيارية التي يمكن أن تمنحه نصوصا حالمة وحائرة، كما أنّ الشّاعر يمتلك قلقا معرفيّا يرتبط بطبيعة الرؤى التي يترجمها في الشعر والموسيقى، أمّا الكتابة بالنسبة إليه فهي تنخرط دائما في هذه المسافة التي يمكن أن نسمّيها ـمسافة الوعي الحدودي مع الذات؛ لأن طبيعة الحياة وتناقضاتها أحيانا تدفعه إلى الاحتماء داخل هذه المسافة.

وبالانتقال إلى حديث الطفولة يمكن القول إنّها تشكّل بالنسبة إلى الشّاعر صور شخصيات تتسرّب إليه عبر عوالم كتّاب كبار. وهي مرحلة تكوّن المخيّلة حيث يبدأ بصيص الإبداع بالظّهور، فالطّفولة الني يحياها الشاعر تشكل توثيقا لتجاربه الذاتيّة وهي التي تتضمن الصور والحالات وكلّ ما عاشه هذا الطفل في اكتشافه للعالم، وهنا تتجلّى الرّؤى والمواقف الأولى في حياته.

الشعر هو تلك الرعشات الإنسانية التي تعمل على تشكيل وعي مفارق لما هو مألوف في حيوات تنطفئ فجأة، وتربك سيروراتها عبر اللغة. لكن اللغة لا تحمل جينات معينة غير جيناتها، ويمكن أن نوسع من دوائر اختياراتها في الغياب كما في الحضور بوساطة النصوص التي تشغل حيزا في هذه المساحة، هنا يمكن أن نتحدث عن قوة الأثر على مستوى الداخل، حيث يجعل الشعر الشاعر يقترف مزيدا من الأخطاء إلى درجة تشبيك كل تفاصيله وطقوسه، ومع ذلك يدمن على أساس أن الحياة ممكنة في قدرته على أن يواصل الحق في الحلم من داخل الجميل في الإنسان، الذي يتعرض اليوم إلى أقصى الهزات والارتجاجات بسبب هذه المادية التي تحاصرنا، ومع هذا الشعر يمنح الشاعر القلق حول إنسانيته المهددة. لذلك كلما ازدادت الحاجة إلى البورصة وكلما ازداد منطق اقتصاد السوق ازدادت الحاجة إلى الشعر والحب والحلم والحياة لحماية الإنسان من الإنسان. الشعر هو وسيلتنا لترميم كل هذه الخرابات الداخلية، لهذا كلما أضاعت خيوط الشعر الشاعر أمسك بخيوط الفنون الأخرى؛ لأن الحياة تتسع لكل شيء، والفنون خصوصا الموسيقى منها، التي هي دلينا نحو الحياة من أجل وشمها بمعزوفة شعرية لا تنتهي. الشّعر في مفهوم أدونيس هو طاقة مفتوحة لا تنتهي، وفي أحد لقاءاته يقول هذا الأخير عن الشعر: »الشّعر مثل الحبّ، وإن الشّعر هو ابتكار علاقات جديدة بين الكلمة والكلمة والكلمة والشّيء، وبين الإنسان والشّيء. ومن الممكن أن نتساوى بالمشترك، لكن لا أحد يحلم الحلم ذاته، كلّ واحد يحلم بطريقة مختلفة؛ لأن عالم الشّعر هو هذا وليس العالم المشترك«.

الشعر هو كلام الملائكة. لذلك يمكن أن نراه جميلا حتى في نصوص بودلير التي أسست لجمالية القيح. أن نكتب معناه أننا نتشبث أكثر بالحياة على نحو ملهم للأجيال، وللتاريخ، وللحضارات. ومعناه أن يكون الشاعر حالما أكثر، ومع ذلك يعيش هذا الحلم بواقعية سحرية.

يحقق الشعر متعة مضاعفة للشاعر، الذي يقيم في التباساته على نحو جمالي، ويمنحه إقامات في شرفات لشعراء، لم تحركهم نوازع ضيقة بقدر ما حركهم الإنساني في العالم. الشعر يجعل الشاعر يعيش سلسلة من الأحلام التي لا تنتهي، ويدفعه نحو صداقات الشعراء، وقد تكون هذه الصداقات قديمة تتجاوز التاريخ نفسه. من هنا يعتبر الشعر هو نفسه إنجازا مهما للإنسانية يعلمك أن تهدهد الحروف من داخل صراع أنيق مع اللغة قد يتوحش تارة، ومع ذلك يمكن أن يكون هذا التوحش جميلا في علاقة المجاورة بين ما يحلم به، وما يخطه بوساطة الكلمات، والقراءات الممكنة لأغوار الإنسان من قبل الآخر الذي يصير جميلا في قدرته على تفكيك شفرات النص. ويشير الدّكتور الشاعر شربل داغر في أحد حواراته إلى أنّ مشكلة الشّعر هي في قوّته، وهو أنّه أعلى تعامل باللّغة. ويضيف إلى أنّه بالنّسبة إلى هيغل الشّعر هو خلاصة الفنون، لأنّه يجمع كلّ الفنون في بنية القصيدة. وهيغل بالنّسبة إليه لم يكن يعرف السّينما والتّشكيل بفنونه المختلفة مثلما صار عليه العالم اليوم. والوصول إلى منطقة الشّعر بات يحتاج إلى ثقافة، ومهارات، وتقنيّات، ومعرفة بالشّعر، لم تعد متاحة لمتذوّقي الشّعر، وبالتّالي أصبح الشّعر يدور بين الشّعراء. يختلفون ويلتقون فيه، ويتمايزون فيه، وينصبون المكائد لبعضهم البعض ـ المقصود بالمكائد هنا المعنى الجمالي للكلمة – فهو حقل صراعيّ بامتياز بالمعنى الفنّيّ والجماليّ والشّعريّ للكلمة.

ثمّة تساؤل دائم عن الشعر ودهشته في قصائد الشّعراء، ما يدفعهم إلى تجريب وعي جمالي يقول هذه الموسيقى الهامسة عن طريق الكتابة التي تعتبر أكبر من كل الحدود الموجودة في كتب النقد. يعود الشّاعر إلى تلك العزلة التي اختارها بنفسه بعد أن يكتشف أن تلك المساحة تضيق وسط تجاذبات في المشهد الثقافي والتي تمنحه الحق في الشعر، وفي الاختلاف، وفي الانتقال نحو حدود جديدة، وجغرافيات إبداعية غير مطروقة وبلغات متعددة. وبالعودة إلى الحديث عن العزلة نكتشف كم هي مرتبكة بعض الشيء؛ لأن الداخل الإنسانيّ كان وما يزال شديد الإرباك، فلولا القصيدة لما كانت الروح قد استقرت عن طواعية في منطقة الاحتماء، أقصد منطقة الشعر التي تحرّر الشّاعر من تصورات قد تكون مهددة له، ولطريقته في الحياة. لهذا الوقوع في العزلة بالنسبة إليه مثل الوقوع في حب الشعر. وعلى الرغم من هذا التدهور الذي يعيشه الإنسان اليوم، ما زال الشعر أداة للمقاومة، وما زالت بعض البذور تسير بخطى ثابتة في الحديقة الشعرية، وما زال الشعر يحافظ على حضوره ويتصدى للأزمات العالمية، لأنّه المتنفّس الوحيد للإنسان الذي يعيش هذه الحالات المتأرجحة بين الحلم والواقع وهو الذي يمنحه الحق في الحياة. فالشّاعر يخرج بقصيدته إلى عالم النّور عند تحقيقه رسالته الأسمى وولوجه قلوب كلّ النّاس.

نختم بجزء من قصيدة للشّاعر محمود درويش: »يا رفاقي الشّعراء/ نحن في دنيا جديدة/ مات ما فات/ فمن يكتب قصيدة في زمان الريح والذرة/ يخلق أنبياء/ قصائدنا بلا لون بلا طعم بلا صوت/ إذا لم تحمل المصباح من بيت إلى بيت/ وإن يفهم البسطا معانيها/ فأولى أن نذريها ونخلد نحن للصمت«.