رابطة شؤون الموت

سهير آل ابراهيم

الموت؛ ذلك الزائر الخفي الذي يجول بيننا فينتقي منا اولئك الذين حان اوان رحيلهم لينقلهم إلى عالم الغيب، ويترك الباقين بعدهم في حيرة وذهول، يتركهم يكابدون احزان الفقد والفراق، وفي رهبة من موعدهم المرتقب معه. هو حقيقة مطلقة في هذه الحياة، فكل ولادة يتبعها موت، لكنها حقيقة لا تزال، وربما ستبقى، مغلفة بالمجهول، فبرغم كل التقدم العلمي الذي حققه الانسان، ظل الموت واحدا من خفايا هذا الكون العظيم، متربعا على عرشه كواحد من اعظم اسرار هذا الوجود.

قد يتخذ بعض الناس استعدادات للموت، فمنهم من يشتري قطعة ارض لتكون مستقره الأخير، ومنهم من يوفر مبلغا من المال يُستخدم لتوديعه حين يغادر هذا العالم، ولكن عندما يصاب الانسان بمرض مميت، نجد ان البعض من محبيه يحاولون مواساته بعبارات تهدف إلى زرع الامل في نفسه وطرد فكرة الموت من ذهنه، والكثير من تلك العبارات ما هي الا محض وهم. يتمنى البعض لعزيز مقبل على الموت ان يبتعد عنه الشر، ولا ادري لماذا يُعتبر الموت شراً بينما هو في الواقع الجزء المتمم لدورة الحياة؛ الحلقة الاخيرة منها. تلك النظرة للموت قد لا تشجع الشخص المقبل على الموت على التحدث عن مشاعره ورغباته والإفصاح عن الكيفية التي يود ان يمضي بها أيامه الاخيرة.

يتجنب الكثير من الناس التحدث عن الموت، اذ لا يشعر البعض بالراحة في خوض ذلك الموضوع، وقد يتشاءم البعض من ذلك، وكأن الحديث عن الموت يجعله اقرب اليهم! انتبه القائمون على إدارة دور رعاية المرضى المقبلين على الموت في إنكلترا إلى أهمية توفير فرص التحدث بحرية عن الموت، وعن الفترة المؤدية اليه، وكذلك التحدث عن الفترة التي تعقب رحيل الشخص وما يتعلق بأهله ومحبيه، ولذلك قامت المؤسسة المسؤولة عن تلك الدور بإنشاء رابطة شؤون الموت.

تشكلت رابطة شؤون الموت في إنكلترا عام 2009، وكان الهدف من إنشائها مساعدة الناس على التحدث عن شؤون الموت ومناقشتها بحرية وبشكل واقعي، طالما كان الشخص قادرًا على ذلك. تهدف الرابطة إلى احداث تغيير في نظرة المجتمع إلى الموت وسلوك الأفراد حياله، على أمل مساعدة اكبر عدد من المرضى على الموت بشكل جيد، ان صح التعبير!

تذكر مدونة الرابطة ان معظم المرضى يودون الموت في بيوتهم وبين اهاليهم، ولكن ذلك لا يتحقق الا لنسبة قليلة منهم، نسبة لا تتجاوز النصف من العدد الكلي، اذ ان تواجد المريض المقبل على الموت في البيت غالبا ما يتطلب عناية خاصة قد لا يستطيع الأهل توفيرها له، والرابطة تسعى إلى جعل ذلك الخيار متاحا لأكبر عدد ممكن من المرضى.

يتجاوز عدد أعضاء تلك الرابطة حاليا الاثنين وثلاثين الف عضو يتوزعون في مختلف أنحاء مقاطعتي إنكلترا وويلز البريطانيتين، يعمل الكثيرون منهم بشكل تطوعي. للرابطة نشاطات وورشات عمل تقام على مدار السنة، تتمحور جميعها حول رفع مستوى الوعي بين الناس فيما يتعلق بالتخطيط إلى نهاية العمر. وقد تم تخصيص أسبوعا كاملا من الشهر الخامس من كل سنة ليكون أسبوع رابطة الموت، حيث تقام فيه فعاليات مختلفة تشارك بها الكثير من المؤسسات الصحية ودور رعاية المسنين ومراكز رعاية المرضى المقبلين على الموت، تقام في ذلك الأسبوع برامج مكثفة تهدف إلى إيصال صوت الرابطة إلى اكبر عدد ممكن من الناس. في العام الماضي مثلا، وخلال ذلك الأسبوع، بادر واحد من دور رعاية المقبلين على الموت بوضع لوحات تحمل عبارة )قبل ان اموت اريد ان…( في الشارع الرئيسي في المدينة، مع وضع طباشير قرب اللوحات كي يقوم من يود من المارة بإكمال تلك العبارة. وقد لاقت تلك اللوحات اقبالا كبيرا من الناس مما دفع الدار لإعادة تلك الفعالية هذه السنة أيضا.

الكثير من العبارات التي كتبت على تلك اللوحات كانت تحمل آمال واماني كاتبيها، فقد قرأتُ عبارات مثل; اريد ان اوفر أسعد حياة لابنتي, اريد ان أجوب العالم، ان اتزوج الرجل الذي احب.. وغيرها الكثير من العبارات التي تحدثت عن الحياة، لكن، وضمن تسارع وقع الحياة المعاصرة، اعتقد ان تلك الفعالية تحفز الانسان على العمل والسعي لتحقيق أهدافه، لانها تذكره ان الحياة قصيرة مهما طالت. ولكنها في نفس الوقت تدفع الانسان إلى التفكير في نهاية حياته، واتخاذ الاستعدادات الممكنة لذلك.

توجد على الموقع الالكتروني للرابطة مجموعة أفلام قصيرة، تصور أمثلة من الحياة وما يمكن ان يتعرض له الانسان بشكل مفاجيء، والحقيقة فان كل تلك الأفلام مؤثرة وتوجه رسالة واضحة تركز على أهمية مناقشة شؤون الموت. من تلك الأفلام مثلا نرى رجلا يلهو ويمرح مع ابنته وحفيدته، وفجأة يصاب بالشلل، فنراه بعد ذلك جالسا على كرسي متحرك غير قادر على النطق، لكنه يستمع إلى الجدال بين حفيدته مع امها التي تقرر إرساله إلى مصح لانها تعتقد انه سيحظى برعاية افضل هناك، بينما الحفيدة تريد إبقاءه معهم في البيت، وعندما تتمسك الام بقرارها لوضعه في المصح نسمعه يحدث نفسه قائلا: لا اريد ذلك، لكن ابنته لا تعرف رغبته تلك لانهم لم يتحدثوا عن نهاية عمره مسبقا.

تعنى تلك الرابطة بامور مختلفة فيما يتعلق بالموت، على سبيل المثال توجيه النصح والإرشاد حول كيفية التحدث عن الموت مع الاطفال المرضى المقبلين عليه، او مع الاطفال الذين يفقدون ذويهم او غيرهم من أحبتهم. كما توجه الناس إلى أهمية التخطيط لنهاية العمر؛ على سبيل المثال كتابة وصية وتحديد بنودها وتوثيقها لدى جهة معتمدة.

اعتقد ان الكثير من الناس في هذا الزمان بحاجة إلى التذكير بالموت بشكل مستمر، فربما سيقلل ذلك من درجات الطمع والحقد والكراهية والضغينة في النفوس المسكونة بها. كان لجارتي ابنين في العقد الخامس من العمر، طال بينهما الخصام لسنوات عديدة، وبعد ان حُلّ الخلاف بينهما، توفي الأخ الأكبر نتيجة إصابته بورم خبيث في الدماغ لم يمهله سوى أشهر قليلة. عندما يتحدث الأخ الأصغر الان عن أخيه، اجده على الأغلب لا يذكر اسمه وإنما يشير اليه بكلمة )اخي(، مع التماعة في عينه ترسمها دمعة تغور في أعماقه، ويُسمع صداها في ارتجاف تلك الكلمة كلما نطقها.