رسالة من “أب” فلسطيني إلى “طفل لم يولد بعد”! (2من 2)    

من بين الكتب التي تركها عمّك خليل، كتاب صغير عنوانه “اسمع يا رضا”، ألّفه أستاذ لبناني قدير، كان يعلّم التاريخ واللغات السامية في جامعة بيروت الأميركية. الكتاب قصة يحكها المؤلف لصغيره رضا، عن طفولة عاشها في قرية من قرى الجبل، وما اكتنفها من صور ساحرة: الأطيار والأشجار والأثمار، العين ودرب العين، الساقية والغدير، التلة ودرب التلة، الجبل والمقلع والوادي، طريق العودة ومراح العودة، البساتين والحقول، البيادر ومواسم البيادر، أعياد القرية وأفراحها، وما كان فيها من لهو وهزل وعيش رغيد.

كان ذلك الكتاب أحبّ الكتب إليَّ وآثرها عندي. لكنني أعترف لك بأنه أمضّني غير مرة، إذ جعلني أتصوّركَ جالساً إلى جانبي، تتوسل إليَّ أن أروي لك حكاية طفولتي؟

هل تريد حقاً أن تعرف كيف كان عاش أبوك طفولته؟

أقطع بأن أنفاسك الطرية، لن تقوى على دموعك، إذا ما رويتُ لكَ شيئاً منها. إنها تختلف كل الاختلاف عن طفولة رضا الصغير، في تلك القرية الوديعة الهادئة من قرى الجبل.

لا بأس، سأنقل لك بعض صورها، ولو أخذ الدمع عينيك، لأن الدموع هي اللغة الأولى التي يختبرها أطفال فلسطين.

???

لا أذكر بالطبع شيئاً من سنواتي الثلاث الأولى في المخيم، لكني سمعتُ جدّتكَ تقول مرةً لجارتنا أم سعدون، إنني كنت في طفولتي شكّاءً بكّاءً، وفي بعض الأحيان شقياً. وقد قالت لي يوماً إنني، عندما كنت في الرابعة من عمري أو دونها بقليل، تسلقتُ المسند حيث كان جدّك جالساً، وجذبته من لحيته، فصرخ من الألم.

كانت لعبتي الأولى حصاناً صغيراً من الخشب، صنعه لي جدّك، وبقي لعبتي الوحيدة في السنوات الخمس الأولى من حياتي. كان سطح بيتنا من الصفيح، وكانت نقاط المطر تتقاطر من ثقوبه كلما أقبل الشتاء. كنت أخاف أن أنام وحدي، وكان فراشي على حصير بارد. لم أكن أشعر بالدفء إلا حين كانت جدّتك تحملني إلى سريرها فأنام مطمئناً.

عانينا كثيراً انقطاع الكهرباء وشحّ الماء، فكانت جدّتك تغسلني يوم جمعة من كل أسبوع. كانت الدروب في المخيّم قذرة، وكنت أصرف الوقت مع أترابي نلعب في الأزقة، أو نتسلق أغصان شجرة باسقة ضخمة كانت تتوسط الفناء القريب من بيتنا الذي على الناصية.

كان لي في المخيّم صديق من عمري كنت أحبّه كثيراً اسمه سعيد. في أحد الأيام، وفيما نحن نركض في درب موحل، انغرست في قدمه اليسرى إبرة صدئة، فصرخ من الألم وأطلق صوتاً حسبته شقّ السماء. أخذه أهله إلى الطبيب. وما هي إلا أيام حتى فارق الحياة.

لا أقدر أن أصف لك كم كان حزني شديداً على سعيد. افتقدته في الليل والنهار، وصارت صورته تراودني كل يوم عند المغيب، الوقت الذي كنا نفترق فيه أيام العطل ويذهب كلٌّ منا إلى بيته. وبقيت أبكيه وأبكيه، حتى جفّ الدمع في عيني.

???

أراني حدّثتُكَ كثيراً عن الموت يا صغيري وأنت لم تولد بعد.

وما تراني فاعلاً يا بني، والموت لغة قدرنا نحن أهل فلسطين؟

???

أحياناً يغالبني الحلم فأتشوق إلى رؤياك، وأحلم بك مثلما أحلم بالزهر والغابات والبحيرات، ومثلما أحلم بمنائر القدس وأجراسها، وبيارات عكا وحيفا، وبساتين الزيتون والبرتقال، فيكون حلمي بكَ جزءاً من حلمي في الوطن الذي أحبّه، والذي أريدك أن تدافع عنه أكثر مما دافع عنه أبوك وجيل أبيك.

تصونه لك حصناً، وتحفظه لأجيال من بعدك.

تعطيه عرق الجبين ودم القلب، ودمع العين الصادق الهتون.

وإذا حررتموه، فإنكم تمحون بتحريره أخطاء أجيال سبقتكم.

أنا أضعف من أن أقدّم إليكَ الوطن هديةً.

قد تكون أنتَ هديتي إلى الوطن