سرجون كرم: كيف يكون الشعر شعراً؟

بيروت – رنا خير الدين

أن تتخطّى الزمن والحال أمرٌ طبيعي على أيّ شاعر محنّك وجريء، إنما أن تتبّع اتجاهاً يعكس مفاهيمك الخاصة من منظورٍ ايديولوجي خاص قابل لتعرية أيّ شكل من أشكال التموضع والظلم فهو أمرٌ أشبه بالمرور في حقل ألغام في عالمنا العربي، المحفوف بمخاطر التبعية والمحسوبيات، وأنا أؤكد بذلك أن من هؤلاء الشعراء قلّة قليلة ممن يتعافون من ذلك وينسجون عالماً شعرياً حقيقياً بمفهوم خاص، من هؤلاء الشاعر والمترجم سرجون كرم، الذي يفاجئني دوماً باختياراته الشعرية وأعماله المستوحاة من حكم الماضي وشغب الحاضر.

حديثٌ بالشعر جديدٌ ومن نوع آخر، جريءٌ وعفوي لا يحتاج سوى الشفافيّة للتمكّن من العيش لحظة الشعر لديه، ومكنوناتها.

  • “الحصاد”: “سندس والسكين في حديقة الخليفة” آخر دواوينك، لمَ اخترت هذا العنوان؟ حدثنا عنه.
  • “سرجون كرم”: “سندس وسكّين في حديقة الخليفة” وليد فترة زمنيّة امتدّت بين العام 2014 والعام 2017 عندما شهر الإرهاب سكينه تحت شعار النوم على سندس الجنّة والحصول على حوريّاتها. فكان هذا الديوان يسير في مضمونه على خطين؛ الأوّل عاطفيّ انفعاليّ أمام مشاهد جزّ الرؤوس وسبي النساء وتهجير الآمنين. أمّا الخطّ الثاني فكان يتعامل مع هذه الظاهرة، التي لم نشهد لها مثيلاً لصورها منذ القرون الوسطى، بالنبش في الحديقة الخلفيّة للمجتمع والفكر العربيّين. في هذا الديوان لم أكن أتواجه مع الفكر “الديني” المتطرّف فقط، بل مع ذاتي كشخص تعود أصوله إلى عالم الإرهاب هذا، وكذلك مع عصر النهضة العربيّة بأكمله. فهذا العصر الذي بدأ في القرن التاسع عشر ورغم ما نعالجه من اهتمام باللغة العربيّة وتأسيس المدارس والصحافة ونشوء فنون أدبيّة جديدة وتطوّر حركة الترجمة، غير أنّه في الواقع انتهى فكريّاً بتيّارين متطرّفين شموليين، القومي العربيّ المتطرّف والإسلامي الدينيّ المتطرّف، وكلاهما هدفهما سلطة سياسيّة تشرف على حياة الناس وتسحق مَن يخالفها. كنتُ في هذا الديوان أحاول أن أستوعب بفم فاغر “من أنا” وأتأكّد من أنّ عالمي لا ينتمي إلى هذين التيّارين اللذين على ما يبدو قشرة سميكة متجذّرة في العالم العربيّ ولا يمكن إزالتها بهذه السهولة.
  • “الحصاد”: بحسب تجربتك هل للشعر ضوابط أو قيود مجتمعية، إنسانيّة أم تلك التي قد يضعها الشاعر لنفسه. وما هي؟
  • “سرجون كرم”: البشريّ في سيرورته التاريخيّة كلّها يسير باتجاه “الإنسانيّة”. فهذا المصطلح بدأ تعبيرًا عن الطبيعة الفيزيائيّة للإنسان وتطوّر إلى التعبير عن الحالة الفكريّة للإنسان القائمة على حبّ الآخر ورفض كلّ عائق أمام الحياة وكرامة المرء وحريّته وعلى فكرة أنّ جميع الناس هم مواطنون على هذه الأرض، كما هم مواطنون في بلادهم. نحن في زمان كلّ شعر لا يحمل مستوى فكريّا إنسانيّا يعبّر عن جوهر كاتبه لا يمكن أن يعيش، لأنّ كاتبه لو كان غير ذلك لا يمكن أن يكون جزءاً من هذا العالم ويتفاعل معه. الإنسانيّة هي الضابط الوحيد ولكنها في الوقت نفسه حريّة نبيلة من أخلاق الألوهة الكونيّة. وإن تعارضت القيود المجتمعيّة مع الإنسانيّة فإني إلى جانب هذه الأخيرة مهما كانت النتائج والعواقب.
  • “الحصاد”: الحرية، الجرأة وغير المألوف هي ببساطة صفات قصائدك وأشعارك. إلام يعود سبب ذلك؟
  • “سرجون كرم”: ربّما إلى تربيتي وطفولتي ونشأتي وتحربة حياتي. نشأت في بيت يجمع عقيدتين مختلفتين. أحيانًا كثيرة لم أكن أعرف أين أنا، أحبّ والديّ ومتعلّق بهما وكنت أشعر أنّ انتمائي بالكامل لخلفيّة أحدهما سيكون خيانة لطرف منهما. كنت أرى نظرات الاستفهام وأحيانًا الريبة في عالمَيهما الخارجيّين وهما يحاولان حصري في إطار معيّن. كنت أشعر في هذه اللحظات بحريّة منقطعة النظير وبفردانيّة تجعلني لا أتأقلم مع مجموعة أو ارتباط أو التزام بأيّ طلب أو أمر. وكان خروجي من لبنان إلى أوروبا فرصة للهدوء والتفكير بالتجارب السابقة والتجربة الجديدة الحياتية والعلميّة وبشخصيّتي كما هي التي لا أخبّئها أو أجمّلها. وهنا ولدت قصيدة أخرى تعبّر عن هذه الشخصيّة بكل مزيجها، غير مستعدّة أن تبرّر أيّ موقف أو رأي تتخذه، وتحاول أن تصيب الإنسان كما هو.
  • “الحصاد”: تقول في إحدى المقابلات السابقة أن “الحداثة الشعرية الفاشلة تتحمّل المسؤولية في تحويل الشعر العربي إلى نوع من القطيع الهائج عندما رأى باب السور مفتوحاً فراح هائجاً من دون هدف”، هل ما زال باب السور مفتوحاً وهل تشكّل خطراً؟ وهل الشعر العربي بخير؟
  • “سرجون كرم”: لا شيء بخير في العالم العربيّ طالما ينتهي دومًا إلى النقطة التي بدأ منها. الحداثة الشعريّة كانت نتيجة طبيعيّة للمشروع الفكري والثقافي والتحرّري الذي بدأ في عصر النهضة، ولكنّها في الوقت نفسه كانت ردّة فعل على ما آل إليه هذا العصر من ديكتاتوريّة سياسية ودينيّة بدأت تترسّخ في أواخر خمسينيّات القرن الماضي. وكشأن أية ردّة فعل تشظّت هذه الحركة منذ الستينيات وظهر شعراء متفرّدون والباقي ينسج على منوالهم. من ناحية أخرى القدسيّة التي تضيفها العقليّة العربيّة على الشاعر، بالإضافة إلى تفرّد بعض الشعراء والكتّاب بسلطة إشرافهم على الصفحات الثقافيّة الإعلاميّة ممّا أدّى إلى خلق نوع من التبعيّة والمزاجيّة، وغياب بوصلة إنسانيّة هادفة تؤمن أن كلّ شيء في هذا الكون يتطوّر حتّى الله في تعامله مع الإنسان، تقول لمن يكتب الشعر أو تشعره: ماذا يفيدني أو يفيد البشريّة ما وكيف تكتب؟ وبماذا تختلف كتابتك عن كتابات الآخرين؟ كلّ ذلك ترك الساحة مفتوحة لتطويب شعراء وفرضهم على مرأى من أنظار المجتمع الشعري والنقديّ الخجولة في التعبير عن رأيها بصراحة. الكمّ المكتوب هائل يكرّر نفسه ولا يمكن دراسته إلا في إطار الظاهرة المجتمعيّة والنفسيّة، وليس الأدبيّة الجماليّة. طبعًا لكلّ الحقّ أن يكتب، وللمجتمع وللقارئ الحقّ في التفتيش عن المستوى الفكريّ والجمالي والحكم عليه.
  • “الحصاد”: تكتب للإنسان، ولا تتبع أي مدرسة شعرية، ألا تعتبر ذلك اتجاهاً وعراً في هذا العالم المحفوف بالفخاخ؟
  • “سرجون كرم”: الذائقة الاجتماعيّة هي التي تحدّد وتحكم على المدرسة الشعريّة منهجًا وأسلوبًا. ولنا في عصر التدوين في القرن الثامن الميلاديّ خير مثال، سواء نحل هذا العصرُ الشعرَ والرواياتِ والأحاديثَ أم لا. ويبقى مقياس هذه الذائقة سائرًا إلى أن يخرج شاعر أو ظاهرة شعريّة بشقّ طريق جديد ومختلف يصبح في ما بعد هو الذائقة والمقياس. لا أقول إنّ لي مدرسة شعريّة خاصّة وشخصيّاً لا أرى مدرسة خاصّة في الشعر العربيّ الحديث، وكلّ ما يتمّ الحديث عنه في هذا القبيل يعود إلى مرجعيّات إعلاميّة أو علميّة تحاول تكريسه. أفهم أن الشعر الكلاسيكيّ كان له قواعده ولكن لا أفهم ولا أتفهّم النظريّات التي تحاول أن تضع شروطًا لقصيدة النثر وتشترط درجة التناغم الصوتي بين ألفاظ القصيدة والحبكة وطريقة صياغة الصور فيها. أؤيّد أن يكتب الإنسان ما يريد وكيفما يريد، ولي كقارئ أن أفكّر وأستمتع وأتعلّم حين أقرأ، أو العكس.
  • “الحصاد”: هل تلتقي في مكان ما مع الشعراء العرب الحاليين؟
  • “سرجون كرم”: من جهة المحبّة والمودّة والاحترام ألتقي مع الجميع. وألتقي معهم من زاوية أنّهم يبقون إخوتي وعالمي الذي جئت منه وما نفعله جميعنا يصبّ في خدمة بلادنا والأجيال القادمة والإنسانيّة. أمّا من ناحية الأسلوب فإنّي أميل إلى طريقة كتابة الشعراء اليساريّين في بساطتها واقترابها من الإنسان، على الرغم من أنّي لا أنتمي إلى مشروعهم السياسيّ.
  • “الحصاد”: هل من مشاريع شعر جديدة؟
  • “سرجون كرم”: هناك ديوان أعمل عليه منذ أربع سنوات بعنوان “العليم بكلّ شيء” كان من المفترض نشره السنة الماضية ولكنّه تأجّل بسبب جائحة كورونا. ولكنّ المشروع الشعري الذي أسعى إليه خارج الكتابة هو تأسيس حركة شعريّة من الشعراء العرب في أوروبا. ففي رأيي ليس هناك قصيدة عربيّة بل قصائد عربيّة، وعدد الشعراء المقيمين في أوروبا أضحى لا بأس به ولا يمكن وضع تجربتهم هنا تحت السقف نفسه في العالم العربيّ. وأرى عالمها المستقلّ تجربة ودراسةً في طريق مختلف، لنقل متواز، يسير إلى جانب الشعر في العالم العربيّ وليس في طريقه ولا يتكل عليه.
  • “الحصاد”: هل تحرّرت من قيود النقد أم تسعى لإرضائه؟
  • “سرجون كرم”: القصيدة يجب أن تكون هي النقد ونقد الذات أيضًا. أمّا في ما يتعلّق بما سيقول الآخرون، فبمجرّد التفكير بهذه الطريقة فإنّ القصيدة اختنقت وجرأتها وصراحتها وحتّى وقاحتها.

سرجون كرم في أسطر

ـ مواليد 1970 في الأشرفيّة بيروت. مع اندلاع الحرب الأهليّة اللبنانيّة انتقل مع أهله بسبب التهجير مما كان يسمّى المنطقة الشرقيّة إلى قرية فيع – الكورة شمال لبنان.

ـ حاصل ليسانس في اللغة العربيّة وآدابها وماجستير في اللغة العربيّة وآدابها، اختصاص ألسنيّة، من جامعة البلمند.

ـ دبلوم في اللغة الألمانيّة وآدابها كلغة فيلولوجيّة أجنبيّة من جامعة هايدلبرغ / ألمانيا.

ـ دكتوراه في الأدب العربيّ بعنوان “الرمز المسيحيّ في الشعر العربيّ الحديث” من جامعة هايدلبرغ / ألمانيا.

ـ أطروحة الأستاذيّة في جامعة بون / ألمانيا بعنوان “الشيخ أحمد رضا العامليّ (1872-1953). المساهمة الشيعيّة في الحركة الثقافيّة واللغويّة المجدّدة في القرن التاسع عشر وبداية القرن العشرين”.

ـ أستاذ اللغة العربيّة وآدابها والترجمة في معهد الدراسات الشرقيّة والآسيويّة التابع لكليّة الفلسفة في جامعة بون / ألمانيا.

ـ ناشر ومدير مشروع ترجمة الشعر العربيّ الحديث إلى اللغة الألمانيّة إلى جانب سيباستيان هاينه وكورنيليا تسيرات.

ـ صدر له حتى الآن أربعة دواوين: “تقاسيم شاذّة على مزاهر عبد القادر الجيلاني”، “في انتظار موردخاي”، “هذا أنا”، “سندس وسكّين في حديقة الخليفة”، وديوان “العليم بكلّ شيء” قيد الإعداد.

العدد 115 / نيسان 2021