ضِباع الدائنين تطارد لبنان

عصام الجردي

سيحفظ اللبنانيون جيدا التاسع من آذار/ مارس 2020. ففي هذا اليوم دخل لبنان نادي الدول المتخلّفة عن سداد ديونها. أعلنت حكومة لبنان  »تعليق سداد ديون سيادية«. بات  »الدين الكريه« بين براثن  »الضباع الجشعة«. توصيف ذلك النوع من الدين هو الذي يحتمل معدلات فوائد جائرة تشبه كتلك التي يفرضها مرابون في كازينوات الميسر لتعويض خسائرهم بعد منتصف الليل. تتلقّفه الصناديق الاستثمارية كالضباع تتلقّف فريستها. ستقاوم الطريدة ما وسِعها. الصناديق في موقع قوة الدائن على المدين. أقدامها راسخة في أسواق المال العالمية. وتتكئ على دول وقوانين ما فوق القومية للحجز على أصول الدول المدينة في الخارج. لبنان الغارق في أزماته السياسية والمالية والاقتصادية، رفع القفّاز في وجه الدائنين.  »أتريدون استرداد الديون؟ لنبدأ في التفاوض على إعادة هيكلتها«. وكأنه يقتفي أثر المثل العامي.  »إذا كنت مدينا للمصرف أول مليون فأنت عبد المصرف. عندما يصبح الدين ملايين بات المصرف عبدك«! ليت الأمر كذلك رغم كرهنا للمفردة ومشتقاتها..

صندوق أشمور ومركزه لندن، يحمل أكثر من 25 في المئة من 1. 2 مليار دولار أميركي دينا سياديا على لبنان استحقّ في 9 – 3- 2020، وعلّقت حكومة لبنان سداده، لديه مهلة أسبوعين حدا أقصى للردّ على طلب الحكومة بدء مفاوضات إعادة جدولة الدين. نقتبس من تجارب الدول التي واجهت إعسارا وتوقفا عن الدفع، أنها تمكنت من إقناع الدائنين بإعادة هيكلة الديون طالما أن الصنديق الاستثمارية الممثلة للدائنين لا تملك الكثير من وسائل الضغط على الدول المدينة لفرض شروط سداد الديون أصلا وفوائد. هذا الجانب ما زال غامضا في العلاقة بين الحكومة اللبنانية المصدِرّة أوراق الدين السيادية يوروبوندز، وبين الصندوق الاستثماري أشمور وصندوق فيدليتي، تبعا لشروط الدين التي تختلف بين إصدار وبين آخر. عِلما أن ليس للبنان الكثير من الأصول كي يحجز عليها صندوق أشمور في حال رفض طلب الحكومة اللبنانية إعادة الهيكلة، وتوجه الى المحاكم. أو الى التحكيم الدولي ونال أحكاما لمصلحته ضد الدولة اللبنانية. لو قرر أشمور الخيار الثاني برفض استجابة إعادة الهيكلة واللجؤ الى المحاكم، لا يضمن الخيار لمصلحته. لأن رهانه على احتجاز جزء من احتياط الذهب اللبناني العائد لمصرف لبنان المركزي، المودع مجلس الإحتياط الفدرالي في نيويورك، قد يكون بلا طائل، لو اعتبرت المحاكم أو هيئات التحكيم أن مصرف لبنان مستقّل عن الحكومة اللبنانية. السفارات اللبنانية والقنصليات في الخارج محميّة بموجب اتفاق فيينا ولا يمكن الحجز عليها. ولبنان طرف في الاتفاق. ينسحب الأمر على ملكية مصرف لبنان 99 في المئة من أسهم شركة طيران الشرق الأوسط – الخطوط الجوية اللبنانية. لكون الأخيرة شركة مساهمة تعمل بالقانون التجاري. وسبق لأحد الدائنين أن حجز على طائرة للشركة في مطار استانبول قبل تسوية القضية. وخيار التقاضي والدعاوى يستغرق سنوات لصدور الأحكام.

في الواقع أن مجموعة من المصارف اللبنانية الحاملة جزءا من أوراق الديون للبنانية يوروبوندز استحقاق التاسع من آذار، هي التي أكسبت أشمور والدائنين حق النقض (فيتو) لقبول طلب إعادة هيكلة الدين، بعد أن باعت سندات تملكها الى الصندوق. فحاز 25 في المئة من أوراق الاستحقاق، تكفي بموجب اتفاق الدين لتعطيل إعادة الهيكلة لو شاء الدائنون وأشمور اللجؤ الى المحاكم. لحظة كتابة السطور (10-3-2020) كانت مجموعة المصارف اللبنانية المشار اليها تخضع لتحقيق من النيابة العامة اللبنانية. ورغم موجة الغضب العارمة التي أثارتها خطوة المصارف بإكساب دائنين دوليين هامش قوة ضد الدولة اللبنانية، فبيعها السندات من أجانب مكفول بالقانون. فكل أوراق الدين السيادية في العالم يمكن تدوالها في الأسواق الثانوية. وخروج الدائنين منها بحسب ارادتهم مكفول هو الآخر وفي أي وقت. سواءٌ لتحقيق أرباح، أو لاجتناب مخاطر وخسائر، أو لأي دوافع أخرى يرى فيها حامل السند فائدة في تسييله السند قبل استحقاقه. فينتقل الدين الى دائن آخر. خلافا لذلك لما كانت أوراق الديون السيادية تحظى بإقبال المستثمرين في الأسواق. إذ لا يمكن أن يحمل الدائنون أوراق دين استحقاق 30 سنة و50 من دون القدرة على تسييلها نقدا وبيعها في الأسواق الثانوية قبل استحقاقها. لكن ما يؤخذ على المصارف اللبنانية التي خرجت من السندات لمصلحة أشمور والدائنين ويدور التحقيق حوله، هو احتمال تسرب معلومات (Insider Information) اليها عن نية الدولة عدم سداد استحقاق آذار. وإجراء إعادة هيكلة على الديون الداخلية لا بدّ أن تتضمن قصا من الديون والفوائد (Haircut) فكان البيع لأشمور وعملائه والحصول على سيولة نقدية في المقابل ليست متوفرة لدى الدولة. وقد أودعت تلك السيولة في مصارف خارجية. بينما هناك قيود على التحويلات بالعملات الأجنبية وقيود على السحوبات للمودعين تشمل الليرة اللبنانية أيضا.

في المحصّلة اخنار لبنان عدم السداد وطلب اعادة الهيكلة من الدائنين الدوليين. كان الخيار صعبا لكونه الإعسار الأول يواجهه منذ الاستقلال 1943. آثرت الحكومة استبقاء عملات أجنبية لزوم استيراد القمح والدواء والوقود. مع فيروس كورونا الذي بدأ مرحلة الانتشار، سيكون على الدولة المُعسرة مواجهة أعباء ثقيلة الوطأة لتأمين التمويل للمستلزمات الطبية مع المواد الأخرى. وتزداد في اطراد فاتورة التمويل لاستيراد سلع أخرى على مصرف لبنان تأمين عملاتها من خلال توظيفات المصارف لديه. أي عمليا من ودائع الناس وأصحاب الحقوق.

هيكلة ثلاثية

حين أعلن رئيس الحكومة اللبنانية حسّان دياب قرار تعليق السداد، كان يعلن على نحو غير مباشر، إعادة هيكلة المصارف اللبنانية والدين الداخلي أيضا بالعملات الأجنبية والليرة اللبنانية. ليكتمل المشهد اللبناني الحزين هذه الأيام. العجز المالي المزمن تمّ تمويله بالدين من المصارف. المصارف استخدمت ودائع الجمهور. واشترك مصرف لبنان في دين الدولة بالليرة والعملات الأجنبية من توظيفات المصارف لديه التي جذبها بالفوائد العالية. عمليا من الودائع. توقفت الدولة عن السداد. فتوقفت المصارف عن سداد التزاماتها تجاه الجمهور إلّا بالتقنين الشديد. وطارت احتياطات مصرف لبنان. فبات لبنان في حاجة الى إعادة هيكلة من أضلع ثلاثة. دولة ومصارف ومصرف لبنان.

في اعتقادي أن أخطر حلقة يواجهها لبنان ماليا هي وضع المصارف وحقوق الناس فيها. لو قبلت أشمور ومعها الدائنون الخارجيون إعادة الهيلكة و »قصّ الشعر« باقتطاع 50 في المئة من الديون سواءً من الفوائد أو من الأصل أو من الإثنين. ولو شملت إعادة الهيكلة الداخلية شطب ديون للمصارف اللبنانية على نحو مماثل، لا يمكن ولوج طريق الصعود من الحفرة إلّا بدعم مالي من نحو 50 مليار دولار أميركي، ليس متاحا في شكل من الأشكال. 25 مليارا لإعادة رسملة المصارف وتعزيز أموالها الخاصة، و25 لإعادة هيكلة مصرف لبنان.

ولنا أن نعتبر أن إعادة الهيكلة لم تعد تقتصر على استحقاقات الدولة في 2020 البالغة مع فوائدها نحو 4. 5 ملايين دولار أميركي. الهيكلة ستشمل في الضرورة 30. 1 مليار دولار أميركي تمثل الدين بالعملات الأجنبية حتى 31-12-2019 وتمتد استحقاقاتها حتى سنة 2034. وجه من وجوه الإختناقات الصعبة التي يواجهها لبنان، هو أن القيود على التحويلات النقدية من العملات الأجنبية الى الخارج الذي كان وسيبقى حاجة ماسّة للاحتفاظ بمقدار من القطع الأجنبي في الداخل، إنما أوصد باب التحويلات من الخارج الى الداخل أيضا. نتيجة فقدان الثقة، والخشية من شمولها بالقيود. عِلما، أن مصرف لبنان رفع القيود عمّا ُسمّي  »السيولة الطازجة«. أي المال الجديد الذي دخل الى لبنان اعتبارا من 17 تشرين الأول/ أكتوبر 2019 أو يدخل بعد التاريخ المذكور. أكان ودائع أو استثمارات أو حوالات بالعملات الأجنبية. بما في ذلك الودائع الجديدة من الداخل بالعملات الأجنبية والليرة اللبنانية.

الخطة الاقتصادية

كل ذلك في ظروف من الركود الاقتصادي وتراجع النمو الذي يتوقع أن يكون سالبا من رقمين في 2020. الأمر الذي سيعقّد عملية إعادة الهيكلة الثلاثية. خصوصا لناحية جبه العجز المالي الحكومي الذي كان شرارة الأزمة من أساسها وتمّ تمويله بالدين. فجرف ودائع المصارف وأصولها، وأصول مصرف لبنان في وقت واحد! لذلك، فرؤية الحكومة الاقتصادية التي لم تُنجز بعد، مع خطة لخفض النفقات وزيادة الإيرادات لن تنفصل عن مسار إعادة الهيكلة الثلاثية. الاقتصاد اللبناني عرضة للشلل بعد انتشار كورونا. القطاعات الاستهلاكية مطاعم وفنادق ودور لهو وتسلية متضررة على نحو كبير. والصناعة والزراعة لا تحصلان على تمويل كافٍ لاستيراد المواد الأولية. 90 في المئة من الصناعة اللبنانية تحويلية تحتاج الى مدخلات وسيطة. والزراعة تفتقد بالمثل الى استيراد الأدوية والسماد والبذور. إستهلاك الأسر مضروبٌ بتراجع زهاء 65 في المئة من سعر صرف الليرة. الأجور والرواتب والدخول عموما بالليرة، تتبخّر قبل استخدامها للمشتريات. والتضخم من رقمين. والبطالة المَهولة بلا دخل لأصحابها. إذا كان الدين تراكم كرة ثلج، فالوضع الاجتماعي والمعيشي كرة نار يتراكم في حكومة لا تتحمّل في الواقع نتيجة كل ذلك. لكنها قبلت أن تتصدى للأزمة. البواكير لا تشي بالخبر السعيد. هي في الأسر السياسي لـ »محور ممانع« يقوده  »حزب الله«، ويغطيه تيار رئيس الجمهورية المهجوس بالسلطة في دولة هشّة، تحاول عبثا أن تتصدى لأخطر أزمة عرفها لبنان. وقت نقل فيه الحلف المذكور اهتماماته الى الاقليم. وعزل لبنان عن محيطه العربي والسياسي وعمقه الاقتصادي.

أتى صندوق النقد الدولي الى بيروت وغادر قبل معرفة رؤية الدولة الاقتصادية و »سِفر الخروج« من الأزمة. وسط انسداد المنافذ في وجه لبنان عربيا ودوليا. كان يمكن الصندوق أن يشكل ضمانة للدائنين لحماية لبنان من الدعاوى المحتملة، لو رفضوا فرادى ومجتمعين إعادة الهيكلة. صندوق النقد ضيف ثقيل على الدول التي تعاني ما يعانيه لبنان. وليس مرحبا به شعبيا لو طلب البلد برنامج قروض ميسّرة لقاء حزمة شروط. بيد أن 90 في المئة من تلك الشروط سيتبنّاها لبنان قِسرا مع برنامج الصندوق أو من دونه في الرؤية الاقتصادية وخطة الحكومة. دخل الصندوق بازار المزايدات السياسية بدعوى السيادة والوصاية. تخلّف لبنان عن السداد. يبقى ألّا يكون فريسة  »ضباع الدائنين«.

العدد 103 – نيسان 2020