الولايات المتحدة وإسرائيل: مسار التنافر والخلاف!

ضغوط أميركية لافتة على إسرئيل ومكالمات عاصفة بين بايدن ونتنياهو

فرضت الحرب في غزة تطوّرا سلبيا في علاقة الولايات المتحدة وإسرائيل. وبغض النظر عن مسار الاحتكاكات التي سُجلت بين إدارة الرئيس الأميركي الديمقراطي جو بايدن وحكومة رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، فإن التحوّل لا يعبّر فقط عن تناقض المزاج بين نخب الحكم في واشنطن وتل أبيب، بل إلى تعارض المصالح الأمركية، داخليا وخارجيا مع أجندة نتنياهو وائتلافه الحاكم. الأمر الذي اضطر البيت الأبيض إلى اتخاذ مواقف متدرجة للضغط على إسرائيل

نتنياهو نفذ ما طلبته

لضبط إيقاعات حربها ضد القطاع الفلسطيني.

حسابات التحالف والخلاف

تراجعت العلاقات الأميركية الإسرائيلية على نحو متدرّج منذ عملية “طوفان الأقصى” التي نفّذتها حركة “حماس” في 7 تشرين الأول (اكتوبر) 2023. أظهرت واشنطن دعماً مفرطا لإسرائيل منذ أن زار  الرئيس الأميركي جو بايدن إسرائيل تضامنا وفعل ذلك أيضا  وزراء الخارجية والدفاع ومستشار الأمن القومي ومسؤولين سياسيين وعسكريين آخرين. وقد أعلنت واشنطن دعمها الكامل للعملية العسكرية الإسرائيلية في قطاع غزّة، ودفعت بلا حساب بالمساعدات العسكرية، وحرّكت قطعا عسكرية بحرية استراتيجية صوب الشرق الأوسط، كما استخدمت حقّ النقض داخل مجلس الأمن الدولي لمنع تمرير أي قرار يطالب بوقف إطلاق النار.

ومع ذلك تضافرت أسباب عديدة أدت إلى تباعد مصالح الولايات المتحدة وإسرائيل، لا سيما منذ بداية عام 2024، تتعلق بخطط الحرب الإسرائيلية في غزّة وما يطلق عليه “اليوم التالي” للحرب. وتكثّفت عوامل دولية وإقليمية، كما الحسابات الانتخابية في البلدين، لتراكم حيثيات، أدت إلى تصاعد خلاف بات علنيا سواء في تصريحات بايدن ومسؤولي إدارته أو في تصريحات رئيس الحكومة الإسرائيلية ووزراء اليمين المتطرّف إيتمار بن غفير و بتسلئيل سموتريش.

ويقوم تصاعد الخلاف بين واشنطن وتل أبيب على أسباب عديدة لكن أبرزها كان فشل إسرائيل العسكري في تنفيذ عملية عسكرية سريعة تحقق نتائج كاسحة توفّر على الولايات المتحدة الإحراج الداخلي كما في علاقاتها الدولية، لا سيما مع بلدان الشرق الأوسط. وقد أدى امتداد المعارك لسبعة أشهر حتى الآن إلى ارتفاع الكلفة العسكرية بالنسبة للولايات المتحدة، في وقت تدعم فيه بشكل استراتيجي أوكرانيا ضد الهجوم الروسي، وتطوّر مساعداتها وحضورها العسكري في منطقة جنوب شرق آسيا والمحيطين الهادي والهندي في إطار مواجهتها للصين.

وقدضعت حرب غزّة، في جانبيها العسكري والإنساني، الولايات المتحدة في حالة “عزلة” على المستوى الدولي ظهرت خصوصا داخل مجلس الأمن الدولي. فحتى كافة دول المنظومة الغربية، التي أظهرت جميعها تضامنا مفرطا مع إسرائيل بما في ذلك تراجعها عن مواقفها حيال القضية الفلسطينية، عادت وصوّبت موافقها التضامنية الانفعالية الداعمة لإسرائيل وأخذت مسافة من الحرب الإسرائيلية وراحت تباعا، وفي مقدمتها بريطانيا الشديدة القرب تاريخيا من واشنطن، تلوّح بالاعتراف بالدولة الفلسطينية. وتتناقض “عزلة” الموقف الأميركي مع دور ومكانة الولايات المتحدة في المشهد الدولي العام. وظهر الخلاف واضحاً في رؤية إدارة بايدن لمآلات الصراع الفلسطيني الإسرائيلي بعد حرب غزّة. فقد رفضت واشنطن تهجير سكان القطاع إلى مصر كما رفضت أي تغيير في مساحته.

بالمقابل فإن إسرائيل، وإن تراجعت عن فكرة الترانسفير نتيجة لضغوط مصرية استجابت لها واشنطن، بقيت تطرح حلولا أمنية إسرائيلية لإدارة القطاع، بما في ذلك إقامة منطقة عازلة يتم قضمها من مساحة القطاع. ويظهر الخلاف من جهة أخرى في خطط أميركية غير واضحة تدعو لإدارة القطاع من قبل حكومة فلسطينية وصولا إلى سلوك حلّ الدولتين، فيما لم يصدر عن نخب إسرائيل، وليس نتنياهو فقط، أي استجابة إسرائيلية لفكرة قيام دولة فلسطينية.

خلافات بين المد والجزر

على منوال الصراع بين نتنياهو والرئيس الأميركي الديمقراطي باراك أوباما على مدى ولايتين (2009-2017)، ظهر جانب في توتر علاقات الإدارة في واشنطن وتل أبيب في غياب التوافق الشخصي بين مصالح بايدن ونتنياهو وفق عدة عوامل.

فقد أدت الكارثة الإنسانية في قطاع غزّة إلى تصاعد ضغوط داخلية في الولايات المتحدة في مرحلة حساسة بالنسبة لبايدن في سنة الانتخابات الرئاسية المزمع إجراؤها في 5 تشرين الثاني (نوفمبر) 2024. وأظهرت هذه الضغوط تراجع شعبية بايدن لدى الكتل الناخبة التقليدية، لا سيما لدى مجتمع الأقليات بما فيها المسلّمة. وقد تمدّدت هذه الضغوط إلى داخل حزب بايدن الديمقراطي من خلال انتقادات وجهها الجناح التقدمي داخل الحزب بقيادة السيناتور بيرني ساندرز إلى سياسة الدعم غير المشروط التي تنتهجها إدارة بايدن لإسرائيل.

إضافة إلى ما سبق، اصطدمت الحسابات الانتخابية للمرشح بايدن مع حسابات نتنياهو لأي انتخابات إسرائيلية تشريعية محتملة. فيقوم جانب من موقف إدارة بايدن في الخلاف مع إسرائيل على إدارة ملف الانتخابات الرئاسية لجهة استقطاب كتل انتخابية ضرورية لحسم النتائج في الولايات المتأرجحة. وتقوم حوافز ذهاب نتنياهو إلى حدود تحدي إدارة بايدن على أسباب سياسية تضمن وحدة حلفه مع أحزاب اليمين المتطرّف وإفشال أي سعيّ، ومنه أميركي، لإسقاط حكومته. وتقوم حوافز نتنياهو أيضا على أسباب انتخابية لجهة تسويق نفسه لدى الناخب اليميني مدافعا عن إسرائيل حتى لو اقتضى الأمر الخلاف مع  حليف تاريخي واستراتيجي وأساسي مثل الولايات المتحدة.

ولا تظهر حتى الآن أي تحوّلات بنيوية يمكن التأسيس عليها لاستنتاج تحوّل استراتيجي في العلاقات الأميركية الإسرائيلية. وفيما سُجلت مواقف أميركية سابقة على عملية “طوفان الأقصى” منتقدة لحكومة نتنياهو وأعراضها اليمينية المتطرّفة، غير أن حدود التناقض بين البلدين بقيت تحت سقف مقبول. فرغم ما أظهرته المواقف الأميركية الأخيرة، لا سيما على لسان وزير الخارجية أنتوني بلينكن في جولته في آذار (مارس) الماضي في الشرق الأوسط (شملت السعودية ومصر وإسرائيل)، ضد الهجوم في رفح واعتباره “خطأ”، غير أن الولايات المتحدة لم تتخذ أي قرار بشأن استمرار إرسال الأسلحة إلى إسرائيل.

ويعتبر استقبال واشنطن في 24 من الشهر عينه وزير الدفاع الإسرائيلي يوآف غالنت تحت عنوان “تهدئة التوترات مع واشنطن واستمرار الجسر الجوي للأسلحة الأميركية إلى إسرائيل” بمثابة نفيّ أي احتمال لوصول الخلاف الأميركي الإسرائيلي إلى حدّ المسّ بمستوى التسليح الأميركي لإسرائيل.

ورغم تقديم الولايات المتحدة مشروع قرار في مجلس الأمن يتحدث عن “ضرورة وقف إطلاق النار” في غزّة، إلا أن القرار، الذي واجه “فيتو” روسي صيني في 22 آذار (مارس)  اتّسم بالليونة وعدم الحزم في مسألة وقف إطلاق النار على نحو لا يوحي للطبقة الحاكمة في إسرائيل بأي ضغوط مكلفة أو موجعة تخلق ضغوطا داخلية على حكومة نتنياهو.

ولا يعتبر الخلاف الحالي تناقضا بين الولايات المتحدة وإسرائيل، بل خلاف في وجهات النظر بين إدارة بايدن الديمقراطية ونتنياهو. ويعود غياب “الكيمياء” بين الرئيس الأميركي ورئيس الوزراء الإسرائيلي إلى الفترة التي كان فيها بايدن يشغل منصب نائب للرئيس السابق باراك أوباما. ولم يظهر أن الخلاف بين الإدارة الأميركية الديمقراطية الحالية وإسرائيل قد انسحب على موقف الحزب الجمهوري الذي لم يُظهر أي تحفّظ على سياسات نتنياهو ولم يؤيد انتقادات الإدارة الديمقراطية. ويظهر ذلك جليا في موقف معاكس من خلال إعلان رئيس مجلس النواب الأمريكي، الجمهوري مايك جونسون، في 21  أذار، أنه سيدعو نتنياهو لزيارة واشنطن لإلقاء كلمة أمام الكونغرس.

ميناء بايدن

رغم ضبابية  العلاقة بين واشنطن وتل أبيب ذهبت الإدارة الأميركية خطوات إضافية حين أعلن بايدن عن خطط لإقامة ميناء عائم لتسهيل وصول المساعدات الإنسانية إلى الغزيين. ولا نعرف حتى الآن مستقبل إقامة ميناء مقابل شواطئ غزّة. وما هو معلن أن يكون مؤقتاً، قد يؤسّس لتدخّل أميركي من نوع جديد داخل ملف الصراع الفلسطيني-الإسرائيلي كما داخل مشهد الشرق الأوسط برمته. وإذا ما كانت التفاصيل التقنية لبناء وعوم هذا الميناء تتدافع شحيحةً، فإن لكل جانب فنيّ في بناء الميناء خريطة طريق سياسية في الشكل والمضمون من تفاصيل الرسو والبناء انتهاء بآليات توزيع المساعدات الإنسانية الموعودة، مع ما يتطلّبه ذلك من انتشار عسكري بحريّ قد يحتاج إلى آخر بريّ وإلى مشهد دولي جديد يفرض سبلا وأنماطا وقواعد وشروطا لانتشال قطاع غزّة من محنته.

لا نعرف الشيء الكثير عما دفع الرئيس الأميركي جو بايدن إلى ارتكاب “محرّم” لم يُقترف منذ قيام دولة إسرائيل. ولطالما ردّد الرئيس الفلسطيني محمود عباس عبارة “إحمونا” أمام منبر الأمم المتحدة وطالب بوجود قوات دولية، أميركية بالذات، لتكون شاهدة على الأقل لما يعاني منه الفلسطينيون. غير أنه في عرف قادة إسرائيل، من ديفيد بن غوريون إلى بنيامين نتنياهو وما بينهما، لا مكان لأي عيون دولية، حتى لو كانت أميركية، على فضاء إسرائيل السياسي والأمني، دولة أو احتلالا.

لم تقبل إسرائيل بما درج العرب والفلسطينيون على المطالبة به: “مؤتمر دولي للسلام”. لم تقبل المبدأ وذهبت زورا إلى “مدريد” عام 1991. لم تحضر المؤتمر استجابة لنداء الدول بل مسايرة لرغبة واشنطن وحدها التي كانت تريد من خلال “مدريد” في 30 تشرين الأول من ذلك العام أن توحي للمنطقة بتحوّلات كبرى بعد أشهر على انتهاء حرب تحرير الكويت. وإذا لم تعترف إسرائيل إلا بالولايات المتحدة طرفا خارجيا راعيا لمسائل الصراع، فإنها حرصت في كل المناسبات على استبعاد فكرة أي وجود أميركي عسكري مباشر في ميادين ذلك الصراع.

جنود أميركيون إلى غزة

يعِدُ الأميركيون بإرسال ألف جندي إلى بحر غزّة للإشراف على مهمة الميناء الذي سيعوم في بحرها غير بعيد عن برّها. يعدون أيضا بألا يكون للولايات المتحدة جنودا على اليابسة. يفاجئ بايدن الكونغرس بقراره، وينتهز فرصة خطابه السنوي عن “حال الاتحاد” للإعلان عن تحوّل دراماتيكي يزجّ بالجيش الأميركي بالصراع الفلسطيني-الإسرائيلي. توافق إسرائيل على مضض وتحاول أن تدّعي استيعاب مزاج مستجدّ صادر عن واشنطن.

يتذكّر أصحاب الذاكرة في الولايات المتحدة أن قوات المارينز تدخّلت في عهد الرئيس الجمهوري رونالد ريغان لإخلاء قوات منظمة التحرير الفلسطينية من لبنان عام 1982 بعد الاجتياح الإسرائيلي صيف ذلك العام. يتذكرون أن تلك القوات لملمت خيبتها بعد هجمات شُنّت عام 1983 أطاحت بمقر المارينز وبالسفارة الأميركية في بيروت. حينها كان اختفى العامل الفلسطيني وأطلّ العامل الإيراني، فآثر ريغان حينها سحب قوات بلاده، وإدارة الظهر للبنان، وإعادة تسليمه لوصاية دمشق في عهد الرئيس السوري حافظ الأسد.

لاشيء يوحي في قرار بايدن أن واشنطن ستذهب بعيدا في التدخّل في غزّة. غير أن وجود الميناء الأميركي يعني أن بنى تحتية أميركية ستكسر احتكار القرار وتدلي بدلوها في تقرير مستقبل القطاع ومستقل الصراع ومآلات “اليوم التالي”. وإذا ما ضاعت العواصم، العربية والإقليمية والدولية في تعريف طبيعة ذلك “اليوم”، فالثابت أن معطى “الميناء” هو أول سمات إرادة أميركا في وضع أول لبنة لهيكل ما زال مجهول المعالم.

إتمام إنشاء الميناء الأميركي سيصادف في التوقيت الأمثل لإطلاق عملية دولية أممية لتوزيع المساعدات الإنسانية. في القاهرة تساءل الرئيس عبد الفتاح السيسي، بالمناسبة، عما كان يمنع تسهيل عبور المساعدات كمّا ونوعاً وتدفقاً من خلال معبر رفح المصري. وفي السؤال يطلّ استفسار بشأن العنوان السياسي لقرار أميركي باستحداث لوجستياتالكارثة الإنسانية في غزّة فرضت تحوّلا في موقف واشنطن بإشراف ألف جندي أميركي بحراً.

وفق المتحدث باسم البنتاغون فإن الرصيف  البحري “يسمح لسفن الشحن بنقل البضائع إلى سفن أصغر لنقل وتفريغ البضائع إلى جسر مؤقت لإيصال المساعدات الإنسانية إلى غزة”. ستعمل واشنطن مع دول أخرى لتحديد من سيساعد في تشغيل الجسر وتوزيع المساعدات إلى غزة وفي غزّة. وتم تحديد قبرص كواحدة من المواقع التي يمكن فيها تحميل المساعدات على السفن ثم نقلها إلى الرصيف العائم.

حدد البنتاغون بالفعل عناصر من مشاة لواء النقل السابع من قاعدة لانغلي يوستيس المشتركة، فيرجينيا.، للمساعدة في بناء الرصيف والجسر، والذي من المتوقع أن يبلغ طوله 1800 قدم ويتكون من مسارين. ولا يوجد تقدير للتكلفة متاح حتى الآن لهذا الجهد. وبمجرد البناء، وفق البنتاغون، يتوقع أن توفّر الشحنات عبر الرصيف أكثر من مليوني وجبة غذائية لمواطني غزة يوميا. تحدثت معلومات أخرى أن الميناء سيكون قادرا على استقبال سفن كبيرة بها طعام وماء ودواء وملاجئ مؤقتة.

تنقل الـ “فايننشال تايمز” عن أحد كبار المسؤولين الأوروبيين أن المساعدات سيتمّ تسليمها من قبرص إلى المنصة التي ستنشئها الولايات المتحدة، وأن واشنطن وضعت خطة بالتنسيق مع الاتحاد الأوروبي وقبرص والإمارات العربية المتحدة والأمم المتحدة التي ستتولى في نهاية المطاف إدارة إمدادات المساعدات إلى غزة. وتسرّ معلومات أن الفكرة والتمويل عربيين وأن البيت الأبيض تلقف الأمر على خلفية تصاعد الخلاف مع نتنياهو. استقبلت نائبة الرئيس كاميلا هاريس منافسه بيني غانتس  ثم أعلن بايدن بعد أيام تحت قبّة الكونغرس قرار الميناء. علّقت وكالة “بلومبيرغ” أن الخطوة تشير إلى “تحوّل في استراتيجية الولايات المتحدة”.

في هذا السياق تثير صحيفة “بوليتيكو” قضايا خبيثة. تقول إنه يجب حماية المساعدات بمجرد وصولها إلى الشاطئ. ويجب إدارة الحشود التي تصرخ للحصول على المساعدة. فمن سيتولى ذلك؟. ستروج أسئلة كثيرة وتُثار قضايا بشأن آليات عمل ميناء بايدن. ذهب الرئيس الأميركي إلى المخاطرة بانخراط مباشر يعيد الولايات المتحدة بقوة وربما بفائض قوة إلى الشرق الأوسط وإلى قلب ملف “قضية العرب” الأولى.

يأتي القرار منسجماً مع متطلّبات حملته الانتخابية التي تفقد زخم الجناح التقدمي في حزبه وتعاني من حردّ الصوت المسلم. يأتي أيضا متّسقا مع تحوّلات أخرى سجلتها إدارته منذ تفجّر حرب غزّة بالتبشير بدولة فلسطينية كمدخل بات شرطاً لاستمرار مسارات التطبيع العربي مع إسرائيل. بدا أن غزّة باتت مفترقا للرئاسة يتطلّب “صفقة” تاريخية يحتاج رسوها إلى ميناء، وفوق ذلك بدأت تظهر علامات عجلة لمماسة ضغوط لوقف الحرب.

اتصالات متوتّرة

نفذت إسرائيل غارة ضد القنصلية الإيرانية في دمشق في 1 نيسان (أبريل) الماضي. على خلفية هذا الحدث أجرى الرئيس الأميركي جو بايدن بعد أيام، وبالتحديد في 4 من ذلك الشهر، اتصالا بنتنياهو  هو الأول منذ آخر اتصال بينهما في 18 آذار(مارس) الماضي. ووفق الحدث والروزنامة، يمكن قراءة ما استجد على موقف إسرائيل وما تغيّر في مزاج نتنياهو وصحبه.

تقصّدت الإدارة في واشنطن صبّ كثير من الدراما على أنباء هذا الاتصال. في رواية، فإنّ التواصل كان متوتّرا. وهي رواية صارت ممّلة في وصف مصادر واشنطن لاتصالات الرجلين. وفي رواية ثانية، فإن جيل، زوجة بايدن، حثّت زوجها على ممارسة ضغوط إضافية على إسرائيل لوقف الحرب. نقلت صحيفة نيويورك تايمز عن بايدن أن زوجته قالت له “أوقفها يا جو.. أوقفها يا جو”. في الرواية الأولى يظهر بايدن غاضبا من إسرائيل يمارس تمرينا صعبا من الضغوط لوقف الكارثة الإنسانية. وفي نفس الرواية، أي رواية التوتر، يظهر نتنياهو عنيداً يواجه حتى الولايات المتحدة دفاعاً عن مصالح بلاده. هنا توفّر الرواية جوائز انتخابية ثمينة لبايدن في رئاسيات بلاده ولنتياهو في أي انتخابات تشريعية مسبقة قد تشهدها إسرائيل.

تبدو قصة الزوجة مفيدة أيضا في إطار تجميل صورة عائلة بايدن في تعاطيها مع أزمة إنسانية. تمنح أيضاً بعدا نسائيا يضاف إلى البعد الإنساني. فإذا ما يخاطب الحرص على حياة الغزييين (تحت عنوان خبيث مثل “تخفيف” عدد القتلى) الكتلة الناخبة الأميركية المسلمة ومجتمع الأقليات عامة إضافة إلى الجناح اليساري للحزب الديمقراطي، فإن التدخل “الحنون” للسيدة الأولى يخاطب الكتلة النسائية الناخبة برمتها في البلاد.

يقوم جانب أساسي من حراك بايدن الضاغط والغاضب على حسابات انتخابية. بات بحكم المؤكد أن غزّة تلعب دورا مباشرا في تقرير وجهة ولايات متأرجحة يؤثر صوت الناخب المسلم مباشرة بها. وإذا كان الناخب الغاضب لن يمنح صوته، على الأرجح، للمرشح الجمهوري دونالد ترامب، فإن مجرد الامتناع عن التصويت لبايدن سيشكل خسارة له يستفيد منها منافسه.

اتصل بايدن بنتياهو. وكان الاتصال عاصفا. قبل الاتصال بيومين، أي 2 نيسان (أبريل)، نظّم البيت الأبيض حفل إفطار ضم عدداً محدودا من القيادات الأميركية للجالية المسلمة. فجّرت المناسبة سابقةً بطعم الفضيحة بعد رفض عدد كبير من القيادات المسلمة حضور التقليد السنوي بسبب موقف بايدن من غزّة. وحتى هذا الحفل المتواضع تخلله توتر بسبب نفس الأجواء. تحدثت أنباء عن “انزعاج البيت الأبيض” بسبب “المقاطعة”، لكن السكرتيرة الصحفية للمكان قالت في اليوم التالي أن البيت الأبيض يحترم قرار بعض زعماء الجالية العربية الأمريكية، ويتفهم أن هذا “وقت مؤلم للغاية.

جردة تصادم بين واشنطن وتل أبيب

لم يتم الكشف عن المضمون الحقيقي للمحادثة الهاتفية. لكن أن تنتهي المحادثة بعد 30 دقيقة، فذلك يعني أنه كان هناك من يتحدث وهناك من ينصت. كانت أجواء المنطقة تتصاعد إثر تدافع المواقف الإيرانية بشأن حتمية الردّ على غارة القنصلية في دمشق واحتمالات حجمها. وقد تمّ تفعيل قنوات التواصل بين طهران وواشنطن منذ الساعات الأولى للحدث، سواء رسميا ومعلنا عن طريق السفارة السويسرية (راعية المصالح الأميركية) أم من خلال قنوات خلفية متعددة. بدا أن حدثا جللا ستشهده إسرائيل. حتى أن تقارير إسرائيل تحدّثت عن هلع شعبي وعن استعدادات إسرائيلية للاسوء وعن قراءة لأجهزة الأمن والعسكر الإسرائيلية تحذر من استحقاق كبير.

أبلغت واشنطن طهران أنها لم تكن تعرف بغارة دمشق، ثم قالت أنها عرفت بوجود مقاتلات إسرائيلية في الجو لكنها لم تكن تعرف أهدافها. تسرّب من مكالمة بايدن نتنياهو رفض واشنطن لمغامرات نتنياهو غير المحسوبة. حتى في إسرائيل صدرت أصوات إسرائيلية تنتقد ذلك التهوّر في دمشق. بدا أن نتنياهو فهم من لهجة بايدن ميل إلى الذهاب بعيدا وربما على نحو غير مسبوق في علاقة واشنطن بتل أبيب. استخدمت صحافة واشنطن صيغة مخفّفة تحدثت عن عزم الإدارة على “تقييم دعم الولايات المتحدة لإسرائيل”.

ليست المرة الأولى التي تتوتّر فيها علاقات الولايات المتحدة مع إسرائيل، ومع ذلك فإن الأمر لم يؤد أبدا إلى التخلي عما أسماه الرئيس جون كينيدي “العلاقة الخاصة”. توتّرت في السبعينيات مع الرئيس جيمي كارتر وبقي الرجل منتقدا لإسرائيل بعد مغادرته السلطة وحانقا على تجربته الصعبة معها. ضغط حينذاك على إسرائيل لإحلال السلام مع مصر وتقديم تنازلات للفلسطينيين. وافقت إسرائيل إثر تلك الضغوط على التوقيع على إطار اتفاق السلام كجزء من اتفاقات كامب ديفيد.

وخلال الانتفاضة الثانية، مارس الرئيس جورج دبليو بوش ضغوطا على إسرائيل لضبط النفس في الضفة الغربية المحتلة. اتهمه رئيس الوزراء أرييل شارون باسترضاء العرب. قال في تشرين الأول (اكتوبر) 2001 إن إسرائيل “لن تكون تشيكوسلوفاكيا”، مقارنا بشكل غير مباشر استسلام رئيس الوزراء البريطاني نيفيل تشامبرلين أمام هتلر في اتفاقية ميونيخ لعام 1938. غضبت واشنطن  فاعتذر شارون.

في عام 2002، طلب بوش من إسرائيل الانسحاب من الضفة الغربية وإنهاء عملية عسكرية “دون تأخير”، لكن الإسرائيليين لم يلتزموا أبدا. نقل لاحقا عن برنت سكوكروفت، مستشار الأمن القومي السابق، في تشرين الأول (أكتوبر) 2004، قوله إن شارون كان “يتلاعب ببوش بإصبعه الصغير”.

جرت أيضا مواجهة بين الرئيس باراك أوباما ونتنياهو بشأن الاتفاق النووي الإيراني. توجّه حينها نتنياهو إلى الكونغرس خطيبا في آذار (مارس) 2015 من وراء ظهر البيت الأبيض متحدّيا سيده تحت سقف الكابيتول. كان بايدن حينها نائبا

: حرب غزّة ستمنع الصوت المسلم عن دعم بايدن

للرئيس.

لا أحد كان يتوقّع أن يحقق بايدن اختراقا يربك “العلاقات الخاصة” وفق عقيدة جون كينيدي، لكن عدّة الرئيس الأميركي لممارسة الضغوط، بما في ذلك نداء جيل الزوجة ونانسي بيلوسي، رئيسة مجلس النواب الأميركي السابقة، تضاف إلى تهديدات معيّنة في ظل حدث غارة دمشق أجبر إسرائيل على نحو دراماتيكي على الموافقة على إعادة فتح معبر إيريز المؤدي إلى شمال قطاع غزة والاستخدام المؤقت لميناء أسدود في جنوب إسرائيل. قال بايدن “إسرائيل تنفذ ما طلبته”. قبل ذلك باسبوع، كانت إدارة الرئيس وافقت على شحنات أسلحة جديدة لإسرائيل بقيمة 2.5 مليار دولار، تتضمن مقاتلات F-35 وقنابل استراتيجية تهدد المنطقة بحروب أخرى.

لن يكون يسيرا فك شيفرة العلاقات بين الولايات المتحدة وإسرائيل. ولن يكون بسيطا الوقوع بسذاجة في شرك تصديق واقع الخلاف بين واشنطن وتل أبيب. لكن ينبغي الإقرار بواقع جديد غير مسبوق في علاقة الطرفين وحقيقة أن واشنطن تتدخل بشكل غير مسبوق في النظام السياسي الإسرائلي. بدا من توافد معارضي نتنياهو إلى واشنطن أن الولايات المتحدة تعمل جهودا لاستعادة علاقات “طبيعية” مع إسرائيل تحتاج إلى التخلّص من نتنياهو وأصحابه المتطرفين .