علم الجهل والجاهلية المعاصرة

الدكتور إبراهيم الحريري

لطالما تغنينا وطربنا وأطربنا أترابنا باننا خير أمة أخرجتْ للناس فلماذا بقينا أدنى الأمم في العلوم والتقنيات وفي الإدارة والسياسة وفي القوة والاقتصاد وفي كل ما تعج به الدنيا من أمور الإنسان والحياة؟

لماذا بقي التطور الحضاري المبدع في العصور الحديثة محصورا بمجتمعات الشمال بينما طوفان التخلف ما زال يغمر أكثر مجتمعات الجنوب؟

قد تخلصنا من حكم الجاهلية الأولى بما لها وما عليها ومما يذكره ابو حيان التوحيدي بكتابه الإمتاع والمؤانسة:

»للفرس السياسة والآداب والحدود والرسوم؛ وللروم الحكمة؛ وللهند الفكر والرؤية والخفة والسحر والأناة؛وللترك الشجاعة والإقدام؛ وللزنج الصبر والكد والفرح؛ وللعرب النجدة والقرى والوفاء والبلاء والجود والذمام والخطابة والبيان ثم إن هذه الفضائل المذكورة، في هذه الأمم المشهورة، ليست لكل واحد من أفرادها، بل هي الشائعة بينها؛ ثم في جملتها من هو عارٍ من جميعها، وموسوم بأضدادها، يعني أنه لا تخلو الفرس من جاهل بالسياسة، خالٍ من الأدب، داخلٍ في الرعاع والهمج؛ وكذلك العرب لا تخلو من جبانٍ جاهلٍ طياش بخيلٍ عيي وكذلك الهند والروم وغيرهم ا.

نستذكر قول الخليل بن أحمد الفراهيدي: »الرجال أربعة، رجل يدري ويدري أنه يدري فذلك عالم فاتبعوه، ورجل يدري ولا يدري أنه يدري فذلك نائم فأيقظوه، ورجل لا يدري ويدري انه لا يدري فذلك مسترشد فأرشدوه، ورجل لا يدري أنه لا يدري فذلك جاهل فارفضوه«.

و للأسف اصبحنا نرى اليوم الفئة القليلة )الفئة الجاهلة( بنظر ابي حيان التوحيدي والخليل هي الفئة الغالبة والطاغية على مشاهد الحياة اليومية في كل المجتمعات العالمية عموما ومجتمعات الجنوب ومنها العريية على وجه الخصوص والتي لا تعلم أنها لا تعلم.

و قد حاولت أن ابحث عن أصل هذه الظاهرة المثيرة للجدل ووجدت أن هذه الظاهرة ممنهجة ولها اسسها ونطرياتها ومعادلاتها المعقدة وهو ما اصبح يعرف بعلم الجهل  Agnotology  وكيف لعلم أن يجمع النقيضين العلم والجهل؟

ما هو علم الجهل؟

ويمكن ان اعرف علم الجهل: بانه العلم الذي يبحث في عدم المعرفة وانواعها وقوانينها.

ماهو تاريخ هذا العلم؟

اول ظهور لهذا المصطلح كان على يد البرفسور روبرت بروكتر، وهو مؤرخ العلوم في جامعة ستانفورد، وبدأ الخوض في ممارسات شركات التبغ، وكيف أنها نشرت البلبلة والتشويش عما إذا كان التدخين يسبب السرطان، وجد بروكتر أن شركات السجائر لا تريد أن يكتشف المستهلك أضرار منتجاتها، وأنها أنفقت المليارات للتعتيم على حقائق الآثار الصحية للتدخين ونشرت بيانات علمية غير دقيقة أو مضللة أو الحوار والمناقشة بالحقائق العلمية الدامغة.

ما هو مصدر المعرفة اليوم حسب بروكنر؟

إن معرفة الناس غالبا تأتي من الإيمان أو التقليد، أو الدعاية، أكثر من أي مصدر آخر

يحذر الأكاديمي ديفيد دانينغ من جامعة كورنيل: »إن الإنترنت يساعد على نشر الجهل قليل من الأذكياء يستفيدون من جميع المعلومات بمجرد الدخول إلى الإنترنت، إلا أن كثيرين يكونون ضحايا للتضليل والشعور الزائف بامتلاكهم الخبرة«.

ما هي اساليب وقنوات هذا العلم؟

ان هذا العلم يستخدم بكثرة بالسياسة والاقتصاد والتجارة ويستخدم ثلاث أعمدة رئيسية لنشره وهي:

إثارة الرعب والخوف: وليس هناك أنصع مثالا من الحكومات في تجسيد مبدأ إثارة الرعب لدى المواطنين لتمرير مصالحها وأجندتها ويتم ذلك تارة بصنع أعداء وهميين لتحشيد الرأي العام، وتارة بترهيب الجمهور بالقدر المظلم إذا لم يشاركوا السياسيين أو الاقتصاديين بخططهم ومعاركهم.

إثارة الشكوك: ويتم توظيفه غالبا في القطاع التجاري والاقتصادي من خلال الابحاث المدفوعة والممولة من الحكومات والشركات وذلك لتعزيز الشك بالحقائق وتحوبل الرأي العام بما يتناسب مع سياسات الحكومات والشركات وأجنداتها وأمثلتها كثيرة بأن المشروبات الغازية والشوكلاته )بحث روجيم الشوكلاته( ليست الا سببا واحد من أسباب السمنة إلى جانب أسباب كثيرة وأهمها عدم ممارسة الرياضة.

تعزيز الحيرة والضغط النفسي: ويتم ذلك بضخ كمية كبيرة من الخيارات والمعلومات المتضاربة ولأن كثرة المعلومات المتضاربة تصعّب من اتخاذ القرار المناسب، يدخل الفرد في دوّامة من الحيرة حتى يبدو تائها وجاهلا حول ما يجري ليقبل بما لا ينبغي القبول به، للخروج من الدوامة وهو المطلوب والمراد!

 ولا تتفاجأ بأنه هناك مؤسسات تابعة لحكومات دولٍ عُظْمَى ومنها حكومة الولايات المتحدة، وهو ما أصبح يطلق عليه شركات العلاقات العامة متخصصة في هندسة الجهل وصناعته وتغليفه بأرقى الأشكال، ثم تسويقه على نطاقٍ واسع لتعزيز الشعبوية المقيته…

من هم مستهلكو سلعة الجهل؟

هم ثلاث فئات في كل مجتمع وهم النخب والغلاة والموظفون:

النخب )التنكوقراط(: وتشكل نسبتهم 10% وينسون ويتناسون أن لا وجود للحقيقة بالعصر الحديث بل هي معادلات وأحتمالات وهم الذين يعملون في حكومات دول الجنوب وأغلبهم خريجو دول الشمال، فيقدمون النصح والمشورة لمتخذي القرار في دولهم. فيتم تدريب هؤلاء على تمرير الجهل وتبريره تحت مسمى النظرية والعلم والإمكانيات والموارد، ويأتي في مقدمتهم المعنيون بالشأن السياسي والاقتصادي، إذ تنحصر مهامهم في بث روح اليأس في نفس صاحب القرار من إمكانية الإصلاح… ويزينون أعمال السياسيين لان لهم مصلحة ببقاء الوضع على ما هو عليه يمتهنون الكذب والكذب والكذب على عامة الناس وترسيخ الأكاذيب في أذهان العامة على أنها حقائق لابد أن يدافعوا عنها…

الغلاة )القدريون(: وتشكل نسبتهم 20 % الذين يؤمنون بالقدرية، فهم مستسلمون للقدر الذي يظنوا أنه لا يتغير، وعلى عاتقهم تقع مسؤولية تجهيل وغسل أدمغة أكبر عدد ممكن من الناس الذين لديهم ميول دينية…

الموظفون: و تشكل نسبتهم 70 % وهم فقراء المجتمعات وجلهم من الأقليات الاجتماعية والدينية وعمال البلديات، وفقراء المناطق النائية وفقراء الريف، وعمال المزارع، وما شابه هذه التصنيفات ومعلمي المدارس وأساتذة الجامعات والجنود…

و ما هي أهم وسائل وأدوات هذه الصنعة؟

تعتبر وسائل التواصل الاجتماعي والانترنت من أهم أدوات صناعة الجهل بما تحويه من سطوة على متابعيها وتأثيرها بهم وبأراءهم وتوجهاتهم وبسبب شركات العلاقات العامة التي توظف هذه الوسائل لتحقيق توجهاتها وبرمجة جمهورها وغسل ادمغتهم والامثلة كثيرة سياسيا واقتصاديا وتجاريا.

و عندما أقرأ كثيرا في السياسات المحلية لدول الجنوب فالعجز عن حُسْن الأداء والخمول المهني هو المسيطر وانعدام الولاء للعمل هو السائد والرغبة في الإتقان غير موجودة والتهرب من المسؤولية ظاهرا للعيان والخوف من المبادرة يشل حركة القلة القليلة، ولا أجد تفسيرا مقنعا ولا منطقيا الا بأن هذا العلم هو السائد والمسيطر من الباب للمحراب على هذه الدول وحتى بث الخلاف بين الأشقاء يعتبر منتجا من منتجات و صناعة وتسويق الجهل و لا أستطيع أن ادحض مصداقية هذا العلم وهندسته وصناعته… وآثاره المدمرة…

لتحقيق الازدهار الثقافي والعلمي والفكري والسياسي والاجتماعي والاقتصادي والأدبي شرطً واحدً محوريً هو الانفتاح والتعددية والنقد ونقد النقد في عملية تكاملية لا تتوقف بامتزاج وتزاوج الافكار.

العدد 87 – تشرين الثاني 2018