تزاحمت المهرجانات اللبنانية وفاق المطربون عدد المطربات لكن الجديد نادر الوجود

بيروت جاد الحاج

في مطلع كل صيف تفرز مهرجانات لبنان الفنية مواليد جديدة على امتداد الخريطة، وعلى رغم ارتفاع اصوات النقاد والمحتجين والمعترضين، لا يبدو ان عدد المهرجانات اللبنانية آيل إلى التراجع. مشكلة تلك المهرجانات الاساسية هي التوقيت. وفي غياب التنسيق بينها كان لا بد من حصول مشاحنات وخلافات حول من يبدأ ماذا وأين. وهذه السنة انطلقت مهرجانات جونيه بالمغني كينجي جيراك ضمن الموسم الثالث لمسابقة صذا فويسش. وتزاحمت بطاقات جونيه مع جارتها زوق مكايل والفنانة الجزائرية سعاد ماسي التي استحوذت على انتباه وحضور جمهور واسع من عشاق الطرب والرومانسية. كما هرعت مهرجانات بعلبك لتنظيم حفل موسيقي سينمائي داخل معبد باخوس أحياه المؤلف الموسيقي خالد مزنر وتخللته عروض مقتطفة من فيلم نادين لبكي صكفر ناحومش الفائز بجائزة لجنة تحكيم مهرجان »كان« 2018.

زحلة، »عروس البقاع« تعاونت مع شركة آيس انترناشونال وأحيت حفلتين لكاظم الساهر وللثنائي غي مانوكيان والمصري آبو الذي حقق شهرة كبيرة من خلال اغنيته »تلات دقات« التي حصدت ملايين المشاهدين على مواقع التواصل الاجتماعي، أما غي مانوكيان فنظم ايضاً مهرجانات بيت مسك حيث قدم حفلة اضافية مع آبو، في المنطقة نفسها.

 واستضاف لبنان الشهيرة شاكيرا ضمن مهرجانات الارز الدولية، وحفلتها هذه مرتبطة بجولة غنائية عالمية عنوانها الدورادو. ماجدة الرومي اختتمت مهرجانات الارز بمشهدية فنية معظم نصوصها من كلمات الشاعر نزار فرنسيس وألحانها لجوزف خليفة ومارك ابو نعوم. ولم تتخلف بيروت عن إحياء »أعيادها« السنوية حيث التقى عشاق الاغنية العاطفية بمطربهم المفضل وائل كفوري تلته نانسي عجرم التي كانت اطلت في المهرجان نفسه عام 2013 ثم اطل الفنان ناصيف زيتون في اول مشاركة له ضمن »اعياد بيروت«. ولم تتأخر الضيفة الدائمة لهذا المهرجان إليسا بإطلاق بعض اغاني ألبومها الجديد. يسبق حفلها عازف البيانو ميشال فاضل الذي يجذب محبي موسيقى الجاز والموسيقى الايقاعية اللاتينية.

ولعل الظاهرة البارزة في مهرجانات 2018 تجاوز عدد الفنانين الذكور بالنسبة إلى الإناث. مثلاً افتتح وائل كفوري مهرجانات عمشيت حيث غص الفضاء بآلاف الزائرين أتو من مختلف المناطق على جناح البلبل الرومانسي. وقد افتتح كفوري حفلته بأغنية الراحل الكبير وديع الصافي »بلدي آه يا بلدي«. وعلى مدى ساعتين قدم كفوري مجموعات من أجمل وأشهر أغانيه: »ما وعدتك بنجوم الليل«، »لو حبنا غلطة«، »صرنا صلح«، »صار الحكي«، »شو رأيك«، ثم غنى »أمي نامت ع بكير« لفيروز و» المجد معمّرها« لوديع الصافي. كان وائل كفوري على سجيته يمازح الجمهور ويناوش الاضواء القوية التي أجبرته على خلع ربطة عنقه، بل وكاد أن يتبعها بالجاكيت إلا ان اقتراحه »يا الكل بيشلحوا يا ما حدا بيشلح« لم يلق تجاوباً لدى الجمهور!

واختتم شربل روحانا مهرجانات جبيل بحفل شارك فيه جيلبير رحباني، رفقا فارس وعيسى غندور إحياء لذكرى الراحل سيد درويش )1892-1923( وقال روحانا ان الموسيقى الشرقية في العالم العربي عرفت محطات تعتبر فاصلة لما كان قبلها وما جاء بعدها، وسيد درويش يجسد روح التجديد ونفس الاجيال المقبلة من الموسيقيين عبوراً بمن تأثروا فيه على الساحة المصرية ووصولاً إلى لبنان، خصوصاً مع زياد الرحباني.

أما زياد فكان النجم الملتبس لافتتاح مهرجانات بيت الدين بكوكتيل طويل وعريض ودسم من ماضي اعماله واعمال غيره في خليط مسرحي موسيقي مرشوش ببهبارات السخرية الزيادية المعروفة. شاركت الاوركسترا الوطنية اللبنانية بإحياء أمسية زياد الرحباني، وكان بين افرادها موسيقيون من مصر وسورية وأرمينيا وهولندا. وخيَّم مناخ التوقعات العالية على الجمهور بانتظار شيء جديد لم يعرفوه ولم يسمعوه من قبل، إلا أن ذلك لم يحصل، وسرت في الجمهور همسات استعادت بلبلة وقعت في افتتاح مهرجانات صيدا الدولية، عندما نشرت لزياد صورة مع رئيس الحكومة السابق فؤاد السنيورة وأخرى مع امين عام تيار المستقبل احمد الحريري، فكان رد فعل مواقع التواصل الاجتماعي تنديداً بانقلاب زياد الرحباني من فنان ملتزم إلى فنان مجامل، خصوصاً ان السنيورة طالما كان موضع تهكم وسخرية من قبل زياد الرحباني.

الذكر الثالث هو جورج خباز ومسرحيته »إلا إذا« في مهرجانات بعلبك. ولجورج خباز جمهور مخلص يتبعه حيثما حلّ، مع ان معظمهم شاهد سابقاً مسرحية »إلا إذا« على خشبة »شاتو تريانو« خصوصاً انها صمدت هناك لثمانية اشهر متعاقبة، الا انهم أتوا إلى بعلبك لرؤية المسرحية وقد تحولت إلى ملهاة موسيقية راقصة.

 تروي صالا اذاش قصة عمارة على خطوط التماس بين الشرق والغرب من بيروت اثناء الحرب الاهلية. يسكن تلك العمارة لبنانيون يمثلون مختلف الطوائف واللهجات والانتماءات والاحزاب ومعهم لاجئ سوري وعلماني لبناني. المبنى مهدد بالانهيار على رؤوسهم جميعاً ومع ذلك لا يجدون طريقة للتفاهم وصولاً إلى تسوية تنقذ بيوتهم وحياتهم. يحاولون ويتحاورون، وتتدخل صحافية آتية من خارج الحي لإيصال صوتهم إلى المسؤولين، لكن لا شيء يجدي معهم. التاريخ يعود بهم إلى الماضي ويحادثهم من وراء الكواليس بصوت أجش، فيؤنبهم، ويوبخهم وفي النهاية ينام كل واحد متشبثاً بقناعاته غير مدرك ان تناقضه مع الآخر يعني التهلكة للجميع.

في البترون وقف الذكر الرابع ابراهيم معلوف شاهراً بوقه في وجه البحر امام مرفأ الصيادين، وبدأ يعزف انغاماً أنشدت كلماتها أم كلثوم وأخرى فيروز، وغيرها من تأليفه بمشاركة العازفين ساري واياد خليفة اللذين دعاهما معلوف لمشاركته الامسية. أبدع معلوف كعادته وانطلاقاً من ميراثه الطويل بعد اكثر من مئة وخمسين حفلة حول العالم. أراد إرضاء الجمهور فدعاه إلى مواكبته مازجاً بين الشرق والغرب، وتجاوب الجمهور خصوصاً لأغاني »نحنا والقمر جيران« و»سألوني الناس« و»ليلة حب« و»ألف ليلة وليلة« مما أشعل المسرح هزجاً وتصفيقاً مرات عديدة. وينتمي ابراهيم معلوف إلى العائلة اللبنانية التي أفرزت اكبر عدد من الكتّاب والفنانين على مر التاريخ. والده نسيم معلوف عازف ترومبيت مثله، أمه ندى عازفة بيانو، عمه أمين عضو الاكاديمية الفرنسية ووالد الصحافي والشاعر رشدي معلوف، ناهيك بميراي معلوف الممثلة المسرحية العالمية، ومعالفة زحلة في لبنان والمهجر، فوزي وشفيق وغيرهما.

على صعيد الاضافة الفنية وبالنسبة إلى كل الحفلات، كبيرة وصغيرة، يصعب القول ان اضافة مميزة حصلت هذا العام. معظم ما رأيناه إعادات واستعادات لأعمال وأغاني وشخصيات مر بها الزمن وبعضها مر عليه. صحيح أن الناس التواقين إلى التسلية والترفيه والترويح عن النفس استطاعوا ان يحصلوا على بعض ذلك ولو بأسعار مرتفعة جداً. لكن ثمة خيانة واضحة للفكرة الاساسية التي قامت عليها أولى مهرجانات لبنان، اي مهرجانات بعلبك. ولعل أهم ما في تلك الفكرة أن يكون لبنان بلداً منتجاً فنياً على مستوى عالمي، وان يكون ايضاً حاضناً لأبرز الظواهر الابداعية على كل المستويات المشهدية في الزمن الراهن. والواقع ان مهرجانات ما قبل الحرب الاهلية سارت على هذه الخطى بمستويات مختلفة، إلا أن الهبوط الذي اصاب كل القيم الاجتماعية بعد الحرب، أتى بانحطاط فني وإبداعي أصاب المهرجانات بنكسة ما زالت ترزح تحتها حتى اليوم.

العدد 87 – تشرين الثاني 2018