على مهلٍ تتسلل أصابع الحزن لتأخذ من قلب الشاعر زادها، وتُضرم في عقله تشنجات القصيدة، فيُمسي على قلقٍ كأنّ الريح تحته كما قال المتنبي، ويُصبح تضترم في روحه أسئلة الوجود بين: “غير مُجد في ملّة واعتقادي / نوح باكٍ ولا ترنم شادٍ” كما قال المعري، وأمل طفيف يبثه إيليا ابو ماضي “ابتسم يكفي التجهم في السما..”
لقد قدّس العرب الحزن في بعض تصاريفهم، وأشبعوه وجدًا وزخرفة، وعبروا عنه بالكثير من المرادفات: “أسى، استياء، ألم، أكتئاب، تبرّم، جزع، جوى، حسرة، حرقة، شجى، شجن..غصة، كدر، كمد، وجد، وحشة، اكتراب، اغتمام، همّ…” إضافة إلى الكثير من المفردات التي تقيس شدّته وحدّة تأثيره في النفس. فمن شعر المراثي وبكائيات الخنساء، إلى الوقوف على أطلال الأندلس عند أبو البقاء الرندي: “لكل شيء إذا ما تمّ نقصان/ فلا يغرّ بطيب العيش إنسان”. وعن التصاق الحزن بالمرء وكأنه منه، قال المتنبي: ” كأن الحزن مشغوف بقلبي/ فساعة هجرها يجدّ الوصال”، وحتى قول نزار قباني” أن الإنسان بلا حزن ذكرى إنسان”. كان العرب في شعرهم القديم يبدأون بالوقوف على الأطلال ويبدون الحسرة والحنين اتجاه الأماكن التي سكنوها يوما، وأصبحت هجرا منسيا، ويعرجون إلى الحبيبة ووصف الفراق الذي لا بدّ منه في كل قصيد، حتى في الشعر الحديث بقيت الغصّة محركا لإبداعهم فيقول بدر شاكر السياب في وصف عيني حبيبته مجازا: ” وتغرقان في ضبابٍ من أسى شفيف/ كالبحر سرّح اليدين فوقه المساء..”. وقد يكون للوجد العراقي شجنه الخاص في الشعر العربي، وعلى رأس الشعراء أبيات مظفر النواب: ” مو حزن لكن حزين/ مثل صندوق العرس ينباع خردة عشق من تمضي السنين! “.
وحتى في الأغنية العربية للحزن نصيب يدل على جدية الشعور: “الحب الي بيضحك بيذل، الحب الي بيبكي بيضل”. وفي ما يؤثر كمعتقد اجتماعي، الضحك بلا سبب من قلّة الأدب. وإذا اجتمعت ثُلة في مجلس أُنس وكثُر الضحك والمُزاح بينهم، يشهقُ أحدهم تحسُبًا: “الله يسترنا من شر هالضحكة”. وكأن بهم قد أخذوا بالمعنى الظاهري للآية الكريمة: “إن الله لا يحب الفرحين” وتغافلوا عن أن المقصد بعيد عن كون الله جل جلاله لا يحب لعبده الفرح والسرور، بل المقصد بحسب التفاسير، أن الله ينهى عن الفرح المصحوب بالكبر والبغي على الناس والعدوان والبطر. فالله ذو الرحمة دعا عباده للفرح “فليفرحوا هو خيرُ مما يجمعون”.
وعّاظ الأحزان
في بعض شيمه يبدو الحزن وقارا، وهو حاجة للتكفير عن ذنب متوارث في بعض العقائد، ألم يقم المسيح عليه السلام بالتضحية وحمل صخرة العذاب لتخليص أتباعه من الخطيئة -بحسب الديانة المسيحية-، وماذا عن الجمعة الحزينة؟ ألم تغالي بعض العقائد في الحزن حيث أن التباكي وإظهار التفجع ثواب يؤجر عليه العبد الصالح.
ولكن ماذا لو كان الحزن وسيلة يفرضها الوعاظ على أتباعهم لحشوهم بمشاعر الذنب وقلة الثقة وربط كل حادثة وكل ابتلاء على اعتباره غضب من الله ذو الرحمة، ناسفين بذلك مسألة الأقدار! لينتصروا لحاكم متربص برعيته شرا واستعبادًا، وهنا تفوح رائحة المؤامرة بين الواعظ والحاكم. وكما قال الوردي في “وعاظ السلاطين”: “يأخذ بإعلان الويل والثبور على الناس (الواعظ) فيبكي ويستبكي، ويخرج الناس من عنده وهم واثقون بأن الله رضي عنهم وبنى لهم القصور الباذخة في الفردوس. ويأتي المترفون والحكام فيغدقون على هذا الواعظ المؤمن ما يجعله مثلهم مترفا سعيدا..”
وبذلك تعيش الشعوب محملة بمشاعر الذنب والحقد والتعصب يغشى عليهم الحزن ولا يقربون الفرح كي لا ينالهم غضب الإله.. ولكن ماذا لو انفجرت الشعوب؟ وكيف يمكن تفسير تراكمات الكبت ومظاهر الانحراف والفساد في أكثر المجتمعات كبتًا وحرمانا؟
الحزن ثقيل كمدحلة، كصخرة سيزيف في البحث عن معنى للحياة.
في تأويل الحزن..
إن النفس البشرية بطبعها تميل للفرح، ولالتزام مبدأ اللذة كما جاء عند عالم النفس سيجموند فرويد، ولكن معاكسة ظروف العالم الخارجي تحول دون إتمامها. يقول: “أغلب ما نشعر به من ألم هو ألم إدراكي، إدراك للضغط الذي تحدثه الغرائز الجائعة .. وإدراك شيء من العالم الخارجي قد يكون مصدر ألم حقيقي…” يتشابه ذلك مع القول المأثور: ذو العقل يشقى في النعيم بعقله وأخو الجهالة قي الشقاوة ينعمُ!
في داخل الإنسان نزعتان تتصارعان نزعة الحب والحياة ونزعة العدوان والموت، عقد الطفولة لها نصيب كبير من الحزن على الكِبر؟!، عنها يقول فرويد: “كل العقد النفسية مردها الطفولة حيث تكون النفس أشبه بالعجينة تتأثر بما يحيط بها من نزعات..” ، ” يثبت القلق في النفس من تصادم رغبتين متعارضتين رغبة الانتقام ورغبة الرضوخ والاستسلام.. تثبت العقدة من صدمة عاطفية ثم ينسى الإنسان سبب الصدمة ولكن العقدة تظل حية في نفسه”.
إجبار التكرار وهو مصطلح يقصد به “استعادة الماضي والعيش فيه كما لو كان جزءا من الحاضر..” أو استرجاع ما لا يتضمن لذة، كما يقول فرويد، ويلجأ الناس للإسقاط “كي يتخلص الأنا من المشاعر المؤلمة للنفس بنسبها إلى غيره من الناس”. أليس غريبا أننا في أحيان نؤدي دور الضحية وننسب أسباب شقائنا للآخر فنقول: “هو/ هي السبب” “الحق عليه”.. ونتغافل عن تحمل مسؤليتنا من القصة. ألسنا في مكمن ما ضحايا أنفسنا، وأن الآخر مجرد حجة – كما قيل-؟ فليكن الآخر جسرا كما قالت سوزان علوان: “كل آخر جسر إلى الذات”. بالطبع، هذا لا ينفي وجود الأشرار والأشخاص ذوو النوايا العدوانية والسامة والذين يسعون في إيذاء الغير. ولكننا هنا نتحدث عن الحزن كمسعى فردي؟ يفضّل البعض أن يبقون في منطقة الراحة، حيث لا يألفون فكرة التحرك خارج إطار أحزانهم، ويخضعون لمبدأ القصور الذاتي وهو الميل للبقاء على حالة واحدة، تقول الشاعرة سوزان علوان: “من الطابق الثالث/ للعتمة/ أطل على موتي/ أمي نجمة شاحبة/ أصدقائي مصابيح مكسورة/ تبكي على الجسور/ سأحبهم جميعا / لكن العتمة تغريني”. ولكن التغيير حق وحاجة إنسانية للخلاص ونقصد به وفق مبدأ “إبدأ بنفسك” ودع الخلق للخالق: ألم يقل الرومي: “فيما مضى كُنت أحاول أن أُغير العالم، أما الآن وقد لامستني الحكمة، فلا أحاول أن أُغير شيئا سوى نفسي.”
كلما ازداد الكبت كلما كان الانفجار مدويًا ومزعجًا، تلجأ النفس البشرية للحيل الدفاعية لتقاوم ما يفعله العقل المدرك بها، فإذ بها تظهر حقيقة الميول والدوافع من خلال الأحلام وفلتات اللسان، ويكون التداعي الحر وهو أسلوب اتبعه فرويد في التحليل النفسي لمرضاه، وهو ما نصطلح عليه في تداعي الأفكار وتداعي الأحوال حتى ينقلب حالنا من حال إلى حال.
إن النفس شديدة التعقيد وليس من السهل كشف ما تخبئه من صدمات ومكبوتات، وليت كان الأمر كما تقول سوزان علوان: “لو كانت روحها سجادة/ لنفضت عنها هذا الغبار/ لتركتها في الهواء قليلا/ تتنفس..”.
فالحزن حاجة فطرية كما هو الفرح تماما، أحيانا ينبت السؤال، لماذا تفتقد أعيادنا للبهجة؟ ربما لأننا نطلب من العيد أن يأتي عوض أن نذهب إليه، وربما لأننا شعوب تمتهن الحزن طريقة عيش، كي لا نُمني النفس بما تعجز عن تحقيقه؟! وفي يقظة ما يقول العلم أن العقل عضلة وهناك حديث عن البرمجة العصبية، بحيث يبدو أن الحزن ليس أرفع من الفرح وأن ما نسعى إليه يسعى إلينا. ولكن، ظروف العالم المحيط بنا تمنع أيّ حكمة عن أهمية الفرح وعن قوانين التحكم الذاتي من التسلل ها هنا وعرض مفاتنها وفرض معطياتها، ولا يدعو المقال قارئيه للتنكر لأحزانهم بل هو يسعى على لسان كاتبته لطرح المساواة بين ضفتي الشعور، وهي دعوة للتفكير بإمكانية التخلص من الكثير من موروثاتنا والتي منها الحزن! وعلى رأي الأغنية الشعبية: “أي دمعة حزن لا لا لا..”.