غرنيكا تعود الى الأذهان مع عودة القصف الجوي على اوكرانيا

مدريد ــ جاد الحاج

توفي بابلو بيكاسو في الثامن من نيسان الجاري عام 1973 عن 93 سنة تاركاً للعالم كنزاً ابداعياً قلّ  نظيره . فهو من تجرأ على  تغيير القواعد الجمالية سارية المفعول في الرسم والنحت منذ مئات السنين، حيث لم يعد الإتقان التصويري  مصدر التقييم الفني الأول، بل ما تنطق به اللوحة من  داخلها وما تطرحه من إشكاليات نفسية وجمالية بعيداً من الأسس التي وطّدها مبدعو عصر النهضة الأوروبية، وعلى رأسهم ليوناردو دافنتشي. ولعله من قبيل المصادفة البحت ان تكون جدارية غرنيكا آخر ابداعات بيكاسو.

 جدارية غرنيكا هي أشهر أعمال  بيكاسو وأكثرها فرادة. حظيت بالشهرة العالمية ولقيت الاستحسان والتقدير على نطاق واسع، كما ساهمت  في لفت انتباه العالم إلى الحرب الأهلية الإسبانية.

تنطوي غرنيكا على مزج وتآلف بين الدرامي والملحمي.  تخفيف الألوان فيها يكثف الطابع الدرامي  مُوَلِّدا نوعية توثيقية مميزة كما هي الحال مع   الصور الفوتوغرافية.   يبلغ ارتفاعها  3,5 أمتار، وعرضها 7,8 أمتار. وتمكن مشاهدتها   في متحف الملكة صوفيا في العاصمة الإسبانية مدريد.

تتفاوت تفسيرات غرنيكا كثيرا وتتناقض  و يمتد ذلك   ليطال العنصرين الطاغيين في الجدارية وهما  الثور والحصان.   تقول مؤرخة الفنون التشكيلية باتريسيا فايلنغ: “الثور والحصان حضوران متوقعان في الثقافة الإسبانية. وبيكاسو نفسه استخدمهما غير مرة.                  ان الثور في هذه اللوحة رمز الوحشية والظلمة. اما الحصان   فيمثل    اهالي    غرنيكا وضحاياها.

وغرنيكا بلدة في قضاء بسكاي من منطقة الباسك.  خلال الحرب الأهلية الإسبانية اعتبرت الحصن الشمالي لحركة المقاومة الجمهورية   مما أضاف أهمية إلى موقعها كهدف عسكري. من جهتها، كانت قوات الجمهوريين تتكون من فئات متنوعة غير متجانسة من الشيوعيين والاشتراكيين والفوضويين،   وتعتمد مقاربات وافكاراً متناهية التفاوت  لكنها في الواقع واجهت  القوميين في صف موحد. بدورهم، كان القوميون بقيادة الجنرال فرنسيسكو فرانكو منقسمين على فئات ولكن إلى حد أقل.  بل   كانوا متوافقين على العودة إلى إسبانيا الذهبية المرتكزة على القانون والنظام والقيم التقليدية للعائلة الكاثوليكية.

قرابة الرابعة والنصف من عصر يوم الاثنين، الواقع فيه 26 نيسان 1937، قامت الطائرات الحربية الألمانية التابعة لفرقة كوندور بقيادة العقيد فولفرام فون رِختوفِن بقصف بلدة غرنيكا لمدة ساعتين تقريبا. وكانت ألمانيا في ذلك الوقت بزعامة هتلر قد قررت تقديم الدعم المادي للقوميين الإسبان، بينما سعت سراً إلى استغلال الحرب لاختبار أسلحتها وتكتيكاتها الجديدة. ولاحقا بات القصف الجوي الكثيف خطوة أساسية حاسمة ضمن التكتيكات الخاصة بالحرب الخاطفة، تماماً كما حصل في الحرب الروسية الأوكرانية الأخيرة.

 في سنوات الحرب العالمية الثانية كان بابلو بيكاسو  يعيش في باريس زمن الاحتلال الألماني . ولم يكن قد زار إسبانيا، موطنه الأصلي ومسقط رأسه  على مدى سنوات عديدة عندما قصف الألمان بطائراتهم غرنيكا في العام 1937.   مع ذلك، فإن الهجوم الذي تسبب بمقتل النساء والأطفال بصورة رئيسية هز صلب الفنان وتغلغل في كيانه. ويروى ان سأله أحد الضباط الألمان عندما عاين  غرنيكا في شقته   “هل أنت من فعل  هذا؟” أجابه بيكاسو: “لا! بل أنتم الذين فعلتموه!” من هنا اكتشف النقاد وكاتبو سيرة بيكاسو أنه وضع جانباً مشروعاً آخر   للمشاركة في معرض الصيف الباريسي، ليعمل منذ بداية شهر أيار 1937 على  جدارية غرنيكا التي استوعبت مخيلته بعدما ادركته ابعاد المأساة التي احدثها الطيران الحربي           صحيح ان العرض الباريسي الأول لغرنيكا لم يكن لافتاً بقدر توقعات بيكاسو. لكنه لم ييأس  ولم يتوقف عن معالجة الجدارية حتى ادركت اواخرها وباتت حجر الزاوية في الرسم التشكيلي المستجد عابر المحيطات.

 في العام 1974  بادر الرسام والناشط السياسي المعارض للحرب، طوني شفرازي، إلى تشويه  جدارية غرنيكا إذ  رشها بطلاء أحمر  كبيان احتجاج. وكانت الجدارية معروضة في متحف نيويورك متروبوليتان  للفنون. نظف المختصون بحفظ المعروضات غرنيكا فورا من الدهان المرشوش وأودع شفرازي السجن لفترة وجيزة. لكن الحادثة دقت ناقوس الخطر في بال بيكاسوفقرر إبقاء غرنيكا في المتروبوليتان، الى ان تتحرر اسبانيا من فاشية فرانكو و تقوم فيها جمهورية ديمقراطية. ولم يستطع المفاوضون الإسبان   إعادة الجدارية آخر الأمر إلى بلادها إلا في العام 1981، أي بعد وفاة   بيكاسو والجنرال فرانكو..

خلال رسمه  غرنيكا ، سمح بيكاسو لأحد المصورين الفوتوغرافيين بمواكبة تطور اللوحة زمنيا. ويعتقد المؤرخون أن الصور الفوتوغرافية السوداء والبيضاء  ألهمت الفنان ان يراجع جدوى استهمال اوينقح نسخه   بل    ولم يكتفِ   باستعمال قلة الألوان للتعبير عن قسوة نتائج الحدث المأساوية بفعل القصف   طلب أيضا تزويده بطلاء المنازل المفتقر إلى اللمعان والمتميز بالحد الأدنى من البريق.  اللمسة النهائية الباهتة   إضافت إلى الظلال الرمادية والبيضاء والزرقاء السوداء مسحة الحزن العميقة كرست نبرة العمل الفني الجريء ، غير المصقول في مسارات عديدة بعد رحيل بيكاسو.

مع مرور الزمن وتكرار قصف الطائرات الحربية للمناطق المأهولة حول العالم تحولت جدارية بيكاسو الى رمز مناوئ للحروب وفظاعاتها، وبالطبع تعددت الدراسات النقدية لتفاصيل غرنيكا، وجرى تحليل  الدوافع والرموز، ومراجعة قول بيكاسو أنه لن يلجأ الى الرمزية في لوحاته المقبلة ، علماً ان المينوتور والهارلكوين عبرا لوحات سابقة له، ولكن ضمن حرارة  أقل  مما شهدناه في غرنيكا حيث   يبرز  المينوتور والهارلكوين، في اللوحة   . فالمينوتور الذي يرمز إلى القوة غير العقلانية يطل على الجانب الأيسر من الجدارية. ويذرف الهارلكوين، الذي يشكل عنصرا مختفيا جزئيا ومنحازا إلى يسار المركز أو الوسط ـ يذرف دمعة بشكل ماسة  … عموماً يرمز الهارلكوين تقليديا إلى الازدواجية. لكنه  في رموز بيكاسو   يعد رمزا سحريا له سطوته على الحياة والموت. ولعل الفنان أدخله   لإقامة توازن  معقول مع الوفيات التي صورها  في غرنيكا.

العدد 127 / نيسان 2022