غزة التي لا تعرف بطالة الحروب

                  ماذا يمكن أن يُكتب عن مأساة انسانية مروعة في قطاع غزة الذي يئن من ضربات لا تتوقف على تلك المنطقة الصغيرة والفقيرة ؟ حالة من التوحش الإسرائيلي التي لم تجد نظيرا لها في كل تاريخ الإنتقام وصراعات الدم ، لا يمكن وصف ما يحدث سوى بالدموع ، يموت الناس في بيوتهم التي تتساقط على رؤوسهم بلا ذنب أطفال يتم انتشالهم من تحت الركام نساء يحتضن أولادهم فيموتوا موتا جماعيا ورجال يبكون لا يعرفون أين يهربون وهم يتلمسون أسرهم مودعين لأن القتل يسير بسرعة أكثر من سرعة الصواريخ التي تحرث أرض غزة بلا توقف .

                يصطف العالم الذي صدع رأس الشعوب الفقيرة وهو يدربها على القيم الإنسانية والعدالة وحقوق المدنيين وكل الكلام الذي تمتلئ به الإتفاقيات الدولية متهما العالم الثالث بالتوحش ومقدما نفسه سيدا للقيم والأخلاق ….يسقط فجاة عند أول اختبار حين يصبح الصراع بين طرفين أحدهما يرعاه ويتبناه مهما ارتكب من جرائم والآخر طرف عربي أو فلسطيني هو مدان بكل تاريخه حتى لو كان تحت الإحتلال التي اقرت كل الشرعيات بحقه في رفض الإحتلال .

              يسكت الكلام عند رؤية تلك الإشلاء المتطايرة ويصاب الإنسان بسكتة التفكير من مشاهد لم يكن يتصورها في أسوأ كوابيسه كأن الجحيم  يقتحم كل المخيمات وكل المدن وكل الشوارع والحارات ويحرق البشر في أسوأ صورة ستظل عالقة في الذاكرة البشرية لعقود طويلة كيف يمكن أن تمسح كل الدموع التي انهمرت والدم الذي سال أنهارا بلا توقف والجثث المتفحمة والجثث التي لم يتمكن أقاربها من جمعها حين تحولت إلى شظايا فجمعوها في أكياس حزينة يا لهذا الحزن الطويل الذي لف هذه المنطقة .

               غزة التي لا تعرف بطالة الحروب على امتداد تاريخا تشاكس وتعاند قدرا أصر على ظلمها ، تمردت قاتلت بأسنانها ولحمها الحي في بقعة صغيرة لكن فائض الإرادة في تلك المنطقة أكبر من أن يرفع رايته البيضاء وظلت تعلن تمردها على استئناف التاريخ ومحكمته غير العادلة التي حكمت بطرد الفلسطينيين من أرضهم وترحيلهم لغزة لتصبح كتلة من اللاجئين لا خيار لهم إلا الإصرار على العودة لارضهم ولا تسال غزة عن الثمن .

            بيوت قطاع غزة لا تصلح للسكن فقد تم تدميرها عامدا متعمدا منذ أن تراءى مشروع التهجير كانت اسرائيل تدمر كل البنية التحتية والطرق وشبكات المياه والكهرباء وتمنع الغذاء والماء والدواء كل هذا ليس فقط عقابا لمنطقة ضبطتها متلبسة بالفشل والعجز والغطرسة بلا حدود كانت تدمر بهدف تحقيق حل دائم لصداع دائم بدأ منذ أن أقيمت اسرائيل ولا زال وصولا للسابع من أكتوبر ليعري اسرائيل من سطوتها وغطرستها ، كانت تقوم بإعدام أية امكانية للحياة في غزة متزامنا مع الدعوة لترحيل السكان جنوبا ثم جنوبا نحو سيناء وهكذا كانت السياسة ، ما لا ينفذ بقوة القنابل يتم تنفيذه بإنعدام القدرة على البقاء ليرحل وما بين الرحيل القسري والطوعي كان الموت ينتشر على الفضائيات وبالبث المباشر دون أن يحرك تلك الضمائر التي تتحرك أو تدعي حراستها للقيم الإنسانية .

            أناس يهربون على غير هدى  من موت محقق لموت محقق فقد أصبحت كل الشوارع لقوافل من اللاجئين تعيد للذاكرة مأساة اللجوء والهجرة تنتشر في الشوارع وساحات المستشفيات وباحات المدارس تبحث عن الماء التي لا تجدها والطعام الذي لم يعد بفعل منع ادخال الغذاء وعن ملابس فقد هربت من القصف لا تملك سوى ما تستر به جسدها وحين اكتشفت أنها بحاجة إلى تغيير تلك الملابس كان البيت الذي غادره قد تهدم وابتلع كل ما كان يحتفظ به من ملابس وذكريات .

            حتى كتابة هذا المقال كانت اسرائيل قد بدات بضرب أساسيات الحياة في منطقة شمال غزة فقد قصفت الخزان المياه الرئيسي في منطقة تل الزعتر الذي يغذي مخيم جباليا والمناطق حوله هذا بعد ضرب المخيم بقسوة شديدة وملاحقة الناس في مدارس الإيواء الثلاثة وكذلك ضربت المولد الرئيسي للمخبز الأكبر في مدينة غزة ” مخبز العائلات ” المجاور لمستشفى الشفاء الذي يغطي النازحين في المستشفى وجزء كبير في المدينة ما يعني أن اسرائيل تقوم بإعدام ممكنات الحياة في المنطقة الشمالية وهي المنطقة التي تريد ترحيل الناس منها نحو الجنوب ، فقد قسمت القطاع إلى قسمين الأول شمال وادي غزة وهي المنطقة المطلوب ترحيل الناس منها وجنوب الوادي المنطقة المراد تهجير الناس إليها في مخطط بات أبعد من حرب وصراع مسلح نحو تفريغ القطاع من السكان .

                  غزة هي القصة الكبرى لإسرائيل وصداعها المزمن حتى ما قبل أن تحتلها عام 67 فقد بدأت غزة في المقاومة مبكرا منذ خمسينات القرن الماضي بعمليات ضد اسرائيل وما أن احتلتها حتى استعرت مقاومة عنيفة استمرت بعنفها لسنوات ولكن لم تكن تلك كل الحكاية .

                قطاع غزة هو خزان اللاجئين الأكبر فقد هاجرت مدن وقرى الجنوب نحو القطاع وإذ بلغت حينها وتبلغ حاليا نسبة اللاجئين في القطاع حوالي ثلثي ساكنيه ، هؤلاء الذين تم طردهم وتجريد ممتلكاتهم عاشوا ظروفا في غاية البؤس ولم يكن أمامهم سوى خيار العودة من أجل حياة كريمة لتمتهن غزة صناعة الثورة والفصائل والكفاح فأخرجت حركة فتح وحركة حماس والجهاد الإسلامي والإنتفاضة الأولى والحروب محافظة على حالة اشتباك دائمة أبقت وهج القضية الفلسطينية وفي كل مرة تتعرض تلك القضية للإزاحة عن جدول الأعمال الدولي تعود غزة حاملة القضية على ظهرها لتضعها على الطاولة وبقوة تزيح كل ملفات الكون ..تلك هي غزة وهذا هو تاريخها الذي لا يكف عن المشاكسة وهي تعتبر أن القضية أمانة في عنقها أو أن لديها مسؤولية حصرية على القضية .

            ما تفعله اسرائيل يذهب أبعد كثيرا من ردة فعل أو صراع لحظي فهي تجد أن هناك فرصة لن تتكرر بهذا التعاطف الدولي لإقتلاع المشكلة من جذورها فالأمر لا يتعلق فقط بحركة حماس بقدر ما يتعلق بروح غزة لذا تحاول مسح غزة كلها وسط هذه المناخات التي وفرت لها ما يكفي من الغطاء الدولي وهي فرصة لن تتكرر وبتهجير السكان إلى سيناء تكون قد تخلصت نهائيا من أزمة مزمن لاحقتها لعقود وتكوت أيضا قد أسدلت الستار على القضية الفلسطينية بهذا الشكل الذي لا تدفع فيه اسرائيل أي ثمن .

              ضغوطات عسكرية هائلة وجهنم تنفتح من السماء وآلاف القذائف لم يسلم منها مربع سكاني واحد قلبت كل حجر وقصفت كل حبة رمل وبالتوازي اعدام للحياة وعلى الجانب الآخر ممارسة ضغوطات على مصر وتقديم اغراء قبول سكان غزة مقابل عشرين مليار دولار ثم رفع السقف لسداد كل ديون مصر والتي تبلغ 164 مليار دولار كما قال مصطفى بكري عضو مجلس النواب المصري وربما أن الولايات المتحدة واسرائيل ترفعان السعر أكثر المهم أن تنتهي قصة غزة مرة وللأبد وواضح أن اسرائيل تستميت لتنفيذ مشروع الترحيل فالفرصة لن تتكرر والعالم مهيأ لأي شيء سواء بموافقة الصمت أو بالدعم المباشر .

           زار وزير الخارجية الأميركية انتوني بلينكن المنطقة مطلع الشهر ليتمم سياسيا ما تقوم به اسرائيل ميدانيا أو لساعدها على حصاد ثمار الدم في الذي سال في غزة فإسرائيل التي تمارس حربها الإنتقامية لديها جواب واحد على كل الأسئلة وهو الدفع بالتخلص نهائيا من غزة جملة واحدة لكن الأميركي الذي يدرك صعوبة الإمر بات يبحث عن حلول وخاصة بعد رفض الفلسطينيين والصمود الذي اظهروه والرفض المصري والعربي فحين سأل الأميركي شريكه الإسرائيلي عن اليوم التالي للخروج من غزة كانت اجابة الإسرائيلي بأننا نفكر في الدخول ولا نفكر الآن في موضوع الخروج ما زاد قلق الأميركي .

                  عرض بلينكن رؤيته على عدة دول عربية وهي أن تتكفل مصر والأردن بحكم غزة وأن تمول دول الخليج والإتحاد الأوروبي والولايات المتحدة عملية الإعمار لكن الدول العربية رفضت بشدة بإعتبار أن الفلسطينيين في غزة ليسوا يتامى سياسيا ليبحث لهم عن أب ولهم سلطة مسؤولة عنهم وفقا للقانون الدولي وحين عاد بلينكن لتل أبيب لإبلاغهم بالامر ثارت ثائرتها فالخط الأحمر لديها هو عدم شمول قطاع غزة في غلاف السلطة لان هذا يفتح على سؤال السياسة وحل الدولتين وهو ما شكل حجر الزاوية في استراتيجيا اسرائيل لعقود طويلة تمثلت بفصل غزة عن الضفة ولأجل ذلك عززت الإنقسام الفلسطيني ووافقت على تحويل الأموال لحركة حماس ليستمر حكمها مقابل حكم فتح للضفة تلك الهندسة العابثة للمجتمع الفلسطيني هي ما دفعت اسرائيل ثمنها في السابع من أكتوبر الماضي أو ما أسماه نتنياهو ب ” اليوم الأسود ” أو كما قال غيره ” يوم نكبتنا ”  .

              بعدها بدات اسرائيل ضرب بمنطق الأرض المحروقة ، للناس والبنى التحتية والمخابز وخزانات المياه أي تجفيف منابع الحياة وممكناتها بالضرب برا وبحرا وجوا أي بالقوة من ناحية ومن ناحية اخرى بإعدام الحياة في تلك المنطقة أي ترانسفير جمع ما بين القسري والطوعي طبعا طوعي بسبب غياب المقومات وطوعي تحت ضرب القنابل …!.

              حرب طويلة وشديدة القسوة تجاوزت في يومياتها كل أخلاقيات الحروب ، سحق للإنسانية وآدميتها والأخطر أنها تحظى بغطاء دولي وبلا أي احتجاج من العالم الذي صاغ كل المبادئ الدولية وحماية المدنيين وحقوق الإنسان وأسس لها مؤسسات وتحدث كثيرا عن شرعيات لكنها رسبت في الإختبار، اختبار الإنسانية الدامي .

               لم تنته الحرب لا زالت تحصد أكثر مما تطلبت من الأرواح في منطقة متهالكة وفقيرة وبائسة تعاني كوارث ونقص في ممكنات الحياة بسبب الحصار المفروض منذ ستة عشر عاما أصلا ولكن ما كان ينقصها هو القصف والموت …لها الله …هكذا يقول الناجون أو بالإصح الذين لا زالوا على قيد الحياة حتى هذه اللحظة ولكنهم لا يعرفون مصيرهم بعد دقيقة هكذا هي الحياة شريكة الموت في غزة فقد انهار الحائط السميك بينهما لينتصر الموت على الحياة …هو قدر غزة لكنه لم يكن بهذه القسوة وبهذه الوحدة …لها الله .