لبنان الانتخابات النيابية…. خائن من يترّشح خائن من يصوّت (1من 2)

لا بلداً في العالم مثل لبنان، ولا نظام انتخابات نيابية مثل نظامه. نظام يُفرّق، يزرع الشقاق والنفاق، ويفرض على المواطن ارتكاب الخيانة، من حيث لا يدري، ويحول بينه وبين انتمائه إلى وطنه. ليس في هذا الكلام مبالغة، بل هو حقيقة ناصعة. منذ “الاستقلال” الموهوم، وبُنيان لبنان يتداعى عقداً بعد عقد، ويوما بعد يوم، وما بقاء نظامه حياً إلى الآن رغم هزاله، إلا لأن عُيوبه مغلفة بأكسية وأصباغ براقة، تنطلي حيلها على الناس، تجعلهم يعيدون انتخاب حكام هم سبب نكباتهم. وها هم اللبنانيون اليوم، بقبائلهم المختلفة، يعقدون الآمال على ثروة قد تأتي من قاع البحر وقد لا تأتي، وعلى حل سياسي خارجي يريحهم ولو إلى حين، خاضعون لنظام من الفروقات الدينية يوسع الهوّة بينهم، يختلفون على مسائل لا تُعد ولا تُحصى، وعلى أمور أتفه ما يكون، مثل توقيت الساعة! لم يهبط هذا النظام من السماء، ليقبل بالفطرة أو بالقناعة، كما الأديان التي يقبلها الناس بالفطرة أو بالقناعة، هو نظام من صنع البشر. لكن حتى الأديان نفسها مذ خرجت إلى الناس، كانت موضع رفض من قبل الكثيرين، ملحدين كانوا أم لا أدريين، فلاسفة أو شعراء أو علماء أو مؤرخين، فكيف إذا كان النظام سياسياً لا “سماويا”، كهذا النظام اللبناني، الذي أثبتت الأحداث والتجارب، أنه فاشل بكل المقاييس. لكن ما يؤسف له حقاً، أن الطبقة الحاكمة، “سيدة هذا النظام”، لا تزال تعيد انتاج نفسها بالزعماء ذاتهم، ومن يتفيؤون ظلهم، معولّين على طبقات من الشعب جاهلة، تقبلهم وتعيدهم إلى الحكم، وتصفق لهم وتفديهم بالروح والدم. حكام أغبياء، يظنون أنفسهم أذكياء وحكماء، في حين أن الموقع الوحيد الذي يليق بهم بأحكام المستقبل الآتي سيكون مزبلة التاريخ حتماً، لأن رهانهم في جميع الأحوال خاسر. تكفي أدلة على رعونتهم ورهانهم الخاسر، سيول الشتائم التي ما برحت تنهار عليهم من كل حدب وصوب، والسمعة السيئة المحلية والعربية والعالمية عن فسادهم، وأنهم أقل السياسيين ثقافة ومعرفة بأصول الحكم، وما حال لبنان اليوم، إلا الدليل القاطع على فشلهم، وعلى ما يعتري عقولهم من غباء، وقد حولوه إلى بلد مفلس مُهان، يستجدي القريب والبعيد، ويرضى بالوقوف ولو على قدم واحدة، بدلاً من قدمين.

الكلام عن مساوئ نظام الانتخابات النيابية في لبنان، يعني الكلام عن القيمين عليه، من رؤساء أحزاب ووزراء ونواب، ومن يشارك فيه من المواطنين، سواء بالترشح او بالانتخاب. هؤلاء متى ترشحوا أو صوتوا خانوا أنفسهم ووطنهم من حيث لا يدرون، وخانوا الغالبية من الشعب التي لم تصوّت، وترفض هذا النظام وأسياده. الذين لم يصوتوا هم العقلاء وهم من يستحقون وطنهم بجدارة، وأن تُقال فيهم كل كلمة عيناء، ولهم وحدهم حق التظلم من الوضع الذي وصلت إليه البلاد، والشكوى من غلاء المعيشة وانقطاع الماء والكهرباء، بخلاف آخرين باعوا ضمائرهم مقابل حفنة من الدولارات، او دفعتهم مشاعرهم الدينية وغرائزهم البدائية إلى أن يعيدوا الزعيم الفاسد والملتحقين بركبه إلى الحكم. هؤلاء شاركوا في جريمة خراب البلاد، ومنهم حتى الذين ترشحوا من “النواب التغييريين”، ومن صوّت لهم، على رغم نياتهم السليمة، لأن أي مقاربة من هذا النظام الطائفي البالي، سواء في الترشح او الانتخاب، معناها الوحيد، تزكية هذا النظام ودعمه.

النظام اللبناني أسوأ من نظام الحكم الديكتاتوري وأكثر تخلفاً. الديكتاتورية، كما الدولة الدينية، وجهها معروف، سلوكها معروف ونهج القيمين عليها معروف. نظام الحكم الديكتاتوري من صنع الديكتاتور نفسه، أو من صنع حزبه، وحين تقوم ثورة شعبية أو حراك شعبي يهتز النظام، وقد يسقط بقوة من خارج البلاد، كما حدث في ليبيا والعراق، أو بحراك داخلي، كما حدث في رومانيا وتونس. نظام معمر القذافي الديكتاتوري “القوي” في ليبيا دام 42 عاما، ونظام صدام حسين “القوي” في العراق دام 24 عاماً، في حين أن النظام اللبناني “الهزيل” ما زال قائماً منذ 80 عاماً، والسبب مكونات الخداع والمواربة الكامنة فيه. هو نظام “ديموقراطي” في الشكل، أما باطنه فقائم على الكذب والغش والنفاق؛ خلطة من سياسة ودين، شارك في صنعها منذ “الاستقلال” الموهوم إلى اليوم، رجال السياسة ورجال الدين، والزبانية والأجراء، وأصحاب المصالح، وارتضتها القبائل الدينية اللبنانية الغافلة عن مصالحها الحقيقية. قوة هذا النظام اللبناني الهزيل في آليات انتخاب نوابه، إذ يجعل من المواطن شريكاً في الجريمة، فيضطر بحكم النظام الطائفي، إلى أن ينتخب نائباً “مارونيا”، أو “شيعياً”، أو آخر “سنياً”، لا نواباً وطنيين، حاله كحال صائم ليس أمامه غير طبق من عدس، عليه أن يفطر عليه أو يموت من الجوع! هل علينا كلبنانيين أن ندفع أثماناً أكثر مما دفعنا حتى الآن، من حرب أهلية طاحنة قضت على أجمل ما كان في أرضنا المعطاء من خير وجمال، وحاضنة سياسية بشعة يتخرج فيها كل أربع سنوات، أسوا السياسيين في العالم، وتفرض على الناس العبودية الخضوع. أليست هذه خيانة وطنية يرتكبها الجميع، من يترشح ومن يصوّت؟ اعطي مثلا الشاعرة والكاتبة جمانة حداد، فقد أعلنت هذه الشابة الجريئة إلحادها على الملأ قبل نحو عشر سنوات، لكنها حين رشحت نفسها للنيابة في الانتخابات ما قبل الأخيرة، عن دائرة بيروت الأولى، اضطرت إلى أن تخوضها عن مقعد الأقليات، (الأقليات الدينية طبعاً)، كذلك النائبة العلمانية الجريئة حليمة قعقور، اضطرت هي الأخرى، إلى خوض الانتخابات عن المقعد “السني” في دائرة جبل لبنان الرابعة، والحال ذاتها مع النائبة العلمانية القديرة بولا يعقوبيان، التي ترشحت مرتين عن  “مقعد الأرمن الأرثوذكس “، في دائرة بيروت الأولى. أعرف السيدات الثلاث معرفة شخصية، وأعرف ما يتحلين به من ثقافة وذكاء وجرأة وقدرة على العطاء، لكن النظام القبلي أجبرهن على الخضوع، فكيف نتوقع من المواطن اللبناني أن يكون حراً ومتصالحاً مع نفسه، إذا كان النائب الذي يصوت له مقيدة يداه بسلاسل نظام متخلف، يفرض عليه أن يخرج من ذاته ويتخلى عن قناعاته؟! لهذا السبب اتصلت بالصديقتين، بولا يعقوبيان وحليمة قعقور قبل أيام من كتابتي هذا المقال ونصحتهما بالاستقالة، حباً بهما ولثقتي الكاملة بأن التغيير السريع المطلوب، لن يحصل داخل مجلس طوائف عقيم، لأن الزعماء الممسكين بمقاليد الحكم، سيبقون الأكثرية، ويجهضون أي محاولة يرونها في غير مصلحتهم، ومصالح التابعين لهم من النواب، وما هو مصالح هؤلاء جميعهم، غير هذا النظام البالي الذي أوصل اللبنانيين إلى حدود الفقر والجوع.

(التتمة في العدد المقبل)