ما العُمرُ إلا

سهير آل إبراهيم

تساءل احدهم ان كان العمر مجرد رقم. سؤال مختصر تثيره في الذهن أحيانا بعض اللحظات والمواقف، فيدعوني الى تصفح سنواتي الماضية، كمن يتصفح سجلا مركوناً على رفوف الذاكرة، فيحرك ما تراكم عليه من غبار الزمن، ويوقظ تفاصيلا ً استسلمت لسبات النسيان، لأعود بعد ذلك واتساءل من جديد؛ هل العمر حقا ليس سوى رقم؟

سنواتنا التي تنطوي تباعا وتتناقص باستمرار مع دوران عقارب الساعة، هل هي بالمحصلة مجرد رقم؟ تنساب أعمارنا بهدوء، كما تنساب حبات الرمل في الساعة الرملية، تنتقل باتجاه واحد من الجزء الممتليء في البداية، الى النصف الذي لا يصبح فارغا بمجرد وصول اول حبة رمل اليه. إلا إن العمر لا يمكن إعادته من جديد كما نفعل مع ساعة الرمل حين نقلبها فتعيد الحبيبات مسيرتها ودورتها من جديد.

العمر رقم يُسجل في الأوراق الرسمية، حيث يثبت تاريخ الميلاد، ومنه يتم تعداد سنوات تواجد الفرد في هذه الحياة. العمر رقمٌ ضروري نحتاجه في مجالات كثيرة من حياتنا العملية. ذلك الرقم يحدد الكثير من البدايات في حياة الانسان؛ كأول دخول للمدرسة أو بداية المسير على طريق الحياة العملية. العمر في الأوراق الرسمية رقم بالتأكيد، ولكن هل يمثل ذلك الرقم العمر الحقيقي الذي نشعر به؟!

في طفولتي كنت استعجل الزمن، كانت السنوات تبدو طويلة وبطيئة، وكنت أتمنى أن تسرع خطاها. كنت متلهفة للوصول الى سن الشباب، كي أتحرر من ملابس الاطفال، وأرتدي ما ترتديه النساء وأتزين مثلهن. وها انا قد ودعت سنوات الطفولة منذ زمن طويل، تلك الحقبة من عمري تبدو لي الآن وكأنها حلم بعيد يغفو بين طيات الذاكرة. رغم ذلك أشعر وكأن العقود التي أخذتني بعيدا عن طفولتي قد مرت كما تمر الريح سراعاً..أتساءل أحيانا من عجب: يا ترى أين ذهبت تلك السنين!

قد لا يكون احساس الانسان بالعمر متوازيا مع الرقم الذي يمثل عمره بشكل رسمي، كما قد لا يكون ذلك الإحساس ثابتا ً على الدوام، اذ تمر على الانسان ظروف تجعله يشعر بالكهولة رغم ان العمر في اوراقه الرسمية يشير الى انه في ذروة الصبا.

أستطيع القول ان العمر الذي اشعر به يختلف عن العمر الذي يحصيه عداد الوقت وهو يسير بسرعته الثابتة. تحدثت عن شعوري هذا ذات مرة الى جارتي، والتي كانت حينها على اعتاب التسعين من العمر، قلت لها أشعر أن روحي أصغر سناً من جسدي. أجابتني قائلة ان ذلك ما تشعر به ايضا. قالت انها تشعر وكأنها لا تزال في سن الخامسة والثلاثين، رغم مرور عقود عديدة منذ تجاوزها ذلك العمر، لكن مشاعر الروح وصباها ظلت عندها كما هي او لم تتغير كثيراً!

يبدو ان الزمن بالنسبة الى الروح يختلف عنه بالنسبة الى الجسد، ربما لأن روح الانسان نفحة من روح الخالق الأزلي الأبدي، فهي خارج مقاييس الزمن المعهودة لدينا. لا يذكرني بمرور الزمن سوى البياض الذي بدأ ينير سواد شعري، وهذه الخطوط على ملامحي، والتي تحكي حكاية رحلتي في هذه الحياة.

اجرى الباحثون في جامعة اكستر البريطانية دراسة حول مفهوم العمر عند كبار السن وتأثير ذلك عليهم بشكل عام. فقد طلبوا من مجموعة من الاشخاص تتراوح أعمارهم ما بين السادسة والستين سنة والثامنة والتسعين سنة، أن يصنفوا أنفسهم ضمن واحدة من فئتين؛ اما كبير وضعيف او قوي وبصحة جيدة. لوحظ من نتائج الدراسة ان من لهم نظرة سلبية حول التقدم في العمر، اي الذين يشعرون بكبر السن والضعف ليست لهم نشاطات اجتماعية تُذكر، على العكس تماما من الفئة الاخرى التي تضم ذوي النظرة الإيجابية للامر، الذين يشعرون بالقوة والصحة. استنتج اولئك الباحثون ان مفهوم الفرد حول التقدم في العمر يرسم بشكل ما حياته ومستقبله، اذ وصفوا رؤية الانسان لتقدمه في السن وكأنها نبوءة لحياته المستقبلية. أظهرت الدراسات ان اصحاب النظرة الإيجابية للتقدم في العمر ممن هم في متوسط العمر كانت أعمارهم اطول بمعدل سبع سنوات ونصف من أعمار اصحاب المنظور السلبي. كما وجد الباحثون علاقة وثيقة بين تفكير الشخص السلبي نحو التقدم في العمر والإصابة ببعض الأمراض المزمنة مثل الزهايمر وأمراض القلق والاكتئاب.

بينت دراسة اخرى ان احتمال شفاء الأفراد الذين يفكرون بالتقدم في العمر بطريقة إيجابية من اعاقة شديدة اكبر بنسبة ٪ من احتمال الشفاء لاولئك الذين يعتبرون التقدم في العمر أمرا سلبيا. التفكير بشكل إيجابي حول التقدم بالعمر يدفع الانسان لان يهتم بصحته الجسدية والنفسية، فتقل احتمالات الإصابة ببعض أمراض القلب التي يكون القلق والتوتر النفسي من العوامل المؤثرة فيها. كما انها تساعد الشخص على عدم فقدان الثقة بقدراته وقابلياته، فيستمر بممارسة النشاطات التي تعزز صحته الجسدية والنفسية.

أكدت الدراسات العديدة على قوة الرابطة بين ذهن الانسان وتفكيره وبين مستوى صحته الجسدية، اذ ان التفكير الإيجابي يدفع الانسان دوما الى السعي لتحقيق أهداف جديدة، حيث لا يضعف لديه الشعور بقيمة الحياة وأهمية دوره فيها.

رغم ان الزمن يمر على الجميع بوتيرة منتظمة، فتفاصيل الوقت لا تختلف من مكان لآخر، ولكننا نشعر بأن بعض اللحظات بطيئة وثقيلة، وبعضها الاخر تمر سراعا كلمح البصر، لحظات نتوق الى نهايتها واخرى نتمنى لو انها تتمدد وتستمر الى الأبد!

تقول الشاعرة العراقية لميعة عباس عمارة:

آه لو تُدّخر اللحظات الوردية

كالصورة والصوت بأشرطة التسجيل..

كم من اللحظات نتمنى ان تتمدد وتستمر الى الأبد.. ان تثب خارج عجلة الزمن فتبقى وتبقي معها مشاعرنا فيها وخلالها.. هل تلك اللحظات الوردية أرقام، مجرد أرقام؟ نعم هي أرقام بالمنظور الواقعي، فهي وحدات ضمن اجهزة قياس الزمن الجامدة، لكنها لحظات عامرة بأجمل المشاعر، والتي لا نحب ان نخضعها لاجهزة قياس، لاننا نكتفي بقلوبنا وارواحنا مقاييسا لها. قد تمر على الانسان لحظات يشعر انها تختصر العمر كله. كما قال الشاعر احمد شوقي:

ما العمر إلا ليلةٌ

كان الصباحَ لها جبينُه..

العمر رقم، إن لم يخش الانسان ولم يُحبط من تزايده، فسوف يبقى مجرد رقم لا اكثر.