رسالة إلى المسلمين العرب: لا خلافة ولا رجال دين ولا دولة دينية في القرآن 4 من 7

شباك مفتوح

هل تعرف أيها القارىء الكريم أن بعض الدارسين من يشك بوليم بشكسبير، ويعتبره شخصية خرافية، ويعتبر الأعمال الشعرية والمرسحية المنسوبة إليه، سرقة مفضوحة من مصادر لاتينية وجرمانية، ومن نتاج شعراء عاشوا في عصر الملكة اليصابات الأولى المهيب، وتهيبوا، وكتبوا بأسماء مستعارة؟ شكسبير »هذا العظيم«، كما جاء في الكتب، ولد في بلدة اسمها ستراتفورد في إنكلترا، وما نعرفه عنه غير مؤكد، حتى الصور الزيتية عنه غير موحدة، والصورة الشائعة »الثابتة« عنه ليست ثابتة. هذا عن شاعر تقول الكتب إنه عاش قبل 500 سنة، في بلد لا يهمل شيئا، بل يحفظه ويحافظ عليه، أتريد بعد ذلك أن تركن إلى روايات وضعت قبل ألف سنة وأكثر، في صحراء العرب، ومحيط صحراء العرب، ومعظمها، أو كلها، كُتب بطريق »العنعنة«، والخلاف حولها يهرق في هذه الايام أنهارا من الدم؟!

مهما يكن من أمر الأديان وتاريخ الأديان، وما يكتنفها من غموض وفروقات، المهم هو الجوهر، وهذا ماثل في القرآن والأناجيل، وباقي »الكتب المقدسة« خير تمثيل، وحين يصبح »المسلمون« مسلمين حقيقيين، لن يحتاجوا بعدها إلى فرض دينهم على الآخرين، ولن يحتاج مسلم مؤمن، إلى التخلي عن إيمانه ليدخل في المسيحية، أو يحتاج مسيحي مؤمن، إلى التخلي عن إيمانه ليدخل في الإسلام. أذكر في هذه المقام كلاما حدثني به صديق لي من رجال الأعمال المسيحيين المخلصين، مفاده أن أحد »المسلمين« جاءه مرة وقال له، بشيء من المحاباة والتزلف، إنه يفكر في هجر الإسلام، والدخول في المسيحية، فأجابه الصديق المجرب، العارف دخيلة محدثه: »خير لك أن تقابل ربك مسلما سوّيا، من أن تقابله مسيحيا منافقا«! أذكر في هذا المقام أيضاَ العظة العظيمة التي ألقاها الإمام موسى الصدر منتصف السبعينات، في كاتدرائية مار لويس اللاتينية للآباء الكبوشيين في بيروت، وقوله فيها: »كانت الأديان واحدة، حيث كانت في خدمة الهدف الواحد: »دعوة إلى الله وخدمة الإنسان، وهما وجهان لحقيقة واحدة. ثم اختلفت، عندما اتجهت إلى خدمة نفسها، ثم تعاظم اهتمامها بنفسها، حتى كادت أن تنسى الغاية، فتعاظم الخلاف واشتد، وازدادت محنة الإنسان وآلامه«.

مهما يكن، هناك أمر يجب أن يكون واضحا لدى العلمانيين، والملحدين والمشككين، أنه مهما اختلفت آراؤنا في »الكتب المقدسة«، وتباينت حول إنسان أو »نبي« أو »رب« ظهر في التاريخ اسمه »يسوع«، أو إنسان أو »نبي« اسمه محمد، ولد وعاش في بلاد العرب وتلقى الوحي من السماء، أرى التجديف على الكتب، والقول للناس في المجالس، وعلى صفحات الصحف، إن كتابكم سيىء هو عمل غير أخلاقي. الناس يختلفون بحسب خلفياتهم، وأي عالم أو مثقف، درس الفلسفة والعلوم، وأوصلته علومه وتأملاته إلى اللاأدرية أو الإلحاد، يختلف عن مواطن ولد في قرية نائية، ولم تسعفه الظروف ليدخل كلية أو جامعة، ليقرأ كتابا مثل »رأس المال« لكارل ماركس، وكتابا آخر مثل »أصل الأنواع« لتشارلز داروين، أو كتابا في الإلحاد مثل »لماذا لستٌ مسيحيا« لبرتراند راسل، بل اختلف إلى مدرسة ابتدائية، وعاش حياته يفك حروف القرآن، أو الإنجيل، أو التوراة، أو كتاب الحكمة، أوكتاب الصابئة »كنزاربا«.

المقصد من الكلام، أنه مهما فعلنا، كعلماء وأهل فكر ومعرفة، لن يكون بمقدورنا إخراج الآيات من وجدان الناس، والحكم الشيوعي الذي دام سبعين عاما خير دليل. آيات القرآن، وأقوال »المسيح« في الأناجيل، وأسفار التوراة، وأناشيد »داود النبي« وآيات »كتاب الحكمة« مغروزة في صدور البشر منذ مئات السنين. هي تراث البشرية، ومن الخير أن تبقى، شرط أن لا تؤثر في الجوهر، وتغدو عقيدة ذاتية جامدة، تهدد النسيج الاجتماعي والروحي أواصر التعارف بين الناس، وتتحول إلى عصبية هوجاء، ينشرها الغلاة في القرى والدساكر والأقاليم، كما النار في الهشيم.

لن ينفع التجديف على »الكتب المقدسة«، وسياسة تسفيه معتقدات الآخرين. كان جدي أميا، وكذلك كانت جدتي، كذلك كان أبي وكانت أمي، ولا أذكر أن »الله« غاب عن بيتنا يوما، بل بقي اسمه يتردد صبحا ومساءَ، فمن أنا القادم من الغرب العلماني لأكرز بينهم بفكر جديد، وأقول لهم إنكم على خطأ، وأن ما تؤمنون به خرافة لا تصمد بوجه العلم؟! لا أحد في العالم يحق له أن يصادر الحقيقة مهما كانت جلّية، وكما أن المعرفة حقيقة، كذلك هو الجهل، إنه قائم وظاهر أمام كل عين! لا يكفي على سبيل المثل، أن نلوم الدواعش ونحاربهم! هم مجرمون وسفاحون وقتلة بمقاييس العدل والرحمة، لكنهم، من وجهة نظر فلسفية واجتماعية، مساكين وأبرياء وضحايا، كما الضحايا الذين يموتون بنيرانهم وحرابهم. علينا أن نفهم الظروف التي تدفع داعشيا في مقتبل العمر، ليفجر نفسه في بيروت أو دمشق أو بغداد أو باريس. هو يبيد نفسه قبل أن يبيد الآخرين. نلومه بالطبع، لا نترحم عليه ونسجنه مدى الحياة إن بقي حيا، لكن هذا لا يكفي، وكما أنه لا يكفي أن ندين المحشش، من غير أن ندين تاجر الحشيشة، لا يكفي أن نلوم الداعشي، من غير أن نلوم الذين هيأوا الظروف التي جعلته داعشيا: أصحاب العصبيات الدينية المغايرة، سنية وشيعية، وأنظمة الدول التي تفيأت بظلها هذه العصبيات، والدول الاستعمارية، والعربية وغير العربية، التي تذكي نار الفتن، وتقدم المال والعتاد والأسلحة.

لو كانت الدول العربية مدنية، هل كنا شهدنا هذه المظاهر وهذه الآثام؟ هل كنا شهدنا هذه المؤسسات الدينية تتصارع باسم »الله«، وهذه الأنظمة العربية الإقطاعية العنصرية الفاسدة الذي تقسم الناس أثنيا، وتتعامل مع المواطنين على أسس دينية، لا نظير لها حتى في عقائد القرون الوسطى؟ على الأحرار العرب، من مسلمين ومسيحيين حقيقيين، ورجال الدين الأتقياء الورعين، والعلمانيين والمثقفين، ودعاة المجتمع المدني، أن لا يعولوا على أحد من أهل السياسة في بناء الدولة المدنية. في كتابه »روح القوانين« يضع مونتسكيو، أحد أكبر فلاسفة التنوير، وأكبر كاره للأصولية الدينية في تاريخ فرنسا، أسس الجمهورية، ويقول ما معناه إننا لا نستطيع أن نبني قبل أن نهدم، ولا أن نركّب قبل أن نفكّك، لذلك فإن هدم النظام الإقطاعي القائم، شرط أساسي لبناء الدولة المدنية، والتخلص من آفة »الإنفصام الخلقي والروحي والوطني« التي يعانيها المواطن منذ أن يولد إلى أن يموت. هذه الدولة لن تكون حلا لهذا الأوطان المعذبة بتاريخها وجغرافيته وحكامها فحسب، بل ستكون أيضا نبراسا تستنير به الشعوب المجاورة، وخشبة الخلاص الوحيدة في بحر هذا الشرق المتلاطمة أمواجه.

 لن يكون التدين حلا لمشاكل البشر، خصوصا حيث تتعدد الأديان والمذاهب، كما في الشرق عامة، وفي لبنان بنوع خاص. ما يجمع البشر، وما هو أدنى إلى »الله«، هو الدولة المدنية التي هي دولة التعارف، ودولة الإيمان أي »دولة الله«. هكذا سميتها في الرسالة التي وجهتها عبر صحيفة »النهار«، إلى السيد حسن نصر الله، وبوحي من شعور لا يعرف التدين، ولا يعتدّ بغير الإيمان طريقا، كتبت أيضاَ رسالة إلى »مسيحي« لبنان للعمل على إقامة دولة مدنية، كحل لا حل غيره لهذا الوطن الصغير المعقد والمعذّب. بوحي من هذا الشعور ذاته أيضا، أوجه هذه الرسالة لأقول إن لا تناقض بين الدولة المدنية والقرآن، وأن في ظلال هذه الدولة وحدها تنمو براعم إسلام صحيح، تصونه القوانين المدنية العامة، أي قوانين التعارف التي يوصي بها القرآن.

قد يكون من الحكمة أن أذكّركم أيها القراء الكرام، بمجتهد مجّدد، أحسبكم قرأتموه أو سمعتم به، هو الشيخ الإمام محمد عبده )توفي في العام 1905(، مفتي الديار المصرية، ورائد حركة الإصلاح الديني في مصر. أنقل إليكم كلاما قاله عند عودته إلى مصر، بعد رحلة طويلة إلى أوروبا: »ذهبت إلى الغرب فوجدت إسلاما ولم أجد مسلمين، وعدت إلى الشرق فوجدت مسلمين ولم أجد إسلاما«! قال الشيخ الإمام هذا الكلام بعدما وجد أن الإسلام الذي حلم به، لم يكن في مصر، ولا في أي دولة من دول العالم العربي، أو »الإسلامي«، بل في ظلال الدولة المدنية التي عاينها في أوروبا. لم يكتف الإمام العاقل الحكيم بذلك، ذهب إلى الأبعد، وانتقد الغلاة من الأزهريين وغير الأزهريين، وقال قولته الأخرى الشهيرة: »هو دين أردت إصلاحه، وأحاذر عليه من اصحاب العمائم«!