مقامات الخيبة) لدارين حوماني ندوبٌ على ورق)

لارا ملاك – بيروت

   تهدي دارين حوماني كتابها هذا إلى اللواتي يردّدن آلامهنّ اليوم وغدا وبعد غد، تواسي بحروفها المرأة الّتي يمتدّ عذابها امتداد الزمن.

تبدأ كتابها بقصيدة »إخوتي« بالحديث عن الاختيارات والاحتمالات المتاحة في الحياة، والاحتمال الأكثر خيبة وخسارة هو الحنين. المرأة الأربعينيّة في هذه القصيدة محرومةٌ من الحبّ أو خائفةٌ منه. البرد سيأتي إذا، والبرد هنا هو الموازي الأوّل للوجع، فما أقسى الألم الّذي تعلم بقدومه وتُجبَر على انتظاره. الفقدان عميقٌ يدخل أبعاد الزمان والمكان، الأوّل ينساب إلى صوتٍ خافتٍ كأنّه يهبط ليضمحلّ ويبهت لونه، والثاني يهجر الطفولة، ويبدو المعنى من حركة الزمان والمكان واحدا.

تحضر الأنا في هذا النصّ، ولكنّها غير منفصلةٍ عن الآخر، فالمعاناة جماعيّةٌ ولا يخفّف من حدّتها إلّا ذلك الدفء الّذي ينمو بين الإخوة. الخيبة في هذا النصّ خيبة الحركة، هي الخيبة من أن يسير بك الوقت ليغيّر أحوالك ومحيطك نحو الأسوأ، ولا تملك حيال ذلك سوى الاشتياق والحزن.

ويتأرجح نصّ »الصور« بين زمنين، فالصور كانت وستكون. وهي كما يظهر معناها، ما تبنيه الذاكرة وما يرسخ في الوعي من التجربة. والرعب الأوّل الّذي يقضّ مضجع الأنثى هنا هو العمر، فتقول في جزءٍ من نصّها :

»الأماكن ذاتها

أصيبت بالظلمة

الأخطاء المزمنة

ذريعة الرعب من العمر القادم«

 تخاف أن تدمن على الخطأ وأن تكبر قلقة مضطربة، فكيف سيكون المستقبل وهي غير قادرةٍ على المواجهة. المرأة هنا تعاني من عاطفتها الّتي تضعفها، ولذلك تقول:

»العاطفة كالبكتيريا تنتشر

لا شيء يوقفها«

والهدوء يعني بعدها الموت، الجسد يهدأ والصور تهدأ، أي تتوقّف الذاكرة عن الاكتمال. الحياة عرسٌ موسميٌّ مصابٌ بالعاطفة والضعف ومصيره الزوال.

والخيبة ذات دلالاتٍ مختلفةٍ أيضا، ونجدها مرّة تعني الحبّ. فالخيبة الكبرى الّتي قد تصيب المرأة العاشقة هي الرجل حين تستقبله بكلّ أنوثتها وبكلّ ارتجاف جسدها، لكنّه يمضي من دون أن ينظر إلى الوراء ليلقي نظرته الأخيرة إليها حتّى.

وتقول حين تحتدم مشاعرها وبجماليّة شعريّة رقيقة:

»أعطني قليلا منك..

بحاجةٍ أنا إلى قليلٍ من زمنٍ جميل..«

الحبيب كثيفٌ وكثير، ولذلك قلّةٌ قليلةٌ منه تكفي للإحساس بالزمن.

ويتسرّب هذا الحبّ إلى المشهد العام، ويلقي بظلاله وبمعناه على الأماكن. كلّ التفاصيل حاضرةٌ تهب المرأة انتظارا وجسدا، لو أتى الحبيب لكانا له، غير أنّه أبى الحضور فكانا لذلك التابوت. الحبّ إذا سبب حياة ودافعٌ أساسيٌّ لها، ولأنّه لا يكتمل بلا حبيب يبقى البحث عن الأنا ناقصا.

والموت خيبةٌ أخرى تطال النفوس وليس الأجساد. لا تخاف الشاعرة على جسدها أو على ما تريد بلوغه في هذه الحياة من ملذّاتٍ أو انتصارات، إنّما تخاف الصباح الّذي سيصير كلّ شيءٍ فيه هباء. يضنيها البحث عن هدف، تخاف الموت قبل أن تكتشف الهدف من العيش. وهذه السوداويّة في رؤية الحياة لم تأتِ من عبث، بل لها أسبابها، وأوّلها هذا الشرّ المنتشر وهذا الطمع والحُمق. أيّ تغييرٍ قد يحصل في هذه الأرض والناس غير جاهزين له؟ من المحزن أن تولد وتموت من دون أن تعرف الأرض أدنى تغيير.

أمّا الجسد، فهو سجن الروح، يعلق الإنسان داخله ليمضي مرارا وتكرارا في آلامه. والألم لا يأتي من الداخل بقدر ما يأتي من الخارج، من كلّ أصوات الحقد الّتي تخترق الأذن والنفس وتحدث فيهما كلّ هذا التشويه. لا بدّ من الانعزال عن ضجيج الخارج للتمكّن من العودة إلى عمق النفس بسكينة. هذا ما تحدثه الأزمات الاجتماعيّة العامّة في حياة الفرد، وفي رؤيته، فيصير مشوّش البصيرة كأنّه مسكونٌ بالضباب.

أمّا الوجوه في هذا الديوان، فهي طرحٌ وجوديٌّ مختلط الهويّات والملامح. وليست الهويّة بعيدة عمّا هو خفيٌّ مستتر في ثنايا الروح. عند الإشارة إلى الوجه يغيب الحديث عن العرق واللون والجنس وكلّ معايير التقسيم، فالملامح إنسانيّةٌ فقط. الحزن إذا هويّة، والحبّ والفرح والخيبة أيضا. وإذا دقّقنا أكثر في التعابير وجدنا الوجه مجالا معرفيّا يستحقّ التأمّل، هكذا تنظر إلى الآخر تراه وترى نفسك.

وللخطأ وجودٌ لافتٌ في الديوان، فتكثر التعابير المتمحورة حوله، تقول مثلا:

»أحوّلك إلى خطيئةٍ كبرى/

كان الخطأ أوّلا ثمّ توالت الأخطاء…/

ما أعظم خطئي«

الخطأ عظيمٌ عندها، لأنّه محاولة تصويب ومداواةٍ للندوب المتروكة على الجسد. ويصير الجسد هنا في سياق هذا المفهوم، ذاكرة الوجع.

وفي الذات بحثٌ عن كثافة التكوين. الأنفاس حركة إلهٍ في الأنا، والتجاعيد حركة موتٍ وزمنٍ والقلق ضبابٌ داخليّ.

والإله في الداخل يختلف عن إله الخارج، فالداخليّ ينصهر بذات الشاعرة حتّى ينساب في الأحشاء كمادّة، ويتحرّك كالأثير في فضاء الفكر، أمّا الخارجيّ فيتحالف مع الوطن ومع الحياة ليشكّلوا معا أبرز مسبّبات الخيبة.

كما يمرّ أطفالٌ في الصور الشعريّة بطريقةٍ سريعةٍ ومؤثّرة. لعلّ دورهم الإنباء بالاكتمال والقدرة على الخلق، فالخصوبة في زمن الخيبات والندوب والآلام قدرةٌ تُحسب للجسد. ولكن حتّى الولادة سرعان ما ينتهي وقتها عند انفصال المولود واستقلاله، ويمضي الجسد بعدها وحيدا لينسى ويُنسى، فتقول »سأكمل مكاني وحدي«.

والقضيّة في هذا الديوان قضيّة الأموات والأحياء، فيجب أن يبقى للشهداء صوتٌ يُسمع، ولأنّنا نمضي جسدا خلف جسد، لا بدّ أن يغنّي الميت كي ينتبه الحاضر الحيّ.

  هذه القصائد إحصاءٌ للكثير من الخيبات، إنّها أشكالٌ من خيالٍ ولغة تدوّن الواقع وتتفاعل معه بألمٍ ونقاء.

غلاف »مقامات الخيبة«