مهرجان الفجيرة الدولي للفنون

عبيدو باشا

لا يستغرب أحد صعود الخطاب الثقافي في الإمارات العربية المتحدة. بالشارقة: الهيئة العربية للمسرح ومهرجانها العربي السنوي. كل دورة ببلد عربي. بالشارقة : مهرجان الشارقة السنوي. ثمة مهرجانات أخرى. منظومة لا علاقة لها لا بالخطر ولا بالسوء. بالعكس. ذلك أن ثمة منظومة واضحة، لا تزعم أن حجمها أكبر من حجمها ولا يزعم أحد أن حجمها أصغر من حجمها. لأن التوظيفات الذاتية في المهرجانات المسرحية هذه وفي الهيئة العربية للمسرح ووزارة الثقافة فقرات تقع بقلب مفهوم التنمية الشاملة بالإمارات العربية المتحدة. تركيز الإنتباه على المونودراما مغامرة جريئة. إنخراط في منظومات العمل السائدة بالأمارات، إنخراط في منظومة العمل الخاصة بإمارة الفجيرة. إلاأن الفجيرة، في وسط مفاعيل التنمية الواضحة فيها، تدرك أنها تجسد مثالاً غير مشابه للحالات الأخرى. لم تندفع إلى الأمر بسبب ديموغرافي، على موقع الفجيرة الجمالي، الخرافي الجمال بأحيان. لم تندفع بسبب طفرة المونودراما بالعالم العربي. إندفعت في خطة تضمين هذا القصر الجديد الكثير من القيم الجديدة. المأسسة أولاً. ثم تفكيك التطرف من خلال الجمع بين التسامح والتقدم وفتح المستقبل على كل أنواع التعدد، على كوسموبوليتية باتت شبه مفقودة بالكثير من بلدان العالم العربي. التحديات لا المشكلات. الإستجابات لا التردد. الكوسموبوليتية من السعة، من الإنفتاح على التجارب بكل بقاع الأرض. هكذا تحالفت المونودرامات العالمية في مهرجان الفجيرة الدولي للفنون من دون مزاحمة. لكل مونودراما مساحتها أمام جمهور قصد الصالتين المخصصتين بالعروض المونودرامية. جمهور جاء من مناطق النزاع العنيف إلى واحة تمحورت حول مفاهيم التوظيف الذاتي، بعيداً من الإحتكارية، بعيداً من مفاهيم الضيق بالعالم. ما يقارب الستمئة ضيف من أرجاء

نقيب الفنانين العراقيين جبار جودي بالمهرجان مع الفنان العراقي جبار دمشقي والفنانة التونسية زهيرة بن عمار وقوفاً

العالم. فنون ومثقفون ومسرحيون، منظرون وكتاب ومخرجون وتقنيون وأصحاب مهن جديدة كالسينوغرافيا والدراماتورجيا، إجتمعوا لا على تقوض الأوضاع، إجتمعوا بالفجيرة/ المساحة المشتركة أكثر من أي وقت مضى.

لم يجر موضعة المونودرامات في أقسام التوصيات، حين تركت حرة أمام جمهور حر، برعاية مباشرة من صاحب السمو الشيخ حمد بن محمد الشرقي، عضو المجلس الأعلى، حاكم الفجيرة. وولي عهد الفجيرة سمو الشيخ محمد بن حمد الشرقي. ورئيس هيئة الفجيرة للثقافة والإعلام الشيخ الدكتور راشد بن حمد الشرقي. مونودرامات من تونس (حدود، تأليف وإخراج وليد الدغسني)،  »بوذا في العلية« من ليتوانيا، تأليف وإخراج وآداء بيروت مار، الملقن من الجزائر (تأليف أحمد الملا، إخراج وآداء بن بكريتي محمد)،  »سيتي مانا« من روسيا (تأليف ليديا كوبينا وفيرونيكا بيراشيفتش، آداء ليديا كوبينا، إخراج تانيا كاباروفا)،  »قهوة زعتر« من فلسطين المحتلة، تأليف وآداء حسام أبو عيشة، إخراج كامل الباشا)،  »العثور على جثة ميندادوا« من الفلبين (تأليف وآداء دانيال كانيل رامونال)،  »المفجر« من اليونان (تأليف وإخراج وآداء جوني كانتياني)،  »المملوك« من الإمارات العربية المتحدة (تأليف وإخراج عبدالله راشد، آداء عبدالله الخديم)،  »في المنزل مع وليم شكسبير من إنكلترا« (تأليف وإخراج وآداء بيب أوتون)،  »اللاملموس« من سيريلانكا (تأليف وإخراج سوجيوا باثينيسيكارا، آداء سوبودهي لاكمالي)،  »إمرأة في الظلام« من البحرين (تأليف إبراهيم بحر، إخراج حسين عبدالله، آداء سودابة خليفة)،  »أنياب« من كردستان / العراق(تأليف عبد الرزاق محمد، إخراج نجاة نجم، آداء ليلى فارس). مونودرامات طرحت مجموعة من التطورات الخطابية الجوهرية الإشكالية، سواء من إفتقارها إلى بعض عناصر المونودراما أو مواصلتها الترويج لهذا الفن، باحتكار الكلام عليه من خلال هيمنة الشكل وتكراره بدون إصلاحه، حتى في حالات الإبتعاد عن المونودراما إلى الستاند آب كوميدي أو التلاوة المسرحية أو البيان. تعزيز هذا الفن بالمساحة الديمقراطية المؤسسة له في إمارة الفجيرة، بعيداً من قصور بعض الواقفين وراء المونودراما هذه أو تلك. لم يدخل الجمهور لا بتوقعات عالية ولا بتوقعات منخفضة ركزت على التوترات المزعومة بين المسنين والشباب. كل قدم مونودراماه من وجهة نظر خاصة. مونودرامات تقف على ما تأسس بالدورات السابقة لمهرجان الفجيرة للمونودواما قبل أن يتحول إلى مهرجان الفجيرة العالمي للفنون. لا محاولة إنقلاب على المصوغ الأساسي إثر حضور 12 مونودراما قدمت على مدى ستة أيام. عدد ملحوظ، عدد يخترق النقاط الثابتة بنوع من المسح العام لمَّا آلت إليه أحوال المونودراما بالعالم العربي والعالم. خطابات على وعي شخصي، على وعي فردي، خطابات تنتج حضورها على أشكال تعبير متفاوتة من خلال الإنتماء والهويات. مظاهر الحضارات بالمونودرامات. لكل بلد مونودراماتها المؤسسة على قيم العقل والفهم، قيم لاسطحية، ولو وقعت بعض المونودرامات بالإنبهار بنفسها كما في  »سيتي مانا«. أو بالأشكال المهجنة كما  »اللاملموس«. الأجمل  »مقهى زعتر  »من فلسطين المحتلة« حيث تنعتق شخصية الراوي من الإستلاب بصالح الراوي الشعبي، ثم تقيم أنواع إختراقها، بكل ما تحمله الكلمة من مهام. إختراق لم يتوقف عند نقطة معينة، من المسح العام لأجزاء واسعة من الذاكرة / الزماكانية لفلسطين والفلسطينيين وسط الإنقضاض الإسرائيلي الهادف إلى تمكين ثقافات المستوطنين على قيم الثقافة الفلسطينية، ثقافة تظهر إلى العلن وهي تقاتل الثنائية الحديةوهي تدافع عن القيم الأصلية والأصيلة للفلسطينيين. حكايات من القدس وحيفا ويافا، تفرش التناقض بين السلوك السليم لأصحاب الأرض والسلوك المعيب للمحتل الإنكليزي والمحتل الصهيوني والعملاء. تروي المونودراما حقيقة ماحدث، حقيقة ما يحدث.لاأوهام ولا أفكار مشوهة.

لا أوهام ولا أفكار مشوهة كما هي الحال مع  »في المنزل مع شكسبير« حيث يحيي العمل سيرة شكسبير، لابوصفه من كتب أجمل الأعمال المسرحية والقصائد العظيمة، بوصفه رجلاً يحب ويضحك ويغني ويرقص ويكتب ليعيش. عمل يروي حياة شكسبير بحيوية ويحيي أشعاره وأعماله، بمنهج أليزابيتي، أو مجموعة من القيم الخاصة بمسرح شكسبير. قيم محافظة تقيم هندساتها بين المركز والهوامش بالكتابة. لعب بيب أوتون في قلب أسئلة الوعي بالفكر الشكسبيري، باقتباسات ومراجع واضحة من المسرح الشكسبيري. شمعدانان وطاولة في سينوغرافيا العرض، في حين يبقى الآداء، بعلاقته المباشرة بالجمهور، الأداة الفعلية القيمية والمعيارية بعيداً من المراوغة والمداهنة والمخادعة. آداء كلاسيكي، يختزن منظومة قيم كبرى، هي قيم مسرح شكسبير.

العرض الثالث المهم في المهرجان  »بوذا بالعلية«. مجموعة من الفتيات اليابانيات يبحرن من اليابان إلى سان فرانسيسكو للقاء أزواج المستقبل الأميركيين وعيش حيوات حالمة معهم. وحين تصل الفتيات يتفاجأن بأن الرجال مختلفون عن صور التراسل بينهن وبين الرجال. إنهم أكبر عمراً. هكذا يعشن كخادمات وعاملات منزليات في بيوت الأميركيين ويعيش أولادهم في عزلة واختلاف عن الآخرين، حتى تقع الغارات الأميركية على مرفأ بيرل هاربور. إذاك تعزل الحكومة الأميركية اليابانيين أو الأميركيين من أصول يابانية في معتقلات تم بناؤها خصيصاً بهم، حيث عانوا العزلة والإهانة والألم. مونودراما في ثلاثة مقاطع. موندراما في ثلاث نهايات. مونودراما لعبتها بيروت مار بآداء راقٍ قدم نماذج هامة من النماذج اليابانية في أميركا، مكثفة حضورهم وحضورهن في سيروراتهم اليومية في علائقها المباشرة وغير المباشرة بالأحداث والزمان والمكان. عرض قاسٍ، حارق، بقلب مفهوم التشكيل وبعيداً من التقليد. العبودية والإنتقاص في مقابل سيادة الآخر، بأجواء من النو والكابوكي والبوتو. الأخير فن آداء راقص بطيء، بطيء، بطيء.

لا خلاف على شخصية المهرجان، بعد أن أصبحت عروض المونودراما جزءاً من المهرجان، لا عروض المهرجان كله. الأهم إن لا استيراد لثقافات جديرة بشكل مهجن. وهذه واحدة من هموم رئيس المهرجان محمد سعيد الضنحاني ومحمد الأفخم مدير المهرجان، من لا يعملان على مفهوم المؤامرة، إلا أنهما حريصان على الدوام على عدم وجود  »إختراقات ثقافية« من مصدر وحيد يعمم ما أنتجته المدنية الأوروبية، على كل من يمتلك شخصية ثقافية ضعيفة. لم يهدأ الرجلان وهما يدفعان إلى إنعتاق العروض والأنشطة الأخرى من كل أمر ضيق، من كل أمر طارئ. بحيث وفرا أفضل الظروف للضيوف والعروض غير المتوقفة أمام نقطة أو مفصل أو محطة ثابتة. المصادر كثيرة، إلاأنها تصب في خدمة أهداف المهرجان وغاياته. نشر الإختلاف لا الخلاف، في هندسة واضحة المعالم، سعى أصحابها إلى طرح سؤال الذات العربية بوعي لا يتجنب درجات التشوه، لأنه سبق وتجنب درجات التشوه هذه.

عروض مونودراما إذن، بجانب عروض فنية أحياها فيصل الجاسم وعاصي الحلاني وتاميلا وهند البحرينية وديانا كرازون وستونة وسليمان القصار وعبد الله بالخير وشبرين عبد الوهاب وفطومة ومصطفى حجاج وهزاع الضنحاني ونانسي عجاج ووائل جسار ومحمد عبده. أحيا أصحاب الحفلات حفلاتهم على مسرح كورنيش الفجيرة البعيد مسافة ساعة ونصف الساعة عن دبا الفجيرة، حيث أقيمت عروض المونودراما على مسرحي القرية التراثية. تركيز الإنتباه ضروري على الأنشطة الأخرى، كمتحف عبد الحليم حافظ ومعرض الثياب الإماراتية إلى معرض للنحت والفنون التشكيلة. طريقة إعتزت بها إدارة المهرجان وضيوف المهرجان سواء بسواء. مواجهة تحديات السوق الجديدة بالفن، تم برقي فني أفضى إلى عروض حضرها الآلآف من المواطنين والضيوف، من جاءوا من لبنان وتونس والبحرين والسعودية والكويت وسلطنة عمان وليتوانيا وإنكلترا والعديد من الدول الأخرى. لا مواقف صعبة، لا مواقف بائسة على الأرض، لأن ثمة من إهتم بفاعليات المهرجان لحظة لحظة على الأرض، بالأخص إبراهيم عسيري وجمال آدم وعشرات الصبايا والشباب الإماراتي المعلقين على خدمة المهرجان والضيوف بسياسة إحتواء واضحة للهنات البسيطة العارضة. عرض الإفتتاح من التراب إلى السحاب، عرض مبهر، قام على صناعته أحد أبرز المسرحيين السوريين ماهر صليبي (إخراج وسينوغرافيا). عرض يقف أولاً أمام نشأة الإمارات، ثم مرحلة إزدهار الإقتصاد التجارة، ثم مرحلة الإعمار ودخول الإمارات نادي الفضاء العالمي.  »استطاع المهرجان أن يعزز حضور الفجيرة على خارطة العالم الثقافية والفنية«(محمد الضنحاني في كتيب المهرجان). لا مبالغة. ذلك أن رسالة المهرجان رسالتان. واحدة فنية والأخرى إنسانية.رسالتان لا يجري التفريق بينهما. هذا المهرجان مقام آخر.

العدد 103 – نيسان 2020