يا ليتنا

سهير آل إبراهيم

انسابَ صوت كوكب الشرق، السيدة أم كلثوم، الى أسماعنا من خلال جهاز حديث، وكأنه مركبة زمنية تنقل صوتا إنطلق قبل عشرات السنين فتوصله إلينا في زماننا هذا. كان مثل بساط سحري حلّق بي برفق عبر الأزمان الى حيث سمعت أول الصبا المطربة وهي تردد (يا ليتنا)، تكررها فتطيلها وتُنغمها وكأنها تنسجها بجوارحها؛

يااااا ليتنا..

من منا لم يقل، ولو لمرات قليلة، يا ليتني؟ أغلَبُ الظن إنّ الأماني رافقت الإنسان منذ أول وجوده على هذه البسيطة. قد تتعدد الأسباب وتتفاوت، تلك التي توقد في النفس جذوة التمني، لكني أفكر أحيانا أن الروح، وما تصبو، إليه اكبر من الجسد وقدراته المحدودة، فتستعين على ضيق الجسد بفسحة الأماني وعوالمها اللامحدودة.

بعض الأماني ينسجها خيال جامح، او رغبة متوقدة لتحقيق حلم لا مكان له خارج عوالم الخيال؛

يا ليتنا طائران نلهو في الروض في سَرحِه الخَصيب

و ليتنا زهرتان نهفو على شفا جدول لعوب..

هكذا كتب الشاعر احمد رامي، وهكذا رددت بعده أم كلثوم، وكلاهما يعرف ويدرك ان تلك الأماني ما هي الا ضرب من الخيال!

قدّم الإنسان عبر التاريخ النذور والقرابين أملا بتحقيق الأماني، وفي أحسن الأحوال بُذلت تلك النذور والقرابين تعبيرا عن الشكر والعرفان بعد أن تُجاب أماني أصحاب النذور وتتحقق. لا شك ان الانسان يدرك صعوبة تحقيق بعض الأماني، أو استحالة نيلها، وربما كان ذلك سببا في لجوئه الى عوالم الغيب والقوى التي يؤمن انها تسكن هذا الكون خارج نطاق حواسه وادراكه، فيتوسل اليها وينشد منها العون، وقد يعدها بما يعبر من خلاله من النذور والعطايا عن بهجته وامتنانه فيما لو استجابت له ووهبته ما يتمنى.

القيتُ قطعة نقد معدنية، صغيرة الحجم قليلة القيمة المادية، في بركة غطت أماني أناس آخرين وأحلامهم قعرها، فاستقرت على كومة من مثيلاتها من القطع النقدية؛ قطع حملت أماني أناس مروا من هناك ونقلتها الى قاع البركة تاركة في نفوسهم الأمل. ليت البركة او قطع النقود بداخلها تخبرنا كم من القلوب زارها الفرح بعد ان تعمدت أمانيها بمياه تلك البركة، وما تعداد خيبات الأمل.

يذكر علماء الأنثروبولوجيا ان الانسان استقر اول ما استقر عند مصادر المياه الصالحة للشرب، ومن هناك نشأت القرى والمدن وتوسعت. آمن الانسان قديما بقدسية الماء، اذ كانت بعض الأقوام تعتبر المياه العذبة التي تندفع من باطن الأرض على شكل عيون وينابيع هدية من الآلهة. كان الانسان يلقي الى تلك المياه هدايا رمزية للتعبير عن شكره للآلهة على هبة الحياة تلك، ثم تطور الأمر واصبحت تلك الهدايا قطع نقد صغيرة. هذا ما يحدثنا به فولكلور بعض الشعوب الأوروبية. كان الانسان احيانا يرسل طلبه او أمنيته وحاجته الى الاله الذي وهبهم الماء، فكان يهمس بأمانيه الى قطعة النقود التي يلقيها في البئر او النبع. وقد ذكر بليني الأصغر، في القرن الثاني للميلاد، القطع النقدية الملقاة الى المياه، حيث كتب يصف صفاء مياه بعض الينابيع انها  »شفافة نقية كالزجاج، نستطع ان نرى من خلالها احجاراً متلألئة في القعر وقطعاً نقدية«.

تعد برك أو آبار الأماني من المعالم السياحية في بعض المدن، منها مثلا بركة ترَي في روما، حيث يلقي فيها السُيّاحُ والعابرون ما يزيد عن الثلاثة آلاف من القطع النقدية كل يوم! تجمع الجهات المسؤولة في روما تلك النقود، والتي يقال ان قيمتها في السنة الواحدة تتجاوز المليون ونصفه عندما تحسب بالدولار الاميركي. توزع تلك الأموال على المحتاجين، وهكذا تكون أماني بعض الناس سببا لسد حاجة البعض الآخر، وربما تحقيقا لبعض أمنياتهم وان كانت صغيرة!

و مثل تلك البرك والآبار فإن أشجار الأماني حاضرة في فولكلور بعض الشعوب، حيث تكون لبعض الأشجار قيمة روحية او دينية في معتقداتهم. يتوجه المؤمنون الى تلك الأشجار فيربطوا على أغصانها شرائطاً ملونة أو قطعاً من القماش او الورق، تحمل أمانيهم وطلباتهم الى القوى الخفية المتصلة بها. ورغم اختلاف طقوس النذور وتقديم القرابين لتلك الأشجار من بلد لآخر ومن ثقافة لأخرى، الا ان دافع التوجه اليها يكاد يكون نفسه في كل مكان؛ وهو الرغبة الشديدة بتحقيق أمنية ما.

أشجار الأماني قديمة في التراث التركي، ولا تزال موجودة الى يومنا هذا حيث لا يصعب على السائح رؤيتها وتمييزها من خلال قطع القماش المربوطة على أغصانها. تتوجه بعض الفتيات التركيات بعمر الصبا الى أشجار الأماني فيعلقن أغطية رؤوسهن على أغصانها طلبا للزواج والعيش بهناء مع فارس الأحلام. بينما تمتلىء أغصان أشجار اخرى هناك بما يسمونه (نزر) وهي قطع زجاجية مستديرة تمثل عيونا مرسومة بالأزرق والأبيض والاسود، اغلب الظن لدرء عيون الحاسدين والحفظ من شرورها.

يكتب اليابانيون أمانيهم على قطع صغيرة من الورق الملون ويعلقونها على أغصان أشجار الخيزران. يتم ذلك عادة خلال مهرجان النجم (تَنَباتا)، حيث يمثل المهرجان احتفالا بالتقاء الإلهة التي ترعى النساجين ومزارع انتاج الحرير مع حبيبها إله الرعي والزراعة، بعد ان يكون درب التبانة قد فرقهما. وفقا للميثولوجيا اليابانية فإن ذلك اللقاء يتم مرة واحدة في السنة؛ في اليوم السابع من الشهر السابع من كل عام. يذكر أن مؤتمر قمة الدول الصناعية الثمانية تزامن عام  مع مهرجان تنباتا، وكانت اليابان هي الدولة المضيفة للمؤتمر، فطلب رئيس وزراء اليابان من قادة الدول المشاركين في المؤتمر المساهمة في المهرجان عن طريق كتابة امانيهم وتعليقها على شجرة خيزران خصصت لذلك الغرض. وبعد كتابة الأمنيات وتعليقها على الأغصان عاد القادة الى أرض الواقع لمناقشة أعمالهم واستئناف مساعيهم نحو جعل العالم مكاناً افضل، او هكذا يقال.

يعتقد بعض البريطانيين ان الشخص المريض اذا استطاع ان يدفع قطعة نقد ويثبتها في جذع شجرة فسوف يتماثل للشفاء، وإنْ أزال شخص قطعة نقد من جذع شجرة فذلك سوف يجلب له المرض. يعود ذلك المعتقد الى القرن الثامن عشر. وبالاضافة للأمراض والشفاء منها، او الإصابة بها، يعتقد البعض ان تثبيت قطعة النقد في جذع شجرة يجلب حسن الطالع، اما اذا استطاع الشخص دفع قطعة النقد بالكامل داخل الجذع فإن أمنيته ستكون مجابة!

يا ترى كيف سيكون شكل الفضاء من حولنا لو كانت أمنيات الناس واحلامهم منظورة ملموسة، مثل قطع النقد والشرائط الملونة، أو كالفراشات الملونة مثلا؟ ربما نتمكن حينها من معرفة ما يحل بالأماني التي تُترَك وحيدة بعد رحيل أصحابها، قبل ان يتسنى لها العودة اليهم حاملة معها الفرح. قد نستطيع حينها ان نرى إن كانت تظل تائهة في رحبة السماء أم تنطفىء مع إنطفاء الروح التي أوقدت جذوتها!