الإنتفاضة الإيرانية والطموح التوسعي

يظهر أن الإنتفاضة الإيرانية المعاصرة تختلف كثيرا عما سبقها من الإحتجاجات لدرجة تشبيهها بثورة 1979 التى أسقطت حكم الشاه محمد رضا بهلوي وبمشاركة مختلف التيارات القومية واليسارية والإسلامية وتصدّرها الخميني الذي كان يدعو في الخارج الى حكومة وطنية بعيدة عن الدين ورجاله وهو محاط بالليبراليين مثل “أبو الحسن بني صدر” و”صادق قطب زادة” اللذين يجيبان الصحفيين في فرنسا

وبعودة الخميني الى طهران وتأسيسه حكومة وطنية برئاسة “مهدي بازركان” في 5 شباط 1979، وذهابه الى الحوزة الدينية في قم داعياً رجال الدين بالإبتعاد عن الحكم، ثم عودته طهران بإسقاط الحكومة واتهامها كما اتهم لاحقا الحكومة المنتخبة برئاسة “أبي الحسن بني صدر” الفائز بنسبة 79% من المنتخبين في 4 فبراير 1980 ليهرب بعدها “بني صدر” بزي النساء الى باريس، فيبدأ الخميني حكما ثيوقراطيا شموليا وتصفية التيارات غير الإسلامية بل حتى الإسلامية غير المؤمنة بولاية الفقيه ومنهم المرجع الديني محمد كاظم شريعتمداري المنقذ له من الإعدام سابقا، وتأسيس “المحاكم الثورية” برئاسة صادق خلخالي و”محاكم رجال الدين” فيخلع عمائم من يخالف ولاية الفقيه. ومن هنا انطلقت الإحتجاجات والمظاهرات

كانت احتجاجات 1989 إثر عزل “حسين علي منتظري” من خلافة المرشد إلى الإقامة الجبرية، وقمعت بعنف وكانت السجون والإعدامات تمهيدا لخلافة “علي خامنئي” مرشدا ثانيا للنظام رغم عدم أهليته الدينية لكن رفسنجاني رفعه في “مجلس خبراء القيادة” من رئاسة الجمهورية داعيا الى استفتاء شعبي خلال عام لم يتحقق لحد الآن

وبعد عشر سنوات في 1999 قامت احتجاجات ما يسمّى “الإصلاحيون” نتيجة إغلاق صحفهم مثل “سلام” ستة أيام في طهران ومدن محدودة لتقمع بالعنف

وبعد عشر سنوات، في عام 2009 كانت احتجاجات “الإنتفاضة الخضراء” بسبب اتهام السلطات بتزوير الإنتخابات لصالح “محمود أحمدي نزاد” المقرّب من المرشد، بينما أعلنت وزارة الداخلية أولاً فوز “مير حسين موسوي”. وقال المرشد خامنئي: (إذا لم تنته الفتنة بأسرع وقت ممكن، فأنتم المسؤولون عن العواقب والفوضى”. فتحرك الحرس الثوري والبسيج للقمع المفرط واعتقال الآلاف وقتل ألف وخمسمائة ووضع موسوي وكروبي تحت الإقامة الجبرية إلى يومنا. ولم تشترك فيها القوميات كالتركية والعربية والكردية والبلوشية

وبسبب ارتفاع سعر البنزين وغلاء الأسعار، إنطلقت احتجاجات مشهد في ديسمبر 2017 الى ثلاثين مدينة ومنع الانترنيت وقمعت بعنف مفرط واعتقل الآلاف

ثم كانت احتجاجات نوفمبر 2019 نتيجة ارتفاع البنزين 300% وغلاء الأسعار الفاحش للانطلاق من الأحواز والمدن العربية وتحولت الشعارات الى سياسية لاسيما رفض التدخلات الخارجية بشعار: “لا سوريا لا لبنان  روحي فداء لإيران”. وعوملت بعنف غير مسبوق وكانت “مجزرة معشور” والإعتقالات والضحايا الكثيرة

ثم جاءت كورونا وكانت احتجاجات يناير 2020 بطهران على إسقاط الحرس الثوري لطائرة أوكرانية ذهب أفرادها جميعا ضحايا

ثم احتجاجات الأحواز وغيرها في 2021 لعمال النفط تارة ونقص المياه وعدم صلاحيتها تارة أخرى علما أن الأحواز تشكل 88% من إنتاج النفط و 90% من إنتاج الغاز و 75% من إنتاج الكهرباء فضلا عن الزراعة والثروة الحيوانية والإحتياطي الضخم لكنها الأكثر فقرا وحرمانا كالأكراد والبلوش وأمثالها من القوميات المضطهدة

وفي مايو 2022 أدى سقوط أهمّ مبنى في عبادان يرمز له كأعظم إنجاز لتكريم أصحابه من المهمين في النظام، لكشف مقدار الفساد الحاكم

أما أهمها جميعا فهي الإنتفاضة المعاصرة المتوقّعة لتراكم ظلم 43 عاما، فقد كانت شرارتها من “مهسا أميني” البنت الكردية التي جاءت من “سقز” بكردستان الى طهران فأوقفتها “شرطة الآداب” بحجة الخلل في حجابها رغم لباسها العباءة السوداء التي تغطي جميع جسمها، لكن ظهور شعيرات من رأسها دفع “شرطة الآداب” لضربها بالأيادي والهراوات واعتقالها بعنف الى السيارة الخاصة مع بنات أخريات شهدْنَ على ضربها طوال الطريق الى مكان الإحتجاز ثم مستشقى “كسرى” التي توفيت فيه بسبب الضرب على رأسها كما قال الطبيب المختص. تجمع الناس محتجون في المستشفى بطهران لتنتقل الى مظاهرات عارمة في كردستان بتشييعها ودفنها مع شعارات عالية. حاولت السلطات منع المراسيم وترضية أهلها لكنهم رفضوا إلا محاكمة المسؤولين. الجريمة وقعت في طهران وأمام الكاميرا والفيديوهات لتحريك ظلم المرأة في 43 عاما وشعار “المرأة الحياة الحرية” ليقود الجيل الجديد لاسيما النساء في الجامعات والمعاهد والمدارس إنتفاضة مختلفة بزخمها وعنفوانها وقوتها لكسر حاجز الخوف وحاجز “المقدس” المخيم 43 عاما وشعارات سياسية بسقف عال “الموت للدكتاتور” حتى تعمّ جميع محافظات إيران الواحدة والثلاثين بكل قومياتهم ومذاهبهم وخلفياتهم موحدين الشعار والهدف والتحاق مختلف النقابات والطبقات والأحياء لشهرين كاملين بلا ملل ولا ضجر وتنوع الأساليب الإحتجاجية فتتقهقر القوى الأمنية لأول مرة ولا تستطيع المواجهة ولا النوم أياما وفترات

جاءت الإنتفاضة المعاصرة في أضعف مرحلة يعانيها النظام سياسيا واجتماعيا واقتصاديا، فالمرشد مريض بالسرطان وغيره وقد ألغى الكثير من مقابلاته ولا ينام في بيته، ويريد استخلاف نجله الصغير “مجتبى” المكروه شعبيا بسبب قمعه المعارضين والاحتجاجات السابقة، وشعار المنتفضين: “مجتبى تموت ولن تنال الولاية” ، وتنحية ما سمي ب “الإصلاحيين” حتى “فائزة هاشمي رفسنجاني” إتهمت المرشد بقتل والدها، ولازال خاتمي وموسوي وكروبي في الإقامة الجبرية، والخلافات بين الحرس القديم والحرس الجديد المتصارعين حول الثراء والسلطة، استخبارات الحرس الثوري وباقي الإستخبارات، الجيش من جهة والحرس والبسيج من جهة أخرى، واغتيالات وسجون وهروب للخارج، ومقتل رموزهم مثل قاسم سليماني، وحسين همداني، ومحسن فخري زادة، وحسن صياد خدائي، وعلي إسماعيل زادة، وأيوب انتظاري، وتنحية أهم الشخصيات مثل “حسين طائب” رئيس استخبارات الحرس الثوري، و”إبراهيم جباري” رئيس فيلق “ولي الأمر” في حماية المرشد، وهما القريبان جدا من “مجتبى خامنئي” النجل الأصغر للمرشد المقيم بطهران، ليحلّ مكانهما “محمد كاظمي” و “حسن مشروعي فر” المحسوبان على “أصغر حجازي” المستشار العسكري للمرشد والقريب من نجل المرشد الأكبر”مصطفى خامنئي” المقيم في قم.  وأما الإقتصاد ففي أسوأ حالاته والعملة في أدنى مستوياتها والتضخم في أعلى مستوياته والفقر والبطالة حدث ولا حرج

لم يتحدث المرشد 17 يوما من الإنتفاضة متوهما نهايتها، ثم خطب متهما الخارج أمريكا وإسرائيل والخليج بتحريكها، وأسماهم رئيسي بالذباب، وقامت الأجهزة الأمنية بالعنف المفرط والرصاص الحي والقناصة من أعلى البنايات وجرائم مروعة لاسيما في بلوشستان وكردستان والأحواز بل طهران واصفهان وتبريز وشيراز ومشهد وغيرها، بل قصفوا كردستان العراق ومناورات مع آذربيجان، واصطنعوا مسرحية سجن “إيفين” سئ الصيت ذي التاريخ الإجرامي بقتل المعارضين لاسيما مجزرة 1988، وأخرجوا البلطجية من السجن الى وسط المظاهرات للقتل وادعاء عدم السلمية، ومسرحية تفجير مرقد بشيراز وربطه بداعش، ودعوة الميليشيات العراقية واللبنانية والأفغانية لقمع الإنتفاضة، واستعمال سيارات الإسعاف للاختطاف، ومراقبة الصيدليات لاختطاف الجرحى، ومحاكمات واعدامات، واختطافات واعتقالات لما يزيد على ثلاثين ألفا، لكن عزيمة الشباب والجامعات كانت أعظم وتحالف الشعب لإصدار بيانات  600 أستاذ جامعي، 680محامي ورجل قانون، 300 صحفي، 600 كاتب ومترجم، 400 شاعر وفنان، وتحرك خارجي لأكثر من 200 مدينة حول العالم و 124 من حائزى جائزة نوبل للسلام، 2300شخصية علمية وأكاديمية أمريكية، ووزراء خارجية أوربا ودول حول العالم ونساء أعلام من الفكر والثقافة والفن والتميز بقص شعورهن فضلا عن تقارير حقوق الإنسان والمرأة والطفل ومراسلين بلا حدود ومؤسسات كثيرة حول العالم مع الشعب ورفضا للقمع والعنف والقتل للمتظاهرين

كما خرجت أصوات من الداخل لرفض العنف وتحكيم العقل والحوار مثل “هادي خامنئي” أخو المرشد، و “حسن الخميني” حفيد المرشد المؤسس، و “علي لاريجاني” رئيس البرلمان السابق، و “محمد جواد ظريف” وزير الخارجية السابق، و “علي مطهري” نائب رئيس البرلمان السابق ونجل مفكر الثورة “مرتضى مطهري”، و “فائزة هاشمي” التي اعتقلت مع والدتها الى سجن إيفين، و “حسين نوري همداني” من مراجع قم الكبار، و “محمد الصدر” من “مجلس تشخيص مصلحة النظام” لكنها لم تصمد أمام المتشددين

وأما الطموح التوسعي فقد كان مشروعا توسعيا خطيرا بدأ بتصدير الثورة وتأسيس خلايا “حزب الله” وميليشياتها في مختلف الدول ومحاولة “نشر التشيع” و “الخطة الخمسينية” ومشروع “أم القرى” وغيرها. فقد أعلن الخميني تصدير ثورته للهيمنة على دولنا العربية والإسلامية فتحالفت معه قوى منها شيعية كمرجعيات فى العراق ولبنان والخليج العربي، وسنية كالإخوان المسلمين، وقوميون كالنظامين السوري والليبي اللذين وقفا معه ضد العراق في الحرب 8 سنوات، وأحزاب وشخصيات يسارية وقومية وليبرالية لازالوا يحجون الى طهران ويتزعمون مؤتمراتهم في ايران والخارج

يفتخر المسؤولون الإيرانيون بهيمنتهم على عواصم عربية كالعراق ودمشق وبيروت وصنعاء، ظهرت آثار المشروع الإيراني في تدمير العراق على مختلف الأصعدة حتى بات عالميا من أسوأ الدول بسبب الأحزاب والميليشيات التابعة له مثل حزب الدعوة والمجلس الأعلى وميليشيات بدر وكلهم قاتلوا مع إيران ضد العراق أيام الحرب العراقية – الإيرانية وكذلك سيطرة ميليشيات حزب الله وعصائب أهل الحق والنجباء وسرايا الخراساني وحركة جند الإمام وكتائب أبي الفضل العباس وغيرها، ولبنان بعد هيمنة ميليشيات حزب الله التي قاتلت حركة أمل وجردتها من سلاحها لتكون الوحيدة حاملة السلاح متحكمة قى الدولة وقراراتها لكي تصبح لبنان مفلسة منهارة.  وسوريا التى كانت ساحة لجريمة العصر في قتل وتشريد الملايين بتحالف النظامين السوري والإيراني وتكوين الحسينيات ونشر ثقافة الكراهية. واليمن الذي كان سعيدا فدعموا الحوثيين بعد تحويلهم من مذهبهم “الزيدي” المسالم الى “التشيع الفارسي” وثقافة الكراهية والعدوان والإنتقام لينتشر الفقر والمرض والبؤس فيرجع اليمن قرونا الى الوراء. والمملكة العربية السعودية التي جاءتها التفجيرات والأسلحة حتى موسم الحج، والمسيرات وخلايا حزب الله لضرب آرامكو والمطارات، والنظام الإيراني يطرح “مشروع أم القرى” لمؤلفه “محمد جواد لاريجاني” الذي يتبناه المرشد ووزارة الخارجية في تحويل مركز العالم الإسلامي من مكة المعظمة الى قم ليكون المرشد ولي أمر مسلمي العالم. والكويت التى عانت من التفجيرات منذ أيام أبو مهدي المهندس وآخرها “خلية العبدلي” وأسلحتهم الهائلة. والإمارات حيث لازالت الجزر العربية الثلاث طنب الكبرى وطنب الصغرى وأبو موسى محتلة يقيم الحرس الثوري مناوراته تهديدا واستفزازا. والأردن لازال يحارب المخدرات القادمة إليه منهم وأتباعهم فضلا عن رغبة النظام الإيراني في استثمار المراقد الدينية مثل جعفر الطيار. وأما المغرب العربي فقد عانى من نشر ثقافة الكراهية والحسينيات حتى طرد السلك الدبلوماسي الإيراني. وأما البحرين فمحاولاته لقلب الحكم من خلال الأسلحة وخلاياه وممثلية ولاية الفقيه معروف للجميع. ومصر التى زارها أحمدي نزاد مع علي الكوراني أيام محمد مرسي لتكوين الحسينيات ونشر التشيع الفارسي…

تحتاج الإنتفاضة الإيرانية الى عوامل لتحقيق أهدافها

أولا إلتحاق الأكثرية الصامتة من الشعب بالإنتفاضة

ثانيا إنضمام التجار والبازارات لاسيما البازار الكبير بطهران واصفهان وتبريز وباقي المدن الى اعتصامات كبيرة خصوصا بعد هيمنة الحرس الثوري على التجارة الأكبر مثل خاتم الأنبياء

ثالثا تبلور قيادات واضحة تتمكن من القيادة والتحريك نحو اهدافها

رابعا الإعتصامات الكبرى للعمال لاسيما النفط والغاز والبتروكيمياوات وغيرها

خامسا إنحياز الجيش والقوى الوطنية بالإنتفاضة

سادسا انحياز الغرب والعالم الحر من النظام الى الشعب خصوصا بعد اكتشاف جرائمه  الكثيرة ومنها محكومية “أسد الله أسدي” في محكمة بلجيكا و”حميد نوري” في محكمة السويد

وصدق الشابي بقوله

إذا الشعب يوماً أراد الحياة  فلابدّ أن يستجيب القدر

_

كاتب عراقي مؤلف كتب عديدة منها:”إيران من الداخل” و “الإمبراطورية الفارسية صعود وسقوط” و “التشيع العربي والتشيع الفارسي” و “إيران دراسة في العمق” و “التنوير ةالإصلاح الإجتماعي بين علي الوردي في العراق وعلي شريعتي في إيران” وغيرها