“الشعب الأكثر سعادةً في الأرض”

عندما استقبلنا الرئيس الكوري “كيم إيل سونغ”، الذي يُطلق حفيده كيم جونغ أون من وقتٍ لآخرصاروخاً بل صواريخ باليستيّة يضجّ بهاالعالم المسكون بالهواجس النووية المتنامية مع أوكرانيا/روسيا، حاولت يومها برفقة زوجتي مي أن نقدّم له هدية حملناها من حرفيّة بلدة جزين اللبنانية ، فأشاروا علينا بأن الرئيس يرى الهديّة عند فضّها وسنصطحبكم نحو المعرض الخاص للهدايا وهو قصر خيالي يستحيل وصفه بقرميده الأزرق البديع.

كيف وصلنا إلى هناك؟

أصرّ سفير كوريا الشمالية في بيروت عام 1986، أن يُرينا فيلماً عن كوريا بعد عشاءٍ مرطّب ب”الجنسنغ” أي “جذور الحياة”. كنا مجموعة من السياسيين والمثقفين غالى بعضهم بالتقريظ بمناظر الفيلم الخلاّبة لكوريا لكأنّها جنة على الأرض. حان دوري للتعليق. رجوته بتأجيلي حتّى الأخير. قلت عندها خاتماً: بصفتي أستاذ الصورة الخبرية. سأعطيك رأيي قطعاً بعدما أرى بلدكم بأم العين.

 غادرنا بعد أسبوعين، نحو موسكو على متن طائرة روسية أقلعت على عجل بسبب القصف ومنها إلى العاصمة بيونغ يانغ. لم أفهم بعد 26 عاماً على هذه الرحلة إن كان جوابي للسفيرهو المسهّل للدعوة، أم أنّ عمّي نائب بيروت فريد جبران رئيس جمعية الصداقة اللبنانية الكورية قد استساغ جوابي يومها فسهّل الأمر. فاجأني اسمه محفوراً في الساحة الرئيسية هناك حيث التماثيل الضخمة للرئيس كيم. بصراحة، كنّا نجهل ما يتمتم به الكوريون أمامها تلفّهم رهبة التحديق والدعاء ل”الرئيس المحبوب” كما يسمّونه هناك.

استغرقت الرحلة شهراً بدأناها من ساحة موسكو الحمراء نتلمّس العظمة الحائرة بسقوط الإتحاد السوفياتي والشيوعية كلوحة بازل وبلا دماء. انهمك الروس يومذاك بارتداء “الجينز” ورسم الأيقونات عقب عقود الإلحاد والإنبهار بالثورات الموشّاة بالحنين المتصاعد توقاً للإيمان. قد يصعب اليوم إعادة تركيب لوحة عصيان موسكو عن تقديم الأجوبة الواضحة حول سلطاتها بأنها تحكم وشعبها “المدّعي” بأنه يطيعها بالرغم من التعثّر آنذاك بالتوفيق بين قيصريتها وعظمتها ولينينيتها وإنفتاحها المنتظر. السبب أن شاشات الغرب لقّحته بزكام التغيير فبدت جاهزة لهذا التغيير. قرعت تلك الشاشات أبواب الشرق الأقصى من موسكو وراحت تلقّح المؤمنين بالسلطات الأبدية تقديساً للتبديل السياسي وبث الوعي لعظمة الإنسان الكوني الحرّ والديمقراطي،بصرف النظر عن دوله وأنظمته التي تنهال كما لوحات “البازل” السريعة التفكيك التركيب. لربّما يشذّ عن الأمر بقايا الحزبيين المكابرين على العقائد في زوايا المقاهي في العالم العربي وأقصد به الوطن العربي حسب التسمية القديمة.

بقيت كوريا الشمالية وستبقى شيوعية معاندة متحدّية لأميركا. رأينا بأم العين في “بيونغ يانغ”، رجلين ضخمين سمينين هما كيم إيل سونغ وإبنه كيم جونغ إيل ونرى جميعاً اليوم الحفيد القائد كيم جونغ أون أشدّ سمنةً من أبيه وجدّه، خلافاً للناس تلمحهم عبر السيارات السوداء كما “النمل البشري” الساعي نشيطاً في الأرض الخضراء هناك لا فرق بين نملة وأخرى يجمعهم عقل هندسي واحد لكوريا الشمالية سجّادة من الأشجار والأزهار، وكأن أرضها مخفيّة لا تُدركها العين لكثرة الإخضرار. الأخضر ردّة الفعل الطبيعية والتاريخية على إحراقها من أميركا وتركها كومة رمادٍ قاحلة في الخمسينيات.أحادية نائية هانئة تعيش في مناخ موسيقي أوبرالي تُصاحبها الأغاني الشعبية في الجبال والساحات والشوارع والعازفون للأناشيد والأغاني المزروعة بحناجر شعبها المصنوع صنعاً والمنحوت نحتاً. الشعب يغنّي (أيغني فعلاً؟) في المصانع والمزارع والقواعد العسكرية وعلى خرير نهر “تايدونغ” وعبر تلال جبال “بكتو” بأنه “الأكثر سعادة في الأرض” كما فهمنا. يغنّي هذا الشعب عند المغيب “مقرفصاً” ساعات بانتظار الباصات البطيئة أناشيد “الزوتشية” التي أطلقها كيم ايل سونغ مزاوجاً فيها بين الشيوعية والاكتفاء الذاتي معلناً نظريته بقوّة الإنسان وطاقاته المطلقة في بناء الأوطان والأمم. يهمسون في أذنك هناك بأن “الجبال في كوريا تتغيّر كلّ عشر سنوات والأطفال هم وحدهم ملوك الأرض الكورية”.

هي مدونات مخطوطةٍ أنبشها في زمن الكورونا والكوليرا، تتطلّع إليّ كلّ صباح نحو دفّتي كتاب، شئت عصره نصاً طائراً نحو “الحصاد” العربي في بلاد الإنكليز، حول دولة كوريا الفريدة والممتعة والنادرة. لم أنشر أية كلمة عنها بالرغم من الوعد الدبلوماسي،لا لمطّة في عنق الحبر، لكن لحيرةٍ وغموض فكري يُداهم من يعاين عواصم الغرب وجامعاته وما فعله وسيفعله في الشرق وفيه كوريا الشمالية وغيرها من الدول التائهة والمربكة بحدودها المُقفلة على مقاربات الخير والشر والسعادة الحرية والسلام والإكتفاء والعدل والمساواة وغيرها من المصطلحات المدسوسة متفجّرات في أسرّة حكام العالم.

قد يتذكّر الكاتب دمعة الصين المترددة بين ستالين ويلتسين، لكن تفسير دعوات كوريا الى الحوار مع المجتمع الدولي أو الى حريّة الشعب الكوري صعبة في عالم مهدد بالتلويحات النووية، والأصعب تفسير استمرار سهرات البيت الأبيض اللامنتهية مع اليابان وكوريا الجنوبية في بحر الصين الجنوبي المُثقل بإحتياط نفط وغاز بصفته بوابة العبور لناقلات النفط العالمية، وحول أضلاعه تنتظر دول كثيرة موطيء السلالة القابضة اليوم على مفاتيح اللوحات النووية. أيمكن بالمقابل استكشاف مستقبل شبه الخروج الأميركي من الشرق الأوسط  نحو الشرق الأقصى حتى القوقاز لنفهم كيف جفّفت أميركا ميزانيات الأبحاث والبرامج التي كانت منصبة على الشرق الأوسط وحوّلتها ميزانيات مضاعفة تهتمّ بالشرق الأقصى؟

كانت الدهشة، ختاماً، طفوليةً في قصر الهدايا لأنّ الأجنحة الأكثر فخامةً التي جذبتنا هي الروسية والإيرانية والسورية حيث ترقد السيارات القديمة تحفاً وهدايا من بريجنيف إلى الرئيس كيم ثمّ الصور العملاقة للإمام الخميني التي لم أر بحجمها في طهران وكذلك صور الرئيس حافظ الأسد.

يومها همست في أذن زوجتي: “نحن في قلعةٍ من المفارقات الشديدة الغموض في العلاقات الدولية ستعيد نسج مستقبل العلاقات بين الشرق والغرب بصمت مريب وديكتاتورية مخيفة على ألحان الأوبرا والأناشيد لكيم”.

أجابت: “ليس من الضروي أن تفهم في العلاقات الدولية كلّ شيء”.

كاتب لبناني وأستاذ مشرف في المعهد العالي للدكتوراه – عضوالهيئة العليا للإشراف على الإنتخابات النيابية