طرد الحقيقة واستحضار وهمها

اليوم مثل البارحة والكلام يتكرر، والدخان يتصاعد من الماضي، ذلك الماضي الذي يحترق ولا نرى رماده. وحده الدخان يغطي المشهد، دخان كراهية مجانية ونزعة عدوانية تدعي تبرير وجودنا.

يتعالى الدخان من عقول لم تمارس عناء التفكير، من وجدان محترق لا يستطيع التأمل، يتعالى من شقوق أرض لم يزرعها أصحابها. من أفواه لا تبتسم ومن حناجر لم تتدرب على الغناء، ونرى الدخان مثل خيوط سوداء أو مثل أنامل تعجز عن العزف. اليوم مثل البارحة، يوم يكرر ما قبله في خوف متبادل ونحن نموت من الخوف قبل موتنا.

أهل المشرق العربي نحن، يتلاقى عندنا الشرق والغرب ولا يتكاملان، إذ يزرع اللقاء حذراً بدل أن يتعهد اعترافاً وفرحاً بالمشترك الانساني: هكذا تعيش بلادنا الجميلة على وعد لا يتحقق بأن يكون السلام حقيقة والحرب وهماً، لكن العكس ما يصح وما نرى في أيامنا الحاضرة. الوطن لأهله الباقين فيه، للفلاحين يشبهون الشجر ويرعون حيواناتهم الاليفة في غابات هي ايضاً اليفة. كم صعب ان يهاجر الفلاح, هو الذي يزرع وينتظر الحصاد فكيف يغادر حاملاً في حقائبه اعشاباً وأشجاراً وحيوانات؟

وحين يكون الفلاح عصياً على المغادرة متجذراً في الأرض مثل سنديانة عتيقة، لا يبقى سوى موته مادياً أو معنوياً السبيل لتحقق هجرة تستند الى الشك بالانتماء أو اليأس منه. هكذا تتحالف في بلادنا تكنولوجيا السلاح مع دعاوى التكفير ليتم قتل الفلاحين بخفة وحرق زرعهم وحيواناتهم . وهناك من يريد البدء من الصفر في اماكن بعيدة والفلاحون في هذه الحال مرشحون أكثر من غيرهم للمحو كونهم نقيضاً للهجرة. هذا ما حدث ويحدث في بلادنا. قلة من السكان اعتبرتها وطناً والكثرة مجرد مكان لاقامة محكومة بالمغادرة. بلاد تغادر أهلها حين يغادرون سريعاً وبلا وداع، ولا يخلو الأمر أحياناً من وقفة تأمل قبل الرحيل على قاعدة حزن عابر يتطلبه الموقف.

يتذكر الشاعر الأشياء الجميلة في المشهد: انه الحنين.

يتذكر الأشياء السيئة في المشهد: انه التخطي نحو أرض جديدة، أي نحو المشهد البديل حيث يتأسس العيش أو وهمه.

الشارع بلا أهله ليس هو الشارع. كيف يحوله السكان الجدد شارعاً آخر من دون أن يغيروا أياً من عناصر العمارة والطرق.

الآن لغة واحدة تزحف على العالم كله، تتمسك ببدائيتها الاولى. لغة تستغربها مداخل الأبنية والشرفات وغرف النوم.

وحين نسقط هذه الحال الكلية على بلد منكوب مثل سورية، نقرأ هذه المقاطع للشاعر نزيه أبو عفش:

” الوحيد

العجوز الوحيد،

العجوز الوحيد الساكن في قلب نفسه وقلب ظلامه،

لا أحد يسأل عنه

لا أحد يقول له صباح الخير أيها الجار.

ونهار الأثنين، بعد المذبحة بيوم:

المرأة الثكلى دقت عليه الباب

فقط كي تعزيه

بموت ولديها الاثنين…

ولديها اللذين لا ثالث لهما.

– يا سورية يا يتيمة السماوات والأرض”.

تراجيديا بلادنا هي تسونامي التكفير وشيطنة الآخر، التكفير الناشئ عن خوف من التنوع وعن تقزيم للشأن الديني يجعله اليفاً لقبيلة وغريباً حين يصل الى غرباء أو يصلون اليه. ما يحدث في بلادنا أننا نلعب بجواهر الافكار كمن يلعب بحجارة صماء، وأننا نتوكل على قادة ميليشيات لصوغ مستقبل ابنائنا في  جغرافية معقدة ونصدق ان هؤلاء القادة مؤهلون لهذه المهمة. وبلادنا المختنقة بدخان الحرب والمحاربين افتقدت هدوء التأمل ووجود متأملين يستندون الى عقل راجح ووجدان دافئ. صارت الثقافة صراخاً في الهواء يمتدح ويرذل.

وما يحدث أشبه بفضيحة ثقافية أو بفراغ يملأ حيزاً كان يسمى ثقافة، ومن تجليات هذه الفضيحة ان تسونامي التكفير لم يقتصر على مصادرة السياسة والاقتصاد، فقد عمد الى ادخال تراثنا الفني الحديث، من موسيقى وغناء، في دائرة التحريم أو العيب، وقد أدى ذلك الى تجفيف أرواح الجيل الجديد وتهيئته لعدوانية مجانية ترفض اللقاء مع الآخر المختلف، لأنه فقد الاتصال بالفنون الجميلة كجامع انساني قبل أن تكون تعبيراً عن وجدان فرد أو شعب.

وإذ نعيش في ما يشبه الفراغ يبدو النتاج الثقافي فردياً وهامشياً يمارس الاحتجاج من موقعيه هذين، وبذلك تتشكل الابداعات في تسجيل فوتوغرافي للطبيعتين الصامتة والحية، أو في كتابة شذرات لا تشكل كياناً فنياً ذا شخصية، وفي افلام قصيرة اشبه بنتاجات الفيديو العابرة. ليست المشكلة صراع أجيال أو أشكال ابداعية، بل هي نهاية حقبة أغرقها التكفيريون ليتركوا للمبدعين سبيلاً وحيداً هو البدء من الصفر لا من الارث القريب، وقد يدفعونهم الى استعادة مسائل تراثية صارت جزءاً من ماض باهت. ما يحصل هو قتل الأب واحراق ارثه. أما الأسلاف القدماء جداً فتظهر كلماتهم مضاءة في الميادين ويتم اتخاذها مرشداً ودليلاً الى تدمير ما أنتج المثقفون العرب منذ قرنين والى الآن.