عند موليير اللغة برلوج . الإسم مأخوذ من اللغة الفرنسية . لغة منطقية ، لغة برمجة منطقية. أو برمجة المنطق . لغة جذور ، لغة من جذور اللغة وهي تقيم الروابط بين استلهام التراث والطموح إلى المعاصرة من دون فرض التراث على المعاصرة وفرض المعاصرة على التراث. المنطق في اللغة إذن . لا من شكلها ولامن اجازاتها . انها تعارض الأدب القائم على الإنتاج، إعادة الإنتاج . لأن الإعادة توقع في الإستهلاك . بلغة موليير، تلقائية اللغة . رفعتها من تلقائيتها وهي تزِّن في الآذان كأجراس ميلاد . وهي تلقائية تعرف الناس من خلالها عليه ، كما تعرفوا على الإنسان . ذلك أن في اللغة الخيال الدقيق ، القوي ، السيَّال .خيال في موجات ، تبين من خلاله أن اللغة عند المؤلف الفرنسي الأشهر لدى الأمم ، لغة إبراز جوانب لغة الناس لا إخفائها على حيز المنصة ، الناطقة بلسانه . وهو لسان الناس ، إذا ما تمت العودة إلى مصادرها التاريخية ، حيث موادها الأولى وطرق استسقائها . وحيث طرق معالجة النصوص باللغة لا معالجة اللغة بالنصوص .
تتعلق اللغة في مؤلفات موليير بموقف المؤلف من اللغة . ذلك أن الرجل لم يحب الكتابة لذاتها . لم يحب اللغة بذاتها . هكذا وجدت الأولى والأخرى طازجة في القراءات الحديثة بعد خمسمئة عام على ولادة مؤلف زوج نفسه من اللغة وزوجها من نفسه وهو لا يترك حين التأليف ، وقتاً للتأمل.
سفر ولقاء . بهذا تختصر علاقة موليير بلغة ، باتت تُعرِّف جزءاً من الحالة المدنية للمجتمع الفرنسي . معجزة. معجزة أن لا نقف أمام الإلتزام بالشيء ، ان ننتجه على توازناته الداخلية ، حيث ستقود التجربة الطويلة اللغة إلى إيقاعها وقانونها بدون توقف . ثمة حاجة دفعت إلى ذلك . غير أن عبقرية موليير ، أكدت قيم اللغة الجديدة في اللغة القديمة على الوجه المطلوب ، بدون بذل جهود جبارة .
ممهدات ، ثم نصوص ، ثم آثار . الواقع أن ما أحدثه الرجل دفاعه عن قوى الحياة باللغة، ثم يالأشكال الفنية .خدمها بإفراغها في جمالياتها لا بإفراغها من جمالياتها . هذا هو المهم عنده . هذا ما حرر كثيراً من الطاقة اللغوية من استخداماتها القديمة . لا قمح ولا خشب الأطلس . تولع بالعمل . تولع بالتعارض مع ما حدث بصالح ما سيحدث في وقت سيحسب وحده كمحرك لما هو مستعمل في البناء القديم ، لأجل بناء جديد . وهذا ما حدث .
لم يدخل موليير إلى المسرح كما يدخل الخان العظيم . دخل من التعبير عن نفسه بالطلاقة اللغوية في اللغة . دخل بالبديهة ، وحين فعل وجد أن في اللغة ما هو مدهش ، قوتها ، طلاقتها، مكونها الخارق . ذلك أنها جاءت من محيطها. لغة خام ، تحيا في محيط عظيم آمن بجمالاتها المجالية العظيمة . إنها لغة الناس .
رجل يقف على رقعته، ثم على رقعة شطرنج المسرح، بدون ادعاءات . لا حراسة و لاحراثة أو تحميل صور . خروج من العدم إلى تجسدات اللغة الشعبية . واختزال اللغة بما هو جوهري .أن تبقى على ما هي عليه ، مزخمة بروحها الشعبية. كلام الناس دوماً . ولأنه على هذا القدر من الصفاء ، لا يزال جان باتيست بوكلين من كنوز الأمبراطورية المسرحية في فرنسا والعالم . مولود بالحفر ، كجذع نما في سنة جفاف . جزء من بناء المنطق الداخلي للعالم الجديد في الثقافة الفرنسية وهي ترتفع إلى الأعلى في رحلة رؤى ، لم تنفصل عن الواقع الموضوعي لعظيم تأثير النص في القرن السابع عشر . مذاك ، وقف العالم أمام ظاهرة لم تكيف نفسها إلا على نفسها ، كما لو أنها شريط سينمائي لا يتوقف في سيرورة دفعت العالم إلى أن يختصر اللغة الفرنسية في لغته . إنها لغة موليير، يقال . وهذه واحدة من طبائع الخلق الأعظم ، ما لم يفكر به الرجل حتى أدركه ، لأنه لم يفكر به. إذ جاءه كما يجيء إلى المنزل أو دكان البقال . وجد العالم في لغة موليير حيوية اللغة الفرنسية .تراتب يوسع العالم ، عالم المسرح والمسرحيين ، عالم اللغة نفسها وهي تقفز مع صاحبها فوق الرموز الأخلاقية والاجتماعية والثقافية والفكرية للكلاسيكية الفرنسية . هكذا تأكد أن لغة الناس هي لغة السطح لا التسطيح . وأنها لها وظائف تتخطى الوسيلة إلى الإتحاهات المكملة، من التعبير اللفظي إلى المثال . لغة هي لغة ما تمثله ، لا لغة نفسها ومؤلفها فقط . بحيث ظهر للعالم أن أي معرفة بالمسرح الفرنسي واللغة الفرنسية سوف تبقى معقدة ومختصرة إذا لم تتوقف ، إذا لم تقرأ في مسرحية موليير وفي نباتاتها اللغوية وهي تمنح الأبصار مشاهدات فيها من الإشباعات والحيوات والعادات ما لم ينوجد في كتب الأحياء ولا على مسارحهم في ذلك الزمن الدقيق ، المضطرد .حين راحت جماعات من المفكرين والمثقفين والسياسيين والشعراء والفلاسفة تخرج من أخيولاتها إلى أهمية التنوع اللانهائي في المولودات الجديدة .
إبن الفرَّاش بين احياء المعاني والقصص الرمزية والقصيدة الرهيفة في واحدة من الحكايات الخرافية . رجل عامي وجد في اللغة أشكالها المتعددة، أرواحها المتعددة ، وجد فيها ما لا يستنفذ ، حتى اعتقد العالم أن اللغة الفرنسية حتى أضحى جوهرها المنبعي أو درجتها الأولى . تحدرت اللغة من الرجل ، منذ أخلص لها إثر فهمها بطرق صحيحة . إذاك خرج العالم من الإختباء والافتراض إلى لغة موليير ، في استخداماتها كطريقة للحصول على المبنى والمعنى الأبعد عمقاً . المتواضع النشأة ، اللاثانوي ، جعل نفسه حياً حين راح البعض يموت في حروب بعضها هادئ وبعضها لا ينظر سوى إلى الأسفل . ولأنه كذلك أقام اتصاله المؤكد بالإجرائيات المختلفة مع شخصيات كبرى ككورناي وبوالو وراسين وديكارت ، من حركوا الصور والكلمات والأفكار على جدران عقولهم . اللغة تعريشته في المسرح ، مثيرة ومذهلة وهي تخرج من الضالة المستكينة إلى قسمها لنفسها بأنها سوف تجيء مريحة لجمهورها حتى ولو جاء اليها مغمض العينين . لا تعقيد ، لا دماغ يومئ برأسه وهو يَنشَّلُ أمام سلاسل التقريبات . لا شيء من ذلك . لا شيء سوى الوضوح ، في فحص العالم بكل ظواهره . ولعل ما أخذه إلى ذلك الحاجة الدائمة إلى تفسير العلاقة بينه وبين نفسه أولاً ، ثم بينه وبين الطبيعة ، ثم بينه وبين الإنسان . هكذا ، أضحى مخرجاً وصاحب فرقة وممثلاً ومساجلاً في”ارتجالية فرساي “وهو يرد على مسرحية انتقدت مسرحية كتبها (مدرسة النساء ). الماء يعلو في الإناء .”طرطوف” المنافق المحتال المنشور على شكل لقطات متوالية في مسارح العالم ، البرجوازي النبيل ، مريض بالوهم، مقالب سكابان ، عدو البشر ، الطبيب رغماً عنه . عشرات المسرحيات المؤلفة وسط حملات تعنيف راوحت بين المرموز والملموس . نكايات وشكايات وتصويره كمارق لا نظير له في العالم . دفتر كامل من الإفتراءات لم يوقفه عن تأليف الكوميديات ذات الخصائص التصويرية والرسم في مقاربات لا تزال حاضرة ، على الرغم من مرورو اربعمئة سنة على دخوله في وادي النوم الطويل .
وحين غاب ، غاب وكأن نظرية نمو الأرض دخلت في ايقاعه الأدبي . بنى الرجل فقرته في المسرح العالمي بالشفافية لا بالغموض ، بامواج اللغة لا بالوقار والقرار . ولا بالجلال ولا بماء البحر . وحش بدائي يجتذب بريشته ما جعل العالم يقلب الصفحات على تذكر الاحتفال به ، بعد أن قدم نقوشه الخالدة في المسرح في طبقات من الأعراف والرؤى والفكر المباشر . لم يقف أمام تعريف المخيلة ، الواقع ، الفكر ، الصورة ، تبجيلات المرافق المسرحية ، حين وجد نفسه غاضباً من دون غضب على الصور المنهمرة من السماء وهي تواجه البشر العاديين بالإستعلاء بوضعهم بين الخطيئة والفضيلة . يروى أنه دفن في مدافن الكلاب ، بأمر من ملك فرنسا. ولكنه خرج منها أو لم تدخلها روحه حين دخلها جسده ، بعد أن جعل اللغة حاسة ، لا أداة تمر عبر الحواس