ماكرون والعرب: الطموحات والأوهام

من بيروت إلى المغرب مرورا بالخليج فرنسا تدقّ أبواب الشرق الأوسط

حاولت فرنسا منذ عهد الجنرال شارل ديغول التميّز بسياسة عربية لا مثيل لها من بين الدول الأوروبية والدائرة الدولية الشاملة. ويقوم ذلك التميّز على واقع ما تمتلكه فرنسا من إرث تاريخي يعود إلى فترات الاستعمار داخل العالم العربي، وإن أخذ أشكالا فظّة مباشرة كالاحتلال الذي مارسته لأكثر من 120 عاما في الجزائر، أو أشكالا غير مباشرة كاتفاقات وبروتوكولات متعددة الصيّغ كتلك مع لبنان وسوريا وبعض دول شمال أفريقيا. لكن التميّز لا يقوم فقط على ما حفل به التاريخ، بل على شخصية ديغول نفسه الذي، منذ ما قبل نهاية الحرب العالمية الثانية، أظهر ميولا نحو التمرد على السائد سواء في في العلاقة مع الخصوم، أو خصوصا في العلاقة مع الحلفاء.

ديغول- ميتران

العلامة الفارقة في الاختلاف الديغولي تبدأ من اللحظة التي اتخذ فيها موقفا مضادا لإسرائيل في أعقاب حرب حزيران (يونيو) من عام 1967، والتي قرر وفقه وقف التعاون العسكري معها، داعيا إلى تقيُّدها بالقررات الدولية الصادرة

ماكرون في لبنان: إنعاش علاقة فرنسية مع بيروت

عقب هذه الحرب والداعية إلى الانسحاب من الأراضي التي احتلتها آنذاك. غير أن هذا الموقف الذي اختلف عن مواقف واشنطن وأوروبا وبقية الدول الغربية، لا يخفف من حقيقة التعاون الذي جرى قبل ذلك بين فرنسا وإسرائيل في المجال النووي والذي أسس لاقتناء إسرائيل السلاح النووي الذي لا تعترف حتى الآن رسميا بواقعه.

وعلى الرغم من تعاقب اليسار واليمين على الحكم في فرنسا، وعلى الرغم من الخصومة الحادة بين اليميني المحافظ شارل ديغول والزعيم اليساري الاشتراكي فرانسوا ميتران، غير أن الأخير لم يحدّ عن السياسة الديغولية لفرنسا في الشرق الأوسط حين تولى الحكم لـ 14 عاما، وبقيت سياسة فرنسا العربية حتى الآن تحترم القواعد الديغولية في العلاقة بين باريس وقضايا العرب والعواصم العربية. ويُسجل لميتران أنه تجرأ، على خلاف السائد آنذاك، على دعوة االزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لزيارة باريس في نهاية الثمانينيات في وقت كانت جل العواصم الغربية تُدرجه على لوائح الارهاب. وقد تبنى كافة الرؤوساء الفرنسيين، وخصوصا جاك شيراك، العلاقة الجديدة مع “أبو عمار” الذي للمفارقة توفي في إحدى مستشفيات باريس عام 2004.

والسياسة العربية لفرنسا قامت في الأصل على  ما تملكه باريس من نفوذ وحضور في لبنان وما تملكه من علاقات مميّزة مع دول شمال أفريقيا، الجزائر وتونس والمغرب وموريتانيا، ثم تمددت هذه العلاقات صوب ليبيا ومصر وسوريا لاحقا. فيما تسعى باريس إلى توسيع هذه العلاقات وجعلها من القواعد المفصلية باتجاه العراق والأردن.

ماكرون والعرب

شكّل انعقاد مؤتمر بغداد للتعاون والشراكة في البحر الميت في الأردن في 21 كانون الأول (ديسمبر) 2022 واجهة من واجهات السياسة الخارجية الجديدة لفرنسا في الشرق الأوسط التي أرساها الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون.

مؤتمر بغداد: آلية فرنسية لاختراق الشرق الأوسط

انعقد المؤتمر في نسخته الحديثة بعد تلك الأولى في 28 آب (أغسطس) 2021 في العاصمة العراقية بتنسيق كامل بين الحكومتين الفرنسية والعراقية. والمؤتمر هو آلية سعى إليها الرئيس الفرنسي من خلال العراق تهدف إلى نسج علاقات متعددة الأطراف تشمل بلدان عربية إضافة إلى تركيا وإيران. تضاف هذه الآلية إلى رصيد ماكرون في السعى خلال السنوات الماضية لإرساء دبلوماسية نشطة في الشرق الأوسط، شملت دول الخليج وشمال أفريقيا ومصر ولبنان، في محاولة لإيجاد دينامية فرنسية تتكامل أو تتنافس داخل الصراع الأميركي الصيني الروسي على النفوذ في المنطقة.

تقوم ثوابت سياسة فرنسا في عهد ماكرون في العالم العربي على ثوابت، كما أسلفنا، قامت منذ عهد الرئيس الراحل شارل ديغول الذي أرسى “سياسية فرنسا  العربية” المستقلة عن تحالفات فرنسا الغربية. وقد تميّزت سياسة باريس حيال الشرق الأوسط في الموقف الذي اتخذه ديغول ضد إسرائيل إثر حرب عام 1967، وفي الموقف الذي اتخذه رؤوساء فرنسا بعد ذلك في مقاربة مختلفة للمسألة الفلسطينية.

السياسة الخليجية

وبدا ماكرون مهتماً بتطوير علاقاته مع دول مجلس التعاون الخليجي، لا سيما السعودية والإمارات وقطر، آخذا بعين الاعتبار حساسيات العلاقات البينية الخليحية خصوصا في مرحلة “أزمة قطر”، وشدّة المنافسة الغربية في هذه المنطقة، لا سيما مع الولايات المتحدة وبريطانيا، ناهيك من تقدم نفوذ روسيا والصين. وتميّزت مقاربة باريس باحترامها للظروف الموضوعية لدول هذه المنطقة واحترام قواعد أجنداتها في عزّ تضارب الموقف من “الربيع العربي” والإسلام السياسي، لا سيما لدى مصر وتونس ودول الخليج.

السعودية: اشتغلت فرنسا على تطوير علاقاتها مع السعودية من خلال إقامة علاقة شخصية مستقرة بين ماكرون

FILE PHOTO: Ukraine’s President Volodymyr Zelenskiy visits positions of armed forces near the frontline with Russian-backed separatists during his working trip in Donbass region, Ukraine April 8, 2021. Ukrainian Presidential Press Service/Handout via REUTERS

وولي العهد السعودي الأمير محمد سلمان. وتميّز موقف ماكرون على نحو لافت عن المواقف الأميركية الأوروبية التي اتخذت مواقف سلبية حيال الرياض بعد “أزمة خاشقجي”، بحيث أن فرنسا استمرت في تطوير علاقاتها مع السعودية والاستفادة من رشاقة هذه العلاقة في محاولة للتعامل مع أزمة لبنان وفي لعب دور مفصلي في علاقة أوروبا مجتمعة مع السعودية والخليج.

الإمارات: يسهل التسليم في أن علاقات فرنسا والإمارات وصلت إلى مستويات متقدمة في عهد ماكرون بنيت على ما سبق مراكمته في علاقات البلدين خلال العقود الأخيرة. وكان واضحا أن توقيع عقد الـ 80 مقاتلة فرنسية من طراز “رافال” في كانون الأول (ديسمبر) 2021 إضافة إلى عقود أخرى في مجالات الدفاع والتجارة والتكنولوجيا رفع علاقات فرنسا والإمارات إلى حدود تلامس المستويات الاستراتيجية. إلا أن طبيعة العلاقات الاقتصادية والعسكرية وخصوصا الثقافية، مكّنت فرنسا من إيجاد موطئ قدم رحب في المنطقة يكون نموذجاً لعلاقات تطمح إليها فرنسا مع كل دول المنطقة.

قطر: نجحت فرنسا في عهد ماكرون بتطوير علاقات مع قطر على الرغم من توتر علاقات الدوحة مع الرياض وأبوظبي. واستطاعت باريس صيانة علاقات قديمة مع الدوحة وتطوير علاقات اقتصادية وأمنية على الرغم مما أثارته علاقة باريس بالدوحة من أسئلة داخلية حول انسجام الموقف الفرنسي المعادي للإسلام السياسي مع موقف قطر. وعملت باريس على الاستفادة من دور الدوحة في الشأن الأفغاني لتوفير بيئة اتصال تكون فيها باريس فاعلة داخل هذا الملف. وعلى الرغم من الموقف الغربي السلبي الذي ظهر ضد قطر بمناسبة استضافتها لكأس العالم وامتناع المسؤولين الغربيين عن زيارة الدوحة بهذه المناسبة، فإن ماكرون هو الزعيم الغربي الوحيد الذي قام بزيارة العاصمة القطرية على الرغم مما أثاره أمر الزيارة من جدل داخل فرنسا.

فرنسا ولبنان

يعتبر لبنان تاريخيا أحد البوابات الأساسية للدبلوماسية الفرنسية في الشرق الأوسط. ولطالما انخرطت فرنسا، بصفتها سلطة الانتداب السابقة في هذا البلد، داخل ملفات السياسة والأمن والاقتصاد في لبنان مستندة على زادّ تاريخي لا يتّسق بالضرورة مع مستوى نفوذها النسبي داخل لبنان ومع مستوى نفوذها الدولي الإقليمي المتوسط. وقد اصطدم الرئيس الفرنسي بهذه الحقائق بعد فشل مبادراته المكثّفة لإيجاد تسوية تخرج البلد من انسداده الاقتصادي والسياسي.

وقد واجه ماكرون، بعد زيارة عاجلة قام بها إلى بيروت بعد يومين على انفجار مرفئها في 4 آب (أغسطس) 2020، مقاومة من قبل الطبقة السياسية الحاكمة ضد مقترحاته من جهة، ومعارضة علنية من قبل إيران، من دون وضوح موقف أميركي مساند لمبادراته. وقد اعتمدت باريس على استمرار تواصلها مع “حزب الله” من خلال السفيرة الفرنسية في لبنان آن غريو وموفدي باريس إلى بيروت مستندة على رؤية لماكرون أعاد تأكيدها في  24 كانون

ماكرون والخليج: سياسةٌ تنافس واشنطن وموسكو وبكين

الأول (ديسمبر) 2022، فيما تدرج الولايات المتحدة وعدد من الدول الغربية والأوروبية الحزب على لوائح الإرهاب. كما اعتمدت فرنسا على علاقات مقبولة مع إيران، وإن تدهورت في الأشهر، الأخيرة لإيجاد مخارج للأزمة اللبنانية.

وتقوم سياسة فرنسا في لبنان على ما استطاع ماكرون امتلاكه من علاقات ممتازة مع السعودية ومع ولي العهد الأمير محمد بن سلمان بالذات أتاحت له لعب دور لإنهاء “أزمة” رئيس الحكومة اللبنانية الأسبق سعد الحريري في أواخر عام 2017 إثر تقديم استقالته من الرياض. وكانت دول الخليج قد سحبت سفراءها من بيروت في تشرين الأول (اكتوبر) 2021. ولم تنته هذه الأزمة إلا من خلال مبادرة حملها وزير الخارجية الكويتي أحمد ناصر المحمد الصباح، مثّلت شروط الخليجيين لإعادة الوصل الدبلوماسي مع بيروت. غير أن السياسة السعودية في لبنان تمثّل حجر الزاوية في أي تطور للموقف الخليجي العربي حيال لبنان. كما أن الدعم الخليجي يعتبر أساسيا لإنجاح أي مسعى فرنسي في لبنان خصوصا في ما يتعلق بالدعم المالي ومستقبل مفاوضات بيروت مع صندوق النقد الدولي.

فرنسا وشمال أفريقيا

تمثل منطقة شمال أفريقيا ميدان نفوذ تاريخي استراتيجي فرنسي. غير أن حصّة النفوذ الفرنسي في أفريقيا آيلة إلى تراجع بسبب التنافس مع دول مثل الولايات المتحدة وروسيا والصين التي استطاعت مع دول أخرى توطيد حضورها في المنطقة.

الجزائر: سعى ماكرون إلى تصويب علاقة بلاده مع الجزائر التي ينتابها توتر بنيوي بسبب الماضي الاستعماري لفرنسا في الجزائر. وسُجل له قيامه بخطوات لترميم تصدعات تاريخية في علاقة باريس والجزائر. غير أن حسابات داخلية أوقعت ماكرون نفسه في عثرات فاقمت من توتر العلاقات الفرنسية الجزائرية. وقد دفعت أزمة الطاقة في

أزمة الطاقة فرضت اقترابا فرنسيا من الجزائر

أوروبا ماكرون إلى بذل جهود استثنائية لإعادة الزخم في علاقة البلدين، سواء من خلال الزيارة التي قام بها للجزائر في 25 آب (أغسطس) 2022 أو تلك التي قامت بها لاحقا رئيسة الوزراء الفرنسية اليزابيت بورن في 9 تشرين الأول (اكتوبر) 2022على رأس وفد ضمّ حوالي نصف الحكومة الفرنسية.

المغرب: سعى ماكرون إلى المحافظة على علاقات مستقرة مع المغرب على الرغم من حساسية أي علاقة مع الرباط بعلاقة باريس مع الجزائر. ولطالما اعتبرت سياسة فرنسا في عهد ماكرون أكثر حيوية مع الجزائر منها مع المغرب. وقد أسهمت أزمة الطاقة وتنافس فرنسا مع إيطاليا بشأن غاز الجزائر في تركيز باريس على تعزيز علاقات غير مستقرة مع الجزائر. ومع ذلك فإن علاقة فرنسا والمغرب وحجم التبادلات بينهما بقي مستقراً وإن بدا أن المغرب بدأ يفرج عن امتعاض من سياسة باريس ويطور علاقاته مع الولايات المتحدة ويذهب باتجاه الالتحاق بالاتفاقات الابراهيمية مع إسرائيل في 20 كانون الأول (ديسمبر) 2020.

ليبيا: تعاملت فرنسا مع الأزمة الليبية منتهجة خيارات بدت حادة وواضحة على الرغم من سعيها لاستضافة فرقاء الصراع وتقديم مبادرات خاصة للحل في ليبيا. وبدت باريس أقرب للسياسة الداعمة للتشكّل السياسي في بنغازي بقيادة خليفة حفتر على حساب التشكّلات السياسية في طرابلس التي حظيت بدعم تركيا وقطر. وتبدو فرنسا التي انخرطت مباشرة في عهد الرئيس نيكولا ساركوزي مع بريطانيا في العمليات العسكرية للإطاحة بنظام معمر القذافي غير قادرة على فرض مكانة أساسية لها في أي تسوية لمستقبل ليبيا. وفيما تنشط الولايات المتحدة وإيطاليا والأمم المتحدة وتركيا وروسيا داخل الميادين الطاقوية والعسكرية والسياسية في ليبيا، تتعامل باريس مع الملف من خلال العواصم الإقليمية الحليفة، لا سيما القاهرة وأبوظبي.

ضوابط سياسات باريس

تعوّل فرنسا في سياستها الخارجية في عهد ماكرون على دبلوماسية معتدلة تحاول من خلالها إقناع الشركاء في المنطقة بوجاهتها في عزّ الاستقطابات الدولية والإقليمية الحادة. ويُسجل لفرنسا تقديم نفسها مستقلة عن أجندات الولايات المتحدة والصين وروسيا ومتميّزة عن أجندات دول حليفة مثل ألمانيا والمملكة المتحدة. ووفق هذا الموقع الذي تحتله فرنسا استطاعت باريس إقناع كافة الأطراف المعنية بالمشاركة بآلية مؤتمر بغداد.

وتستند فرنسا في دينامياتها أيضا على موقعها المحوري داخل الاتحاد الأوروبي خصوصا بعد التراجع النسبي لموقع ألمانيا المحوري بعد خروج المستشارة السابقة أنجيلا ميركيل من العمل السياسي في بلادها. وفيما تهتم السياسة الخارجية الفرنسية بمصالح فرنسا أولاً، إلا أن سعيها لنجاح سياستها شرق الأوسطية يشكّل رافعة لموقع فرنسا داخل الاتحاد ويشكّل في الوقت عينه مدخلا فرنسيا لسياسة أوروبية في الشرق الأوسط.

وعلى الرغم من الدينامية التي طرأت على علاقات ألمانيا والمملكة المتحدة مثلا مع دول الخليج، غير أن فرنسا تبدو أكثر استقرارا ودأبا ورشاقة في علاقاتها مع العواصم الخليجية الأساسية. تبدو أيضاً باريس أكثر قدرة على تطوير علاقاتها مع المنطقة الباحثة عن تنوّع في علاقاتها الدولية والتوّاقة إلى علاقات أكثر أمانا داخل الصراع الدولي بين الولايات المتحدة والغرب من جهة وروسيا والصين من جهة أخرى.

حرب أوكرانيا

ولا ريب أن التحوّلات الدولية التي فرضتها الحرب في أوكرانيا غيّرت من المعطيات المتعلقة بالخرائط الدولية، وهي حركت أيضا خطوطا وثوابت في المنطقة العربية.

صحيح أن باريس حاولت اتخاذ مواقف أقل حدّة من تلك الحرب وأقل انخراطا بها، إلا أنها بالنهاية دولة اتخذت موقفا منحاذا إلى جانب أوكرانيا وضد روسيا على منوال ما اتخذه حلفاؤها الأميركيون والأوروبيون والغربيون وهو أمر يختلف عن موقف العالم العربي.

وقد قام الموقف العربي عامة، والخليجي خاصة، على الحياد الموضوعي، بحيث لم يدعم النظام السياسي العربي الحرب الروسية في أوكرانيا، لكنه لم يوافق على إجراءات المقاطعة والعقوبات التي اتخذتها العواصم الغربية ضد موسكو. ويجب الاعتراف أن العالم العربي، وبخاصة الدول المنتجة للنفط والغاز، استعاد مكانته الاقتصادية والسياسية داخل المشهد الدولي لجهة الحاجة إلى ما تصدّره من طاقة إحفورية باتت أسواق الطاقة تحتاج إليها. وأعادت أزمة الطاقة الاعتبار إلى النفط الذي لطالما حاربته برامج الطاقة البديلة والنظيفة التي راجت لدى العالم الغربي وهدد سوق الهيدروكاربونات.

وقد أعادت فرنسا من بين بقية الدول الغربية قراءة علاقاتها مع المنطقة ودول الخليج من خلال البوابة الطاقوية. وقد اضطرت فرنسا إلى تقديم تنازلات كبرى والتراجع عن مواقف، تورط فيها ماكرون نفسه، حيال الجزائر من أجل أن تحظى بحصص من واردات الجزائر من الغاز على الرغم من الاتفاق الذي أبرمته الجزائر مع إيطاليا في هذا الصدد.

وعلى هذا بدت سياسة فرنسا طموحة لكنها لا تملك إمكانات إحداث اختراق كبيبر بسبب تواضع الامكانات الاقتصادية الفرنسية مقارنة بما تضخّه الصين والولايات المتحدة وروسيا وما يشكلونه من نفوذ وسطوة على المستوى الجيوستراتيجي. وبدت سياسة فرنسا العربية مع ذلك مقبولة لدى بعض الدول العرببة وتمثّل واجهة وسيطة ما بين الخيار الشرقي والغربي، وتوفّر رافعة لعلاقات عربية متوازنة مع كل الكتلة الأوروبية سواء داخل الاتحاد الأوروبي أو خارجه.

على الرغم من تعاقب اليسار واليمين على الحكم في فرنسا، وعلى الرغم من الخصومة الحادة بين اليميني المحافظ شارل ديغول والزعيم اليساري الاشتراكي فرانسوا ميتران، غير أن الأخير لم يحد عن السياسة الديغولية لفرنسا في الشرق الأوسط حين تولى الحكم لـ 14 عاما، وبقيت سياسة فرنسا العربية حتى الآن تحترم القواعد الديغولية في العلاقة بين باريس وقضايا العرب والعواصم العربية. ويُسجل لميتران أنه تجرأ، على خلاف السائد آنذاك، على دعوة االزعيم الفلسطيني ياسر عرفات لزيارة باريس في نهاية الثمانينيات في وقت كانت جل العواصم الغربية تدرجه على لوائح الارهاب. وقد تبنى كافة الرؤوساء الفرنسيين، وخصوصا جاك شيراك، العلاقة الجديدة مع “أبو عمار” الذي للمفارقة توفي في إحدى مستشفيات باريس عام 2004.

تعوّل فرنسا في سياستها الخارجية في عهد ماكرون على دبلوماسية معتدلة تحاول من خلالها إقناع الشركاء في المنطقة بوجاهتها في عزّ الاستقطابات الدولية والإقليمية الحادة. ويُسجل لفرنسا تقديم نفسها مستقلة عن أجندات الولايات المتحدة والصين وروسيا ومتميّزة عن أجندات دول حليفة مثل ألمانيا والمملكة المتحدة. ووفق هذا الموقع الذي تحتله فرنسا استطاعت باريس إقناع كافة الأطراف المعنية بالمشاركة بآلية مؤتمر بغداد.

أعادت أزمة الطاقة الاعتبار إلى النفط الذي لطالما حاربته برامج الطاقة البديلة والنظيفة التي راجت لدى العالم الغربي وهدد سوق الهيدروكاربونات. وأعادت فرنسا من بين بقية الدول الغربية قراءة علاقاتها مع المنطقة ودول الخليج من خلال البوابة الطاقوية. وقد اضطرت باريس إلى تقديم تنازلات كبرى والتراجع عن مواقف، تورط فيها ماكرون نفسه، حيال الجزائر من أجل أن تحظى بحصص من واردات الجزائر من الغاز على الرغم من الاتفاق الذي أبرمته الجزائر مع إيطاليا في هذا الصدد.

سياسة ديغول العربية

لا توجد مدينة فرنسية إلا وفيها شارع يحمل اسمه وحتى أكبر مطار في باريس يحمل اسمه وهذا يؤكد أنه لا يمكن لفرنسا أن تنسى فضله وشجاعته، الجنرال شارل ديغول هو الرجل التاريخي الذي وقف في وجه النازية عندما تراجع غيره وهو من قاد فرنسا الحرة وانتصر على الطرف الفرنسي الآخر الذي قبل بمعسكر هتلر وبقيمه النازية أي حكومة فيشي. كان الجنرال شارل ديغول رجلاً سابقاً لعصره بمفاهيمه، بفكره الحداثي وبقيمه الإنسانية، ولذا هو فهم قبل غيره قضايا أساسية عادلة كإنهاء حقبة الاستعمار ونصر الشعوب المظلومة.

هو من أسس لما سماه سياسة فرنسا العربية ويقصد بهذا استراتيجية تقارب خاص لفرنسا من العالم العربي. تجسدت هذه السياسة بصداقات بناها الجنرال مع شعوب وزعماء العالم العربي. وبرزت معالمها حين قرر إيقاف حرب الجزائر والاعتراف باستقلالها. وقد واجه الجنرال عداءً فرنسياً داخلياً كبيراً بسبب موقفه الشجاع هذا. وكان حريصاً على فهم الثقافات الأخرى وبواقعية كان يعترف بكل تواضع وموضوعية بحدود فهمه لهذا العالم الغريب عنه. وكان الجنرال يعي بعمق كم هو معقّد الشرق الأوسط الذي قال عنه أذهب لشرق معقّد بأفكار بسيطة.

ربما المرحلة التي عاشها الجنرال كانت مرحلة الرجال التاريخيين العظماء الوطنيين في دول عديدة. حتماً كانت تلك الحقبة هي مرحلة بناء دول ونهوض أخرى والعبور بها من عصر قديم لعصر جديد. وهكذا عبر الجنرال ديغول بفرنسا للعصر الحديث محدثا كل ما فيها، من تأسيس قانون الضمان الصحي، للعطل السنوية المدفوعة الأجر، للاقتصاد والصناعة وغيرها، ورغم نهاية عصر الهيمنة البريطانية الفرنسية على العالم مع نهاية عصور الاستعمار وصعود نجم الولايات المتحدة والاتحاد السوفييتي، إلا أن الجنرال ديغول جهد للمحافظة على مكانة مهمة جداً لبلده فرنسا بين الدول وعرف كيف يختار حلفائه.

وما زالت تعيش الجمهورية الفرنسية الخامسة التي أسسها على إرثه، ويتخبط الرؤساء الفرنسيون من بعده بمواقفهم ويفتقدون للكثير من حكمته وبعد نظره بمعالجة القضايا العالمية التي من شأنها ترميم السلام وجسور الثقة بين الشعوب والدول.

أما عن هذا العالم العربي الذي أحبه الجنرال ديغول فقد تغير، حيث أن اليوم غير البارحة ولم تعد الشعوب العربية معنية بذات القضايا القديمة. وظهرت صراعات جديدة، وحتى القضية الفلسطينية التي اتخذ فيها الجنرال موقفاً جريئاً وحكيماً مقترحاً حل الدولتين، لم تعد اليوم قابلة للحل بذات الرؤية. في الواقع لم تعد الأمور واضحة في هذا العالم المتغير خصوصاً بعد نهاية الماركسية وصعود تيارات فكرية إسلامية جديدة للمشهد وتوسع دول دينية كإيران في الشرق الأوسط.

ماذا كان بإمكان الجنرال ديغول أن يفعل لهذا العالم اليوم لو كان بيننا؟. هذا ما يسأل بعض الفرنسيين الذين يحملون إرثه وينتمون لحزبه. وكيف يمكنهم إعادة نهج سياسة الجنرال ديغول مع العالم العربي واستعادة الدور المميز لفرنسا في المشرق والمغرب كما كان؟

هذه الجمهورية الفرنسية رغم التخبط الذي تعيشه اليوم هي إرث ديغول. وهذا التقبل للآخر والاعتراف بالتنوع العرقي والإثني هو أيضا من إرث ديغول. ولربما هو محقّ بتوقعه للثورات السياسية الإسلامية فهذا ما حصل في إيران مثلاً وهذا ما جرب الإسلام السياسي القيام به في كل مكان. استعادة نهج السياسة العربية التي أسسها ديغول لفرنسا هي ما تحتاجه فرنسا وما يفتقده العالم العربي.