مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027

أ. د. مازن الرمضاني*

في العدد السابع والستين من مجلة »الحصاد« تم البدء بسلسلة مقالات تتناول مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027. ولهذا الغرض تم الانطلاق من ثلاث فرضيات تعبر عن ثلاثة مشاهد ممكنة لهذه المستقبلات. وبينما انصرف المقال الأول إلى البحث في مشهد هيكلية القطبية الدولية الأحادية )الأمريكية(، تناول المقال الثاني مشهد القطبية الدولية الثنائية )الأمريكية ذالصينية(. في هذا المقال الثالث والأخير سيكون مشهد القطبية الدولية المتعددة هو موضوعه.

وفي خاتمة هذا المقال سنذهب إلى الترجيح بين مستقبلات النظام السياسي الدولي في عام 2027.

في السبعينيات والثمانينيات من القرن الماضي، إستمرالتأكيد على أن هيكلية النظام السياسي الدولي تتجه نحو البقاء ثنائية : أمريكية- سوفيتية. إن هذه الرؤي تميزت في وقته بالمغالاة في الأقل. فالتربع الثنائي الأمريكي -السوفيتي على قمة الهرم الدولي انذاك كان في واقعه تربعا ناقصا، سيما وأن النظام السياسي الدولي كان قد بدأ يجمع بين هيكلية مركبة : ثنائية عسكرية فريدة في السلاح التقليدي والنووي من ناحية وتعددية اقتصادية وتقنية من ناحية أخرى.

إن إنهيار الإتحاد السوفيتي، كدولة عظمى، أفضى إلى إنتشار رؤية أخرى تناقضت مع الأولى في مضمونها. فهذه قالت بالقطب الدولي )الأمريكي( الواحد. ومما سهل ذلك أن عقد التسعينيات من القرن الماضي تميزبانتفاء أي قوة أوربية أو أسيوية قادرة على، و/أو راغبة في، مناهضة السياسة الخارجية الأمريكية.

 بيد أن معطيات المرحلة الإنتقالية، التي افضت اليها نهاية الحرب الباردة، والتي لا زالت مستمرة، تفيد بإتجاهات دولية تؤشر أن القطبية الدولية المتعددة تتجه إلى التبلور التدريجي. ومما يساعد على ذلك تأثير ثمة متغيرات مهمة. ونرى أن ابرزها يكمن في الآتي:

أولا، التراجع التدريجي للدور والتأثير الدولي للولايات المتحدة الأمريكية.

وقد تم تناول معطيات هذا التراجع في مقالنا المنشور في عدد الحصاد بتاريخ ايار 2017.

ثانيا، بروز وأنتشار قوى عالمية جديدة

 لقد سبقت الإشارة إلى أن الولايات المتحدة الأمريكية أضحت، جراء تأثير متغيرات داخلية مهمة، تعاني. بيد أن هذه المعاناة، مع تأثيرها سلبا في فاعلية سياستها الخارجية، إلا أنها لم تؤد إلى أفول دورها الدولي قبل عام 2017، ولا نفترض أن هذا سيكون أيضا لصيقا بعام 2027. فالولايات المتحدة الأمريكية ستبقى دولة عظمى ولكن من بين دول عظمى أخرى ولا غير.

فعلى الرغم من أن الدولة الأمريكية خرجت من الحرب الباردة منتصرة، بيد إنها لم تكن الدولة الوحيدة المنتصرة. فالقوى الدولية الكبرى، التقليدية والجديدة، كانت منتصرة هي الأخرى أيضا.

 فالتحررمن تأثير الكابح السوفيتي أتاح لهذه القوى مجموعة فرص جديدة ساعدت مخرجاتها على ترصين إمتلاكها لإليات التغيير في القرن الحادي والعشرين، ولاسيما إليات الاقتصاد والمعرفة والتقنية، ومن ثم صارت تتوافر على قدرات مهمة كما ونوعا. فهذه القدرات، وإن لم تتجاوز مثيلاتها الامريكية، بيد أنها إضحت تقترب منها في الأقل. فإنطلاقا من اتجاهات معدلات نمو الاقتصادين الصيني والامريكي،تؤكد اراء أن الأول الذي اضحى اليوم ثاني اقتصاد عالمي سيتجاوز الاقتصاد الأمريكي قبل عام 2050، وأن هذا الاقتصاد سيحتل، بعد هذا العام، المرتبة الثالثة عالميا بعد الصين والهند.

وتؤكد مؤشرات تعود جذورها إلى ما قبل عام 2000 أن مجموعة من القوى الدولية التقليدية والجديدة، ولاسيما الصين واليابان وروسيا الأتحادية والهند والمانيا والبرازيل وجنوب أفريقيا،إنها تتجه ببطء وبحسابات ذكية إلى إنجاز ادوار سياسية دولية مؤثرة تعكس القدرات التي تتميز بها. وهذه القدرات تجمع بين تلك العسكرية والاقتصادية والمعرفية والتقنية مجتمعة، أو بين بعضها فقط..

ثالثا الجاذبية الإقليمية للأقطاب الدولية

لقد افضت مدخلات ثقافية ومادية متنوعة إلى أن تتمتع الأقطاب المرشحة لتشكيل القطبية الدولية المتعددة بجاذبية خاصة في اقاليم جغرافية محددة. فمثلا تُعد الولايات المتحدة الأمريكية قطبا جاذبا لدول أمريكا اللاتينية والكاريبي. أما أوربا الغربية فهي تُعد كذلك بالنسبة لأوربا الوسطى والشرقية وشمال أفريقيا. والشيء ذاته ينسحب على اليابان في شرق اسيا، والصين في جنوب شرق أسيا، وكذا الحال بالنسبة لروسيا الإتحادية في الإقليم الأوراسي.

وعلى الرغم من أن ظاهرة الإعتمادية الدولية متفاعلة مع التطور المذهل في عالم الإتصالات قد أدت إلى ترابط الإقاليم الجغرافية لعالم اليوم على نحوٍغير مسبوق، إلا أن هذا الواقع لا يلغي أن واقعا أخر بدأ بالتكون. ويرتبط هذا الواقع بتأثيرجاذبية الخصائص التي يتميز بها هذا القطب الدولي أو ذاك في أحد الأقاليم الجغرافية. فهذا التاتير أضحى يدفع إلى بناء تكتلات اقليمية كبرى بقيادة هذا القطب الدولي. وينسحب الشيء ذاته على تاتير القطب الإقليمي أيضا.

ونرى أن هذا الإتجاه يفضي إلى مخرجات مهمة من نوعين : فمن ناحية، إنها ستتفضي بالدول التي تنتمي الى أحد الأقاليم إلى أن تدور في الفٌلك الواسع لهذا التكتل ولكن دون المساس بشخصيتها القانونية. وأما من الناحية الثانية، فأنه ينطوي على دعم مهم لتطلع أحد الاقطاب إلى أداء دور دولي ريادي.

رابعا: واقع التعددية النووية في العالم

لم يقتصر النادي النووي الدولي، حتى في مرحلة القطبية الدولية الثنائية، على عضوية الولايات المتحدة الأمريكية والإتحاد السوفيتي السابق. فإضافة لهما كان يجمع أيضا بقية اعضاء مجلس الأمن الدولي دائمة العضوية : المملكة المتحدة وفرنسا والصين، فضلا عن الإنتماء اللاحق لدول لم تكن في وقته ضمن مجموعة الدول الكبرى، وهما الهند والباكستان.

ولا يستطيع المرء إلغاء إحتمالية إمتداد عضوية النادي النووي الدولي، في المستقبل المتوسط وما بعده، إلى دول أخرى. فالواقع الدولي يفيد أن بعض الدول تملك السلاح النووي دون أن تعلن رسميأ عن حيازتها له، كإسرائيل مثلا، أو إن لها برامج نووية تسهل عليها إنتاج السلاح النووي، ولكنها تتردد عن ذلك جراء الممانعة الدولية والخشية من العقاب كإيران وكوريا الشمالية مثلا، أو إنها تتوافر على القدرة المعرفية ولكنها لا تتوافر حالياً على الإرادة إنتاجه لإسباب جلها سياسية خارجية، كالمانيا واليابان مثلا..

إن توجه تلك الدول، ولاسيما التي تتوافر على القدرات التقنية والإرادة السياسية نحوحيازة السلاح النووي، لم يكن بمعزل عن إدراكها لنوعية دوره الإيجابي في دعم فاعلية حركتها السياسية الخارجية بعنصر على قدر عال من التأثير.

إن فاعلية السلاح النووي لاتكمن في إستخدامه، جراء الدمار الشامل المؤكد الناجم عنه وأنما في التهديد بإستخدامه. فهذا التهديد يمنح الدولة المالكة له تفوقأ عسكريا- سياسيا على سواها من غير المالكة له. ومن هنا، ينبع حرص ثمة دول على حيازته ولاسيما تلك التي تتطلع إلى أداء دور فاعل، سواء على الصعيد الغالمي أو الاقليمي..

وعليه، يمكن القول أن مشهد القطبية الدولية المتعددة هو المشهد الذي سيجمع أيضأ بين القوى النووية وتلك التي ستكون نووية لاحقا.

وتختلف الرؤى بشأن مخرجات هذا النمط من القطبية. فبينما يرى البعض، إنطلاقأ من تجربة التاريخ، إنها أفضت إلى عدم الإستقرار، يرى البعض الأخر إنها أقترنت بالإستقرار وعدمه في أن.

ونحن مع هذا الراي الأخير. فالعلاقات بين القوى الدولية المؤثرة، وسواها أيضا، لا تتأسس على مدخلات الصراع فقط، ولا على مدخلات التعاون فقط، وأنما تجمع بينهما بالضرورة. ولنتذكر، مثلا، تأرجح العلاقة الأمريكية- السوفيتية بين الصراع والتعاون خلال الحرب الباردة.

والسؤال ما المشهد الاكثر احتمالا والذي سيقترن به النظام السياسي الدولي في عام 2027؟

لقد عمدنا عبر ثلاثة مقالات معمقة إلى إستشراف مشاهد مستقبل الهيكلية الدولية للنظام السياسي الدولي في عام 2027، أي بعد عقد من الزمان ابتداءً من عام 2017. وقد تأسس هذا الإستشراف على ثلاث فرضيات لمضامينها علاقة بالمعطيات التي تفضي إلى تشكيل القطبية الأحادية، أوالثنائية، أوالمتعددة. وللبرهنة على هذه الفرضيات، تم الإنطلاق من تلك المتغيرات الداعمة لبلورة كل من هذه القطبيات،أو التي تعطل تحقيقها.

إن انتهاء الحرب الباردة أدى إلى سقوط مرحلة بالغة الخطورة في تاريخ السياسة الدولية وبدء مرحلة انتقالية جديدة تٌعد بمثابة الحد الفاصل بين هيكلية دولية اصبحت تنتمي إلى الماضي وأخرى بدأت تتبلور وتتكون على نحوٍ جديد تدريجيا..

إن إنهيار الإتحاد السوفيتي في عام 1991 شجع الولايات المتحدة الأمريكية، أي الطرف الآخر في المعادلة الدولية التي تميزت بها مرحلة الحرب الباردة، والتي اضحت بعد هذا الانهيارمعادلة غير متوازنة، على تسويق فكرة النظام الدولي الجديد. وبهذا التسويق أريد تحقيق الغاية النهائية للإستراتيجية الأمريكية، وهي الغاية التى سعى الي إنجازها كافة رؤساء الإدارة الأمريكية عبر أدوات متعددة تماثلت في مضامينها وكذلك اختلفت. وهي أمركة العالم بالمحصلة.

 وقد عُدت فكرة النظام الدولي الجديد بمثابة الأداة الجديدة للإستراتيجية الأمريكية في وقته. وتعبر الكلمات، التي تنطوي عليها هذه الفكرة، على تعبيرات ذات دلالات محددة. فبينما أريد بكلمة نظام إيجاد قواعد دولية آمرة تخضع لها كافة الدول، عدا صُناع هذه الإستراتيجية، أي الولايات المتحدة الأمريكية أريد بكلمة الدولي تأكيد مركزية الدوروالتأثير الأمريكي في السياسة الدولية. أما كلمة الجديد، فقد اريد بها تسويق النظام الإمبراطوري القديم بصيغة أمريكية جديدة.

صحيح أن مفهوم النظام الدولي الجديد لم يعد يستخدم من قبل صناع القرار الأمريكي، إلا أن عدم استخدامه لا يلغي استمرار تبني مضامينه وإن بصيغ مختلفة ومتجددة.

وعلى الرغم من أن أستمرار التأثير الأمريكي الفاعل في السياسة الدولية، خلال المرحلة الأنتقالية، ليس بمعزل عن مجمل مخرجات القدرة الأمريكية على الفعل الدولي الهادف والمؤثر. فهذه المخرجات هي التي جعلت الولايات المتحدة الأمريكية تتربع على قمة الهرم الدولي، وجعلت النظام السياسي الدولي يتمحور حول هيكلية قوامها القطب الواحد..

بيد أن التفرد الأمريكي بدأ مسيرة التآكل. فمخرجات تراكم تأثير ثمة إختلالات هيكلية مهمة في الجسد الأمريكي جعلت الدور الدولي الامريكي يتماهى مع تأثيرها السلبي. وتتفاعل هذه الإختلالات مع معطيات دولية تتجه إلى التبلورالسريع بمرور الزمان. وتكمن أبرز هذه المعطيات في واقع النمو المتسارع لقدرات قوى دولية، وجلها أسيوية وإنعكاساتها الإيجابية على دورها وتأثيرها الدولي.

إن إستمرار التأكل في التأثير الدولي الأمريكي متفاعلا مع استمرار نمو التأثير الدولي للقوى الأسيوية وسواها لن يضفي في عام 2027، بأرجحية عالية إلى ديمومة التربع الأمريكي على قمة الهرم الدولي، ومن ثم ديمومة مشهد القطب الدولي الواحد.

إن ما تقدم لا يعني أن الولايات المتحدة الأمريكية ستتحول إلى قوة دولية متوسطة التأثير. ومن هنا تضحي المقارنة بينها وحالة المملكة المتحدة بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، مقارنة غير موضوعية. فالولايات المتحدة الأمريكية ستبقى، وعلى الأرجح، جراء مخرحات نوعية قدراتها المؤثرة،قوة دولية فاعلة ومشاركة في بلورة المشاهد الأخرى لهيكلية النظام السياسي الدولي.

يتكرر القول أن المشهد المحتمل لهيكلية النظام السياسي الدولي بعد إنتهاء المرحلة الإنتقالية سيكون ثنائي الاقطاب وسيتمحورأساسا حول الولايات المتحدة الأمريكية والصين، هذا جراء إنفرادهما بقدرات متميزة اقتصاديا وعسكريا ومعرفيا-تقنيا وسواها وإن كانت متباينة ومن ثم بتأثير دولي يعبر عنها.

ومثل هذا القول لا تدعمه معطيات المرحلة الإنتقالية الراهنة. فهذه المعطيات تفيد أن توزيع القوة على الصعيد الدولي لا يقتصر على هاتين الدولتين، وأنما اضحى يمتد ليشمل غيرهما من الدول الغربية والآسيوية الكبرى المؤثرة.

إن هذا الواقع يؤسس لدائرتين: غربية وأسيوية تتميز كل منهما بتعدد القوى ذات التأثير المتباين في تفاعلاتها. فبينما تجمع الأولى الولايات المتحدة الأمريكية ودول الإتحاد الأوربي خصوصا تجمع الثانية الصين واليابان والهند خصوصا. وعليه، يمكن أن يؤدي هذا الواقع إلى تأسيس نظام سياسي دولي ثنائي القطبية يتميز بذات الخصائص التي تميز بها النظام السياسي الدولي خلال أعوام 1991 – 1947

وعلى الرغم من أن القوى الغربية وتلك الآسيوية ترتبط بعلاقات تعاون، إلا انها أيضا ترتبط بعلاقات تنافس و/أو صراع مع القطب الأكثر تأثيرا في كل من هاتين الدولتين : الولايات المتحدة بالنسبة للدائرة الأولى، والصين بالنسبة للثانية.

إن مخرجات تصاعد علاقات الصراع هذه لا تسمح لكل من هاتين الدائرتين أن تشكل قطبا منسجما يتحرك دوليا وفق رؤى موحدة ومصالح مشتركة، ومن ثم ضئيلة هي إحتمالية قدرة هاتين الدائرتين الدفع نحو بلورة مشهد القطبية الثنائية في عام 2027

 أن معطيات المرحلة الانتقالية الراهنة لا تسمح سواء للقطبية الإحادية أو الثنائية ان تتشكل وتتبلور. فإتجاهات هذه المعطيات تؤشر أن هذه الإنماط من القطبية لم تَعد تتماهى مع مخرجات عالم يتغير على نحوٍ جديد وبمعدل سرعة غير مسبوق ولا يقبل التراجع..

إن أقتران المرحلة الإنتقالية الراهنة بعدد من القوى الدولية الكبرى تتميز بتقارب قدراتها على الفعل،توافرها على ارادة الفعل وتحمل اكلافه، ومن ثم بتأثيرها الفاعل في محصلة التفاعلات الدولية، فضلا عن نزوعها إلى تحقيق مصالح محددة تدفع بها إلى التعاون و/أوالصراع، ومن ثم بعلاقات ثنائية و/أو متعددة تعبر عنهما.

 وجراء ذلك يُعد مرجحاً اقتران النظام السياسي الدولي في عام 2027 بمشهد الاقطاب المتعددة والهيكلية الدولية التي تعبر عنه.

*استاذ العلوم السياسية ودراسات المستقبلات