عندما تنشقّ العيون العربية على اللمح المضيئة

بروفسور  نسيم الخوري

غالباً ما توصم الأفكار الجريئة الصعبة التحقيق بالأفكار الخيالية. وقد يتناولها الكثيرون بأنّها نوع من الجنون أو الهرطقة المستحيلة، مع أنّ الكثير من الأفكار التي قلبت المفاهيم الكونية قد ولدت في عقول مسكونة بالشجاعة والطموحات النبيلة المستحيلة. لا مجال لتعدادها، بل من الضروري الإشارة إلى أهمّيتها، لربّما تحفّزنا إلى قتل خوفنا من بعضنا البعض ونتائجه التدميرية الكاملة لبلادنا بمعانيها الروحيّة والحضارية تحت مظلّة أن تكون وحدك صاحب الدين أو الخليفة أو الكلمة.

 صار العالم مسطّحاً،  »The world is Flat« وفقاً للكاتب توماس فريدمان الذي ذهب نحو الهند من جهة الشرق، بينما ذهب كريستوفر كولمبوس إليها من ناحية الغرب في عام 1492 عابراً الأطلسي في دورة نحو الجنوب والشرق حول إفريقيا ولتقنعه الرحلة بأنّ الأرض مستديرة. إنّ إيجاد كولومبوس لهذه الطريق المختصرة بحرياً حدث لأنّ القوى الإسلاميّة كانت تسدّ الطرق البريّة نحو الشرق. عمليّاً يمكن أن يكون قد أخطأ كولومبوس في حساب المسافة، وهو لم يكن يتوقّع عبوره كتلاً ضخمة من اليابسة قبل وهم الوصول إلى الهند، فسمّى الشعوب التي رآها في عالم أمريكا الجديد المكتشف هنوداً، وقال جازماً بكرويّة الأرض بالرغم من أنّه لم يصّل إلى الهند. قطعاً لا إذ لا يمكن للإرهابيين  »المسلمين« تجاوز الفيزياء التي تتجاوز أفكارهم وسلوكهم ودينهم.

ولو عدنا 21 قرناً نحو ما قاله سقراط لقرأنا له:  »يتراءى أمام عيني بعض الأشياء التي قد تكون خيالات مكلفة في نقد السلطة وهي تلقنني بعض الأمور لإرشاد البشرية«. كان هذا كلفياً للحكم عليه بتناول نبتة الشوكران أو البقدونس السام الذي تجرّع كأس عصيره بهدوء ثمناً لنطقه بالحقيقة،متّهماً بإفساد الشباب والإساءة إلى التقاليد الدينية، وخصوصاً أنه كانت لديه أفكاره الخياليّة الخاصة في الحكام الذين يجب ألاّ يكونوا من الذين يتم انتخابهم من الناس بل من الذين يعرفون كيفية التصرّف العادل والنزيه في أثناء الحكم.

قتلت الكنيسة كوبرنيكوس  (1473-1543)  منذ  500  سنة فقط لقوله بكرويّة الأرض ودورانها على ذاتها وحول الشمس، وجادل في تحدي الفكر الديني المسيحي منزلاً الأرض من عرشها المقدس كمركز للكون، ما انعكس بديهياً على مكانة الإنسان عامة والحكّام وسلطاتهم خاصة في هذا الكون، حيث صار الكائن العاقل عادياً مثل باقي الكائنات الأخرى الموجودة على كوكب صغير أو واحداً من بين مليارات المليارات من الكواكب يحتل موقعاً لا أهمية له في هذا الكون المرئي.

وقال غاليلو غاليله (1564-1642):  »يعلمنا الكتاب المقدس كيف نتّجه إلى السماء، لكنه لا يقول لنا كيف هي السماء وما حقيقتها«. وعرفت عنه مواجهاته الشهيرة مع سلطات الفاتيكان العليا إذ نبّه، في القرن الخامس عشر، مجابهاً المحقّقين بالإشارة إلى الهوة السحيقة التي تفصل بين علوم الدين المسيحي وعلم الفلك.كان يردع المجتهدين الراسخين في الدين بعدم تفسير نصوص الكتاب المقدس  »La Bible« في عهديه القديم والجديد على هواهم ووفقاً لمصالحهم وسلطاتهم الدنيوية على حساب الجهلة من المؤمنين والفقراء. وقعت أفكاره حول مسائل هي في قلب الخلافات الفكرية بين علماء الفلك والكنيسة الكاثوليكية.وأجبرته محاكم التفتيش أن يعلن ندمه وتراجعه عن فكرة مركزية الكون وحركة دوران الأرض حول الشمس، وبأنه على  »ضلال«، لكنّه أطلق عبارته الشهيرة في عمله  »حوار«:

  »ولكنها تدور e pur si move«..

وعندما نشر إسحق نيوتن (1642-1727) نظريته في تحليل النور وفي قانون الجاذبية العامّة أو الثقالة الكونية (La gravitation Universelle) سنة 1687 بسبب ألم أحدثته تفاحة وقعت فوق رأسه اتهمته الكنيسة فوراً، بالرغم من تدينه، بأنه مروّج شديد الخطورة للفكر الإلحادي، في حين أن نظريته شرحت ببساطة كلّية آلية حركة الأرض وباقي الأجرام السماوية وفقاً لقانون الجاذبية. ومن بعده أعلن ألبرت آينشتاين (1879-1955) عن إدراكه الكامل للخالق المتجلّى عبر الحركة الانسجاميّة الهائلة الموجودة المشروعة في أبسط أشياء العالم وحركيته، وليس برمي بؤس البشر وإخفاقاتهم وأخطائهم على الخالق المتدخل بكل صغيرة وكبيرة في حياتهم أوالمتحكم بمصيرهم بإقتصاص وسادية وعنف وحرائق لا تنتهي ولا مثيل لها حتى الوصول إلى زمن القيامة كما ورد في العهد القديم الذي دمغ الفكر البشري بصورة الجبّار الذي لا غاية له سوى تعذيب مخلوقاته. وطرح فكرة تداخل الزمان والمكان ومدى إرتباطهما عضوياً أو مدى تحول أحدهما للآخر، وهذا ما قاد العلماء في ما بعد إلى فكرة الانفجار العظيم (Big Bang) التي أدرجت كخطوط علمية لجغرافية الكون المرئي.

لماذا هذه الإشارات؟

للقول أنّ العلم يصارع العقل حتّى اليوم، باحثاً في الأسباب التي أدت إلى حدوث هذا الانفجار العظيم الذي أبقى على تلك الهندسة العظيمة غير المدركة من القدرة البشرية  ولهذا يجيب أي عالم لدى سؤاله عن إيمانه بسؤالٍ آخر هو:

 كيف تسأل أو تتحدّث أو تحكم أو تقتل أو تدين وتصلب وتفجّر بما لا تدركه ولا تفهمه ولا تحوقه ولا تعنيه. فالإيمان به لا يمنحك كإنسان الحق به.

هل تفتح تلك اللمح العين العربيّة للتفكير ولو للحظة عابرة مدى دوران العالم الإسلامي في عقود حافلة بالإخفاقات والتردد والخصومة والتناقض والتعثّر والإخفاقات والفشل والعقوبات والمحاصرة والمصالح والدماء والحروب القاسية مقابل أوهام النجاح الطفيف والتوازن والتنسيق والتفاهم المؤقّت والمراوحة والعلك والاستقرار النسبي والتشرذم والانقسام وهو ما يتجاوز الموت في تاريخ الموت في المجادلات الإسلامية والاتّهامات والتهديدات اللامتناهية في العالم المسطّح أمامنا مثل البساط؟.

أستاذ مشرف في المعهد العالي لشهادات الدكتوراه،

العدد 103 – نيسان 2020