المرأة الأندلسيّة (مرآة حضارة شعّت لحظة وتشظّت) الأستاذة الدكتورة دلال عبّاس

نسرين الرجب- لبنان

 الكتاب هو دراسة بحثيّة في أساسه، -رسالة دراساتٍ عليا نوقِشَت في العام 1979، وحالت الظروف دون طبعها في كتاب، حتى قرّرت الدكتورة الباحثة نشرها في كتاب العام 2019- وهو صادر عن شركة المطبوعات، صورة الغلاف لـ »رفيف صباح«، وتمثّل مجموعة من النساء يقمن بأعمال مختلفة، ألوان مضيئة زاهية تحمل طابع ذلك العصر.

حافَظت المؤلّفة على منهجية الكتاب الأكاديمية، فوظّفت المنهج التاريخي في استقراء وضع المرأة في العصر الأندلسي، إضافة إلى المنهج الوصفي والتحليلي في توصيف ما آلت إليه أحوالهن، وعمدت إلى تدعيمه بالوثائق والدلائل التي تتحدث عن حال المرأة سواء كان ذلك عبر الحديث عن نماذج من الجواري المؤثّرات في حياة الملوك والخلفاء وما يتمتعن به من المعارف المكتسبة وأساليب اللهو، أو قصص عن الشواعر وعن طبقة من النسوة الحرائر اللواتي تحدّين القوانين والعادات التي تُحتم عليهن أنماط معينة من السلوك.

 والكتاب يشكّل معينًا ومرجعًا وثيقًا للطلاب المهتمين بدراسة الحضارة الأندلسية لغناه بالمعلومات وبالمصادر والمراجع المهمّة عن ذلك العصر.

يقع الكتاب في 215 صفحة، وينقسم إلى ثلاثة أبواب: الباب الأول خُصّص للحديث عن المرأة في المجتمع الأندلسي وتباري الخلفاء وسُراة القوم في اقتناء الجواري،

الدكتورة دلال عبّاس

وتحّدثت عن دور المرأة في الحياة العامة وعن نفوذهن في العصور التي مرت فيها الحضارة الأندلسية، وقد تحدثت بإسهاب عن دور الجواري واللاتي كما يظهر كان لهن الدور الأبرز والأمثل في حياة الملوك وقيام الدويلات، وعن نفوذهن وعن المرأة المسيحية وحنينها لجذورها ومشاركتها في الحرب ضد المسلمين أثناء سقوط الحكم. في الباب الثاني تحدثت عن دور المرأة في الحياة الثقافية عمومًا فمنهن الكاتبات، والمعلمات، الطبيبات، والفقيهات.. وعن ظاهرة مدح النساء. الباب الثالث خُصِّص للحديث عن الخصائص العامة في شعر النساء، وضمّنته نبذاتٍ عن بعض الشواعر اللوتي ذاع صيتهن، على اختلاف المراحل والقرون من القرن الثالث حتى القرن السادس، عصر الموحدين وقسم من شواعر لم تُحدد الحقبة التي عشن فيها، وفي الختام تحدثت عن أثر الأندلسيّة في المجتمع العربي، وكيف نقلت معالم من التقاليد والعادات والثقافة من الحضارة الأندلسيّة إلى الغرب وفي الشعر وفي العادات والأزياء ونمط العيش.

النساء نصف المجتمع وأًمهات النصف الآخر

تنطلق المؤلفة من رؤيتها للمَرأة المِرآة، فالنساء –كما تقول- نصف المجتمع وأمهات النصف الآخر، والمرأة مرآة تنعكس على صفحتها صورة المجتمع. فالمرأة الأندلسية كانت نتاج تمازج حضارتيْ الشرق والغرب مع ما يتبع ذلك من اختلاف في المعتقدات والهويات، ومن شؤون تعظيم المرأة أنه كان الرجل يكتني بها…

حال المرأة الأندلسية كان يختلف باختلاف الطبقة الاجتماعية، والاقتصادية التي تنتمي إليها، فهناك طبقة الحرائر وطبقة الجواري.

في طبقة الحرائر كان هناك: الحرة العامية، والتي كانت تعمل وتكدح لتعين زوجها، فالعلاقة قائمة على التعاون، عملت في الغزل وفي غسل الثياب لقاء أجر، ماشطة، نائحة، معلمة..

والحرة الأرستقراطية، المرأة المنعّمة المُخدّرة، متاعا من الأمتعة التي يمتلكها الرجل،  »كانت النساء ينتظرن بعض المناسبات التي تتيح لهن الخروج بفارغ الصبر« لم تكن مضطرة للعمل، وهي المتزينة التي تقوم بأعمال السحر لتحظى بحب زوجها، مثلت هذه صورة المرأة الضعيفة القابلة للغواية، الكائدة، يحفظن في بيوتهن. صدرت الكثير من الأحكام التشريعية التي ترسخ مبدأ اللامساواة. كان القانون يتشدد في معاقبة الحرائر ويتغافل في معاقبة الجواري، وهذا لم يمنع الكثير من النساء الحرائر من التمرد والمواجهة ومنهن ولادة بنت المستكفي.

 تذكر الدكتورة بأن الحجاب لم يكن واجبًا ملزمًا بين نساء الطبقة العامة على عكس ذلك عند الأرستقراطيات، فابن حزم يقرن بين غلظة الحجاب وعلو المنصب، ومن الطريف أن الحرّة إذا كشفت عن وجهها تدّعي أنها مملوكة كي لا تؤاخذ على فعلتها. ومن ذلك قصة  »خلوة والشاعر هارون« التي خاطبته من غير حجاب في السوق وادّعت أنها مملوكة، وعندما اكتشف أنها أخت صديقه، كفّ عن الافتتان بها.

تستنج الدكتورة من هنا كيف أن الشاعر لم يستسغ في الحرة ما يرضاه في الجارية، وهي نظرة انفصامية، ما زال صداها يتردد حتى اليوم ولو تغيرت المسميّات.

الطبقة الثانية من النساء، هنّ الجواري جواري الخدمة وجواري المتعة، وقد تبارى الخلفاء على اقتنائهن، أسعارهن المرتفعة والذي يفوق دخل أي شخص من عامة الشعب، (نساء حاذقات وبارعات الجمال، يتكلمن غير العربية ويلبسن على طريقة النصرانيات) (كانت تشترى وتباع من دون حساب لمشاعرها).

ثُقفت الجواري بمختلف العلوم، الأدب والشعر. وإنه لأمر مثير للإعجاب لو كُنّ حُرات ولم يكن الغاية من ذلك أن تُعجب سيّدها، وأن تستحوذ على عقله اللاهي وفكره الشهواني الذي دفعه لبذل الأموال والعتاد من مُدخّرات الشعب لنيل رضا الحسناوات المُشتَريات، واللواتي بلغن من الكيد جراء شعورهن بالنقص أن وظفن نفوذهن للسيطرة على الحكم، وقد وصل الأمر بكثيرات إلى تدبير مؤامرة قتل الزوج أو قتل أبنائه من أخرى كما في قصة عائشة الحرة:

وهي ابنة السلطان أبي عبدالله الأيسر تزوجت من ابن عمها السلطان أبا الحسن علي بن سعد النصري، ولكن زوجها فضّل عليها الثريا الرومية النصرانية والتي أُخذت أسيرة في بعض المعارك، وأُلحقت وصيفة بقصر الحمراء واعتنقت الإسلام، هام بها الأمير أبو الحسن فتزوجها واصطفاها على زوجته عائشة التي عرفت بالحرّة تمييزًا لها من الجارية الرومية. كانت الثريا من الكيد بحيث وظّفت نفوذها لإبعاد ضرتها وأولادها عن الحكم حتى أقصى الأمير عائشة وولديها وأمر باعتقالهم في برج قمارش وعاملهم بأشدّ القسوة، هذا وغرناطة على وشك السقوط، عمدت الأميرة عائشة للاتصال بأنصارها واستطاعت الهرب مع ولديها بمعاونة بعض الأصدقاء المخلصين، -ولقصة هربها حكاية ذكرت الدكتورة بعض تفاصيلها- وقد اختفت مع ولديها حينًا إلى أن قويَت دعوتهم وانضم إليهم كثير من أهل غرناطة، وثاروا على السلطان بتحريض من أبي عبدالله وأمه عائشة، آخر الحكّام في إسبانيا الإسلامية وهو من سلم مفاتيح قصر الحمراء يوم سقطت غرناطة إلى الإفرنجة، وبه صاحت أمه وهو سارح ببصره يبكي ملكه الضائع:  »أجل فلتبكِ كالنساء، ملكًا لم تستطع أن تدافع عنه كالرجال«.

أفردت الدكتورة الباحثة في فصول بحثها الحديث عن شخصيات وأسماء وقصص نساء كان لهن الدور البارز في المجالات المتعددة، فهي شاركت في إقامة العمران فبنين المقابر الجوامِع والمستشفيات من أموالهن الخاصة. والعلم كان متاحًا وكان مسموحًا في أوساط البنات والنساء. وكان منهن المعلمات كمثال:  »غلبونة مولاة أبي المطرق« التي كانت تحفظ كتابيْ النوادر لأبي علي القالي وكتاب الكامل للمبرد، ومنهن من أنشأن المدارس كولادة بنت المستكفي التي أُجيزت بالإفتاء والتدريس، ومنهم من كُنّ يستدعين لللتعليم في قصور الأمراء. ومنهن الكاتبات والشاعرات والطبيبات والمتخصّصات في أمراض النساء، والفقيهات، والحافظات، وكان يرفع قنديلًا فوق بيت كل واحدة منهن في الليل إشارة إلى أنّها حافظة، تتحدث الدكتورة في هذا الموقف المقارن عن وضع النساء العربيّات في المشرق واللواتي فقدن بعد عصر الخلافة الراشدة الحقوق التي منحهن إياها الإسلام، لأنّ العلاقات الاجتماعيّة باتت خليطًا من الفهم القشري للدين، على عكس ما حدث في الأندلس حيث الفهم الخاص للدين لدى الفقهاء، وحيث امتزاج العادات والتقاليد البربرية، وعادات سكان الأندلس الأصليين.

 الشاعرات الأندلسيات

مرّ الشعر الأندلسي بمراحل فهو كان صدى خافتا للشعر المشرقي، وعن الخصائص العامة لشعر النساء تتحدث الدكتورة هنا عن دور المؤرخين في حفظ المادة الشعرية، فبعض المؤرخين الذين ألفوا كتبًا بعد انهيار الأندلس لم يذكروا في مصنفاتهم شواعر مطلقا ورأوا أن الصحف تنزّه عن ذكر النساء. وبعضهم ذكر مقاطع وأجزاء من مصنفات الشواعر.

أفردت الدكتورة الباحثة في مؤلّفها الحديث عن الشواعر الأندلسيات اللواتي ذكرهن المؤرخين، واللاتي برعن في الكثير من المواضيع الشعرية، ومنهن من اتّخذ من الشعر صنعة للتكسّب أمثال  »حسانة التميمية«، ومنهن من برعن في الهجاء، حيث كان للنساء حرية القول، وقد سيطرت الجواري على دنيا الغزل، بسبب الحدود الصارمة التي قيدت نساء الأشراف في منزلة خاصة حيث لا يُتطاول عليهن.

تذكر الدكتورة ظاهرة مدح النساء في عصر الطوائف والمرابطين في القرن الخامس والحادي عشر الهجري، حيث قوي الشعور باحترام المرأة، ومن هؤلاء الأعمى التطيلي في مدحه  »للحرّة حواء« يرى أنّها  »لا ينقص التأنيث من قدرها ولا من قيمتها…« وهي شاعرة وأديبة كانت تحاضر بمجلس الشعراء والكتاب.

نساء حرائر تمردن على القيود الصارمة، وحسرن الحجاب، وأقمن مجالس الأدب، وقلن الشعر فوصفن الخلوات والوصال والانسجام والحب الحسي ومنهن  »ولادة بنت المستكفي« حيث تناولت الدكتورة نبذات من سيرتها، ضمنتها بعض من شعرها المتنوّع المضامين.

ومن شعرها:  »لو كنت تنصف في الهوى ما بيننا/ لم تهوَ جارتي ولم تتخيرِ / وتركت غصنًا مثمرًا بجماله/ وجنحت للغصن الذي لم يثمر….«.

تشظّى نور المرأة الأندلسية على مراحل متتالية من عهد الحضارة الأندلسية، إلى أن خفت مع سقوط الأندلس، وتمازج شيء من أثره مع قيام حضارة الغرب، فقد قاصين السبي،  »وحُملن أبكارا إلى القسنطينة«، أحد الملوك عندما جاءه من يفتدي بإحدى الوجوه قال له في جملة ما قال:  »… حسبما كان قومها يصنعون بنسائنا نحن أيام دولتهم. وقد ردّت لنا الكرّة…«. منهن من شاركن في الثورة على المسلمين، ومنهن من تنصرن كزائدة زوجة المأمون بن المعتمد بن عباد بعد أن تزوجت ألفونسو ملك قشتالة.

تقول الدكتورة في مقدمة كتابها:  » ليس التاريخ هو الذي يعيد نفسه، بل البشر أنفسهم وإن تغيّرت سحنهم وأزياؤهم وأسنّتهم«. وانطلاقًا من قولها أن عصر الجواري لم ينتهِ توضّح الدكتورة الفاضلة في سياق البحث صلة الموضوع بتفكك الأندلس وضياع مجدها. وما أشبه اليوم بالأمس في ظل حكام ورؤساء دول يعيشون في لهو وبذخ وعامة الشعب يعاني من التقتير وسوء التقدير، وحيث كثير من النساء اللواتي لم يعرفن من الحرية والحضارة إلا قشرتها.

العدد 103 – نيسان 2020